إنه خطأ شائع نقع فيه جميعاً حين نتحدث عن دور الدولة، ونحن في الواقع نعني دور الحكومة. فالدولة ترمز الى الحكومة والشعب معاً، ولا ترمز ابداً الى أي واحد منهما على حدة، بل هي تشملهما معاً متلاحمين لا متلاحقين. والدولة حين تنشأ إنما يكون ذلك بارادة الشعب، وهو الذي يختار الارض التي تنشأ عليها، وهو الذي يختار الحكومة التي تحكم هذه الارض بما عليها ومن عليها. على الاقل هكذا يجب أن يكون الحال ولو نظريا. ورغم أن الدولة تضم الحكومة والشعب معاً الا أن هناك بين الحكومات والشعوب مسافات تختلف تقارباً وتباعداً باختلاف ظروف كل دولة. هذه المسافات عادة ما تقوم في الدول المتقدمة لكنها تزداد اتساعاً بازدياد درجات التخلف، وهذه المسافات هي التي تقيس درجات الثقة المتبادلة بين الحكومات والشعوب في تلك الدول. ففي دول العالم الثالث، هناك داخل كل شعب شريحة تبتعد عن الحكومة عمداً وشريحة اخرى تقترب من الحكومة عمداً ايضاً. الذين يبتعدون عن الحكومة تتملكهم ازاءها حالة من الرهبة تدفعهم الى الرغبة في الابتعاد عن الشر المتمثل في السلطان وذوي الجاه، وهذا هو شأن القاعدة العريضة من الناس. اما الشريحة التي تتعمد الاقتراب من الحكومة فهي إنما تفعل ذلك بدافع النفعية وقضاء المصالح والانتهازية واغتنام الفرص وجني الثمار وتحصيل المكاسب والاحتماء من اذى صاحب السلطان. والحكومة تعاني من هذين النوعين على حد سواء، تعاني من الانتهازيين وتعاني من الزاهدين، تعاني من الفريق المتزلف او المتقرب او المداهن، وتعاني من الفريق المتهيب أو المتعفف ممن لا يتعاونون معها عادة، ولا يقتنعون بها او بسياساتها وهم معروفون حتى بعدم رغبتهم في الاقتناع. فالحكومة في مثل دول العالم الثالث غالبا ما لا تتزحزح عن رأيها، بل تتمسك بحقها في فرض ما تريده على الناس بالرضا او بالاكراه، وتتوقع دائما ان يمتثل الناس لما تريد تنفيذه من سياسات هي مقتنعة بوجاهتها وضرورتها بغض النظر عن رأي اولئك المخالف لرأيها. وبذلك تنشأ بين الطرفين فجوة وجفوة، كما تنشأ الحاجة الملحة إلى ضرورة البحث عن حل أو ربما حلول. وكثيرا ما يكمن الحل في إدراك انه لا يمكن لأي حكومة أن تحقق لكل الناس كل شيء في كل وقت وفي أي وقت، وأنه لكي تنجح اي سياسة حكومية في مجالات بعينها لا بد لهذه السياسة أن تستلهم عادات الناس وطباعهم وسلوكياتهم. وفضلا عن ذلك لا بد أيضاً من أن يتم تنفيذ السياسات على مراحل وبجرعات متتالية تتناسب مع قدرة الناس على امتصاص هذه السياسات واستيعابها والاقتناع بها، بل الانتفاع بها ايضا. كل هذه المسائل اصبحت اجدر من اي وقت مضى بالعناية والاهتمام من جانب الحكومة والشعب معاً، باعتبار ما نراه حولنا اليوم من زحف شبه مقدس في اتجاه "العولمة" أو "الكوكبة" التي يتصور البعض ان التعامل معها هو مسؤولية الحكومة وحدها، وهو تصور غير صحيح إلا في الحالات التي تتعمد الحكومة فيها إقصاء الناس عنها بالاهمال أو التنفير أو التهوين من الآراء التي يتقدم الناس بها الى الحكومة. مثل هذا الإقصاء سوف يضع الحكومة في عزلة ظاهرها القوة والاعتزاز، وباطنها الهوان على الناس والهوان على الدول الاخرى، والهوان على المنظمات الدولية لأنها سوف تجد نفسها امام الداخل والخارج وحيدة يتعين عليها في النهاية أن تخضع لكل ما يقال لها وأن تقبل كل ما يحل بها وما ينزل عليها من اوامر أو كوارث. من هنا تتضح الحكمة من استخدام كلمة الدولة ودور الدولة في كل ما نتعامل معه من أمور اقتصادية او اجتماعية او سياسية، فلا الحكومة وحدها تستطيع، ولا الشعب وحده يستطيع، ولكن الدولة حكومة وشعباً هي الجميع. فالعولمة ليست مهمة حكومية، والخصخصة ليست مهمة حكومية، وكل السياسات ليست ولا يصح ان تكون مهمة حكومية. فكل شيء في كل دولة هو مسؤولية كل الناس، والدولة هي كل الناس.هكذا يصبح الحديث عن دور الدولة في كل شيء مشروعاً بشرط ان ندرك أننا لا نعني بذلك دور الحكومة وحدها ولا دور الشعب وحده، ولكن دورهما معا. فالدولة هي الشعب وهي الحكومة جنبا الى جنب، بالتلاصق، لا بالتلاحق.