بعد مضي عام تقريباً على استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية، كتب هنري ستيمسون، الذي كان يشغل منصب وزير الحربية الأميركية خلال الحرب، مقالاً في مجلة "هاربرز" شرح فيه الأسباب والاعتبارات التي دفعت ادارة هاري ترومان الى هذا العمل. كان من أهم هذه الأسباب، من وجهة نظر ستيمسون، هو حفاظ اليابان على قوة عسكرية كافية لانزال خسائر كبرى بالقوات الأميركية تصل الى حدود مليون جندي أميركي. أيد ونستون تشرشل، رئيس الحكومة البريطانية هذه الأرقام وأضاف اليها نصف مليون بريطاني كانوا سيقضون خلال الانزال الحليف في الجزر اليابانية في تقديره، لو لم تستخدم واشنطن القنبلة الذرية ضد اليابان. علاوة على ذلك، قال تشرشل ان استمرار القتال كان كفيلاً بفناء القوات اليابانية ومقتل كل محارب فيها آخذاً بعين الاعتبار استعداد اليابانيين للقتال حتى الموت الهاراكيري. من هنا اعتبر تشرشل ان القرار الأميركي بتدمير هيروشيما وناغازاكي، كان جديراً بموافقة اليابانيين الضمنية لأنه سيحفظ شرفهم وكرامتهم وحياتهم، اذ يجعلهم مضطرين للاستسلام امام سلاح خارق للطبيعة، بدلاً من الاستمرار في القتال حتى الموت أو التعرض لذل الاستسلام في وجه قوة محاربة عادية! هذه النظرة هي الأكثر انتشاراً في الوعي العام وفي الكتب التي تتحدث عن الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تكن النظرة الوحيدة اذ كانت هناك مواقف وتقديرات اخرى حيال قصف اليابان بالقنبلة الذرية. هناك من عارض هذا العمل، مثل الجنرال مارشال، لأنه يتعارض مع الرغبة في احلال السلام الدائم بين الأمم. وهناك من أدان هذا القرار من منطلق اخلاقي باعتباره "… تطبيقاً لمعايير اخلاقية تعود الى برابرة العصور الوسطى". كما فعل الأدميرال الأميركي وليام ليهاي. اضافة الى هؤلاء انتقد الكثيرون هذا القرار لأنه كان مبنياً على معطيات مضللة وتحليلات بعيدة عن الصواب. من هؤلاء هانسون بولدوين، الكاتب الأميركي الذي برهن في كتابه "أخطاء كبرى في الحرب"، على ان اليابان لم تكن تشكل خطراً على القوات الأميركية المحاربة في البحار المحيطة باليابان وعلى انها كانت مستعدة لتوقيع معاهدة الاستسلام، وان واشنطن لم تكن في حاجة لمحو مدينتين يابانيتين لانهاء الحرب ولانقاذ حياة الوف الجنود الأميركيين. لقد ضاعت وجهة النظر الثانية لأن "التاريخ يكتبه الأقوياء" كما يقال، الا ان هذا لا يعني انها كانت خاطئة. فما رمت اليه كان صحيحاً طالما ان الحروب لا تلجم، بالضرورة، منطق القوة. هذا المنطق يحول المنتصرين الى منتقمين يضعون بلادهم على سكة شائكة. هؤلاء لا يعتبرون الانتصار مدخلاً الى السلام بل الى فتح المزيد من الجبهات واجتراح الجديد من الأعداء. على هذا الطريق يدفع صقور السياسة الأميركية بلادهم اليوم عندما يسعون الى احياء الحرب الباردة مع خصوم أقل قوة من الاتحاد السوفياتي السابق، ولكن ليسوا أقل خطورة منه، في تقديرهم، على الأمن الأميركي. هذه الأوساط كانت تصر على ان كوبا تشكل خطراً كبيراً على الولاياتالمتحدة، وعلى ان هافانا تملك أسلحة دمار شامل كيماوية وبيولوجية تهدد أمن الأميركيين وحياتهم. هذه الصورة وضعت على المحك عندما فرغت وكالة الاستخبارات الاميركية المركزية قبل أسبوعين من اعداد تقرير عن كوبا نفت فيه تلك الانطباعات. وقالت الوكالة في تقريرها ان القوات الكوبية مهيأة للدفاع عن الجزيرة وليس للهجوم على أحد. حتى اذا كانت هذه القوات معدة للهجوم فإنها، بحسب ما جاء في التقرير، تفتقر الى الأسلحة الحدىثة والى قطع الغيار والنفط مما يجعلها عاجزة عن ان تكون مصدر خطر على القوات الأميركية. اما أسلحة الدمار الشامل فلم يجد واضعو التقرير ما يثبت امتلاك كوبا لها. هذا التقرير اثار ردة فعل غاضبة في الأوساط الصقورية الأميركية، وكان موضع انتقادات من قبل السناتور جيسي هيلمز رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي. ذلك ان السناتور الأميركي في صياغة قانون بيرتون - هيلمز الذي يدعو الى تشديد الحصار على كوبا عن طريق فرض العقوبات والمقاطعة على الشركات والدول التي تتعامل مع هافانا، تجاوباً مع السناتور هيلمز ومع انصاره في الكونغرس الأميركي، سيعقد وليم كوهن، وزير الدفاع الأميركي، اجتماعات مع مسؤولي البنتاغون "لتصحيح" التقرير الاستخباري. النسخة المصححة للتقرير ستسعى الى اقناع الرأي العام الأميركي والدولي، مجدداً، بضرورة محاصرة كوبا ومقاطعتها بحجة انها لا تزال تشكل خطراً داهماً على القارة الأميركية ومن ثم على السلام العالمي. الخطر الكوبي لا يعادل بل لا يفوقه، في نظر الأوساط الأميركية الصقورية، الا الخطر العراقي. العراقيون يملكون انتاج أسلحة الدمار الشامل، وهم لديهم القاعدة العلمية والبشرية لانتاج أخطر أنواع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، مثل الأنثراكس، كما يؤكد المسؤولون الأميركيون وبعض المسؤولين الدوليين. ولتقريب هذه الأخطار الانثراكس الى المواطن العادي قيل في تقرير رسمي أميركي انه اذا اسقطت طائرة تطير فوق واشنطن مئة كلغ من الانثراكس فوق العاصمة الأميركية، فإن عدد ضحايا هذا السلاح سيراوح بين مليون وثلاثة ملايين قتيل. هذه الأرقام جديرة بأن تثير الهلع بين الأميركيين ومن ثم بأن تدفعهم الى تأييد أي تدبير وقائي أو تأديبي ضد بغداد. ولكن هل يشكل العراق، فعلاً، مثل هذا الخطر على الأمن الأميركي؟ كلا، يقول مارتن فان كريفيلد، الكاتب والمؤرخ الحربي الذي يعمل في الجامعة العبرية في تل أبيب، في مقال كتبه لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية 14/3/1998. ففي تقديره ان "أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق والبنية التحتية الضرورية لانتاجها هي أقل خطورة بكثير مما يصور". اضافة الى ذلك فإنه من الضروري، في رأي كريفيلد، التمييز بين نوعين من أسلحة الدمار الشامل: الأسلحة النووية، من جهة، والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، من جهة اخرى. الأولى قادرة على تدمير مدن بأكملها، كما بينت تجربتا هيروشيما وناغازاكي، خلال دقائق، أما الثانية فإنها تلحق أضراراً فادحة بأعداد كبيرة من المواطنين ولكنها لا تمحو المدن والبلدان من الخرائط. هذا يجعل مالكي النوع الثاني من السلاح، ومنهم القيادة العراقية، يفكرون مراراً قبل استخدامها ضد الولاياتالمتحدة، التي تستطيع تدمير بلادهم اذا حاولوا استخدام الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية ضد المدن أو القوات الأميركية. لهذه الأسباب فإن العراق لا يشكل، في نظر فان كريفيلد، خطراً على الولاياتالمتحدة ولا حتى على جيرانه الاقليميين، وصانعو القرار الأميركي يعرفون هذه الحقيقة، كما يقول المؤرخ، ولكنهم يصرون، رغم ذلك، على الايحاء بعكسها وعلى تضخيم قوة العراقيين وذلك كمبرر لاضفاء مشروعية على السياسة الأميركية المتبعة ضد العراق. عندما عارض فريق من الأميركيين استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان، فإنهم لم يكونوا يخشون الأذى الذي ستلحقه باليابانيين الابرياء، أو من آثارها السلبية على السلام العالمي فحسب، وانما أيضاً من أضرارها على المجتمع الأميركي نفسه. ذلك ان الذين يستسهلون التضحية بحياة الآخرين، قد لا يصعب عليهم في نهاية المطاف مطالبة ابناء بلدهم بتضحيات تطال نمط حياتهم ونسق القيم التي يعتنقونها مقابل الحفاظ على الأمن المهدد. تعبيراً عن هذا الموقف، كتب ريتشارد بتز، مدير دراسات الأمن القومي في مجلس العلاقات الخارجية، مجلة "فورين افيرز" كانون الثاني/ يناير 1998 يحذر من خطر الأسلحة البيولوجية والكيماوية التي لم تعد تهدد القوات الأميركية والمراكز الاستراتيجية، مثلما كان الأمر مع الأسلحة النووية. ولكن المدن الأميركية والأميركيين العاديين، لكي يخلص الى القول بأن بعض التدابير الفعالة لحماية المدن الأميركية منها ربما "تشكل تحدياً لتقاليد الحريات المدنية". ان هذه التدابير قد تضطر السلطات الأميركية، في حالات استثنائية، الى معاملة "العرب - الأميركيين كما فعلت باليابانيين - الأميركيين بعد بيرل هاربر عندما حشروا في معسكرات الاعتقال". هذا أفضل في نظره من تعريض حياة الملاييين من الأميركيين الى الأخطار. البرنامج الذي يقترحه بيتز لحماية المدن الأميركية من أخطار الأسلحة البيولوجية والكيماوية لم يطبق، ولكن أهميته تكمن في ما أوضحه هو في مقاله. أي انه اذا كانت الادارة الأميركية متأكدة من صحة هذه الأخطار، فإن ما يقترحه لا يعدو ان يكون نتيجة منطقية لهذا التقييم هذا اذا شاءت واشنطن توفير الحماية للأميركيين. واذا استمر الزعماء الأميركيون في تضخيم الأخطار الخارجية في أعين المواطنين، فإنهم قد يجدون أنفسهم يسيرون على طريق وعرة اذ ان هناك صلة سببية بين تضخيم الأخطار الخارجية وبين الانتقاص من التقاليد الليبرالية في الداخل. ولئن كان تسليط الأنظار على العرب - الأميركيين كمصدر لخطر محتمل على الولاياتالمتحدة يعفي الأميركيين غير العرب من الشعور بالقلق على حرياتهم، فإن هذا الشعور في غير محله. ذلك ان تحريض الرأي العام ضد الأخطار الخارجية وضد الأقليات التي تعمل كپ"طابور خامس" هو أسلوب قديم استخدمه مناهضو النظم الليبرالية في المجتمعات الغربية من اجل استبدالها بأنظم العسف والتعصب. ونجح هذا الأسلوب عندما سكتت عنه بل ماشته قيادات الأكثرية الديموقراطية في تلك المجتمعات لكي تجد نفسها والرأي العام الذي يتبعها فريسة له في النهاية.