إذ ألقى أعضاء اقباط بارزون في مجلس الشورى المصري بيانات في جلسة للمجلس، اكدت رفض مشروع القانون الاميركي، مع التشديد على وحدة المسلمين والاقباط في مواجهة التدخلات الخارجية، كما حرص عدد من الاقباط البارزين في عالم الفكر والصحافة والعمل العام على نشر خلاصة حوارات اجروها مع مسؤولين في السفارة الاميركية في القاهرة في الشهور القليلة الماضية، بعد إلحاح من مسؤولي تلك السفارة، تضمنت رفضهم للقانون الاميركي او اي صيغة للتدخل الخارجي تحت زعم حمايتهم مما يتعرضون له من "اضطهاد" لا وجود له الا في مخيلات مريضة لا تعرف الواقع المصري. وكم كانت سعادة الكثيرين بما اعلنه وفد مجلس الكنائس في نيويورك الذي زار مصر بدعوة من الرئيس مبارك وقابل من اراد من الاقباط والمسلمين وذهب الى حيث شاء من اماكن من دون ترتيب مسبق او اي تدخل حكومي، ثم أعلن في نيويورك انه لا يوجد اضطهاد للاقباط في مصر، وان ما يقال في هذا الشأن في وسائل الاعلام الاميركية فيه الكثير من المغالطات والبعد عن الحقيقة، وان الوفد لمس في مصر مجتمعاً متسامحاً ليت المجتمع الاميركي يحاكي ما فيه من تسامح. واشار الوفد الى مشكلتين "صغيرتين" تتعلقان بترميم الكنائس وبنائها، ووضع الديانة في بطاقة الهوية الشخصية، ما يراه البعض يعني قدراً من التمييز. وما يمكن استخلاصه من مضمون التقرير الذي انتهى اليه الوفد الاميركي هو ان هناك مشاكل عادية تفرضها طبيعة الحياة المشتركة في وطن واحد، وان تلك المشاكل قابلة للحل عبر الحوار والاخذ والعطاء، وان لا شبهة في وجود دور حكومي مبرمج ومخطط للتمييز بين الاقباط والمسلمين، ولعل هذه الخلاصة ثلجت صدور الكثيرين باعتبار انها جاءت بمثابة "شهادة شاهد من اهله" ورداً قوياً على كل ما يدعيه "الاتحاد القبطي العالمي" الذي يرأسه احد الاقباط المهاجرين منذ 30 عاماً في شأن اضطهاد الاقباط في مصر، وذلك رغم تحفظ العديد من الاقباط والمسلمين في حينه على مهمة الوفد اصلاً، باعتبارها تدخل في خانة قريبة من مهمات لجان تقصي الحقائق الدولية عما يجري في الداخل. اذاً فالقضية محل الحوار ليست بسيطة وهي تمس واحداً من اعصاب المجتمع المصري. وهي ليست المرة الاولى في العصر الحديث التي تعمد فيها قوى خارجية الى محاولة توظيف احداث هنا او هناك او بعض مشاكل تفرضها الحياة اليومية في بلد كبير العدد لإحداث شروخ في بنية المجتمع وصولاً لاختراقه والنفاذ الى شرايينه المختلفة، والضغط عليه في اتجاه او آخر، وتحلو لكثير من الرموز المصرية - قبطية ومسلمة معاً - في معرض التأكيد على خيبة مثل هذه المحاولات التي بذلتها قوى خارجية، الاشارة الى تجربة الاستعمار الانكليزي في مصر وفشله في إثارة العداء والصراع بين الاقباط والمسلمين كما حدث مطلع هذا القرن، وهو ما جسدته عبارة المعتمد البريطاني اللورد كليرن في كتابه الذي حمل تجربته الشخصية وتجربة السنوات الاولى للاحتلال البريطاني لمصر: "لم اجد في مصر فرقاً بين مسلم ومسيحي، الا ان احدهما يذهب الى مسجد والآخر يذهب الى كنيسة". ويبدو المشهد الذي ظهر في احد افلام ثلاثية الكاتب نجيب محفوظ لثورة 1919، حيث يخرج الشيخ والقس معاً ومن ورائهما حشود من المصريين لمواجهة جنود الاحتلال البريطاني، كأحد ابرز المشاهد المعبرة - فنياً وسياسياً - عن المعنى الذي يصر عليه مسلمو مصر واقباطها لجهة الوحدة الوطنية التي افشلت مسعى الاحتلال البريطاني وستفشل ايضا مسعى التدخل الاميركي. والقضية المثارة يمكن تحديدها من خلال طرح عدد من الاسئلة المتشابكة من قبيل: هل هناك قضية قبطية في مصر؟ وهل هناك اضطهاد ضد الاقباط المصريين؟ ولماذا نشأت هذه القضية في هذا التوقيت بالذات؟ وماذا سيفعل المصريون اذا اقرّ الكونغرس الاميركي مشروع القانون المتعلق "بحماية الاقليات الدينية"، متضمناً مصر كبلد يضطهد "اقليته القبطية"، وما هي دلالة الادعاءات التي استطاع تمريرها الاتحاد القبطي العالمي، الذي تحركه جماعة من اقباط المهجر في اروقة الكونغرس الاميركي. هذه الاسئلة التي تتداخل مع بعضها البعض تمثل جوهر موضوع النقاش الدائر. والواضح من الحوار الدائر ان الرموز القبطية الدينية والمدنية يقدمون اجابات عن الاسئلة المطروحة على نحو ينفي تماماً وجود اضطهاد سواء بالمعنى اللغوي العام او بالمعنى السياسي اي المخطط والمبرمج كما يروّج لذلك بعض اقباط المهجر. ونقطة البداية في تلك الاجابات القبطية ان الاقباط لا يمثلون اقلية بالمعنى المتداول في الدراسات الاجتماعية والسكانية، فهم جزء عضوي من المجتمع المصري، وبالتالي فإن القول بوجود قضية قبطية ناتجة عن وجود اقلية واقعة تحت ضغط اكثرية، ليست صحيحة ولا وجود لها بالمرة. وما دامت لا توجد علاقات حاكمة بين اقلية واكثرية فبالتالي ليس هناك اضطهاد. هذه الاجابة الاولى والجوهرية تتلوها اجابات اخرى تفصيلية على النحو الآتي: - ان الاقباط في الداخل والغالبية من اقباط المهجر يرفضون تماما أي تدخل في الشؤون المصرية، ويرفضون استغلال اي طرف خارجي لبعض المشاكل القائمة التي تفرضها الحياة المشتركة تحت سقف وطن واحد في ممارسة اي ضغط او تدخل خارجي، ومن ثم فهم يرفضون القانون الاميركي قيد التشريع، ويرون انه يستهدف الوحدة الوطنية المصرية وممارسة الضغوط على الحكومة المصرية لتحقيق مصالح اميركية بالاساس. - ان "اتحاد الاقباط العالمي" لا يمثل سوى اقلية من اقباط المهجر، وهو معزول عن الغالبية القبطية المصرية في الخارج، ولا يمثلون بأي حال اقباط مصر في الداخل وليس لديهم تفويض في الحديث عنهم في اي مشكلة مع طرف خارجي. وان ما يقوم به هذا الاتحاد فيه من التحريض والمبالغة الكثير، وبما يحقق مصالح قوى صهيونية اميركية واسرائيلية تعمل على إغراق مصر في مشاكل دينية للنيل من تماسكها الداخلي ودورها الاقليمي. - ان وجود مشاكل صغيرة كانت او كبيرة لا حل له الا في الداخل وعبر الحوار بين طرفي الامة المصرية ومن دون وسيط او استعانة بقوة خارجية. - ان الحملة التي يقودها بعض اقباط المهجر تستهدف ايضا الدور الوطني للكنيسة المصرية وعلى رأسها البابا شنودة الذي يرفض اي تطبيع مع اسرائيل ويمنع زيارة القدس إلا بعد تسوية كل القضايا المتعلقة في شأنها، ويلتزم موقف الاغلبية المصرية قبطية ومسلمة معاً. - ان المصريين والمسلمين هم أبناء حضارة واحدة، ولا توجد فروق بينهم من قبيل العرق او الدم او الشكل، والفارق الوحيد هو ممارسة شعائر دينية سماوية، كل منها يعترف بالآخر ويحترمه. - ان الحكومة لا تألو جهداً في مواجهة الجماعات المتطرفة التي وجهت السلاح والارهاب ضد المسلمين والاقباط معاً، وان ما تفعله الحكومة في هذا السياق هو لحماية المجتمع كله من دون تمييز بين مسلميه او اقباطه. - انه لا تمييز بين المسلمين والاقباط في الترقي او نيل الوظائف العالية،. وان المستثمرين الاقباط يحصلون على الفرص نفسها. هذه المضامين الايجابية التي تعبر عنها رموز قبطية دينية ومدنية الى جانب رموز مسلمة، تعبر في الواقع عن واحدة من الحقائق البارزة في الحياة السياسية المصرية، انها حقيقة وجود إجماع وطني حول تماسك عنصري الامة والزود عنها، غير ان الامر يستدعي احياناً النظر الى القضية من زاوية اخرى ليس من قبيل التشكك ولكن من قبيل الفحص والتدقيق واستخلاص العبر والدروس المطلوبة لعلها تفيد في اي تحرك مستقبلي. فإذا كان "اتحاد الاقباط العالمي"، وهو المعزول عن غالبية اقباط المهجر الذين يؤمون كنائس تتبع مباشرة الكنيسة الام في مصر، فلماذا لم تتحرك هذه الكنائس في المهجر لمراجعة الدعايات وعمليات التحريض التي يوقم بها "اتحاد الاقباط العالمي" منذ ما يزيد عن 25 عاماً؟ بعبارة اخرى لماذا لم تكن هناك جهود منظمة تحت رعاية الكنيسة المصرية لمواجهة هذه المغالطات والاكاذيب؟.. وبعيداً عن اسباب القصور في الماضي فلماذا لا يتم التفكير في خطة منهجية تتولاها الكنيسة الام والكنائس التابعة لها في المهجر للحد من تأثير اتحاد الاقباط العالمي، والعمل على محاصرته سواء في داخل الولاياتالمتحدة او في البلدان الاوروبية الاخرى. اتصور ان الامر بحاجة ماسة وسريعة الى خطة عمل وتحرك ملموس. الامر الثاني لا يخص فقط قضية القانون الاميركي قيد التشريع حول الاضطهاد الديني، ولكنه يتعلق بقضية اكبر، انها دور الحكومة المصرية وتكتيكاتها في متابعة القضايا المتعلقة بالعلاقة مع الولاياتالمتحدة، والواضح ان هناك قصوراً ما في هذا الصدد يحتاج الى تفكير عميق واجراءات سريعة وناجزة. فالعلاقات مع الولاياتالمتحدة هي بكل المقاييس استراتيجية، وليس هناك اي فائدة من التفكير في تحويلها الى علاقة تصادم، ومن ثم فإن العمل على تنميتها في اطار الحفاظ على المصالح المصرية مسألة مفروغ منها، والسؤال كيف يتم تحقيق هذا الهدف من دون الاخذ في الاعتبار ان الجهد الحكومي وحده اياً كان مداه لا يكفي، ولا يستطيع ان يكون قناة التأثير الوحيدة في السياسات الاميركية المتعلقة بالقضايا المصرية الخالصة وما يرتبط بها من قضايا عربية؟ اتصور ان اتاحة الفرصة لآليات شعبية مصرية حرة تمارس دوراً مباشراً في عملية صنع السياسة الاميركية المتعلقة بالقضايا المصرية باتت مسألة مطلوبة بشدة. واذا كان رجال الاعمال بالتنسيق مع الحكومة قاموا في غضون الشهرين الماضيين بعملية طرق ابواب للمؤسسات والشركات الاميركية لإقناعها بالاستثمار في مصر، ففي ظني ان حماية الوحدة الوطنية المصرية والتماسك الداخلي مسألة اكثر اهمية بكثير وتحتاج الى اكثر من بعثة. الامر الثالث يرتبط بما سبق، ويتعلق بما اثاره البعض بتشكيل لجنة قبطية تسافر الى الولاياتالمتحدة لشرح حقائق الاوضاع القبطية في مصر ولإقناع القائمين على امر قانون الحريات الدينية بعدم التعرض الى مصر. والدعوة طيبة، وتبدو مطلوبة بشدة، ولكنها وحدها لا تكفي، فالامر بحاجة الى سياسة طويلة النفس تؤكد مصالحنا واستغلال الفرص التي يتيحها النظام السياسي الاميركي والذي يعطي لجماعات الضغط "الشعبية" فرصة ممارسة تأثير على عملية صنع السياسات والقرارات والتشريعات. ونحن سواء في مصر او في البلدان العربية الاخرى لا نولي بالاً لهذه الفرص، وكأن فيها الشر كله وهي ليست كذلك، ويكفي ان نلقي نظرة على ما تقوم به جماعات الضغط الاميركية المختلفة بما في ذلك المرتبطة ببلدان خارجية وما تحققه من مكاسب. وباختصار، فإن تكاملاً حركياً في اتجاه الخارج وبخاصة الولاياتالمتحدة ومؤساستها التشريعية يجمع بين الكنيسة المصرية وقيادتها الروحية التي تحظى باحترام المصريين، والحكومة والمنظمات الشعبية والحزبية والرموز الدينية والمدنية القبطية والاسلامية، بات مسألة لا غنى عنها، وإلا سيكون المردود قاسياً على الجميع.