تجري فوق مياه الخليج الهادئة ظواهر سياسية واجتماعية لافتة للنظر. لعل أبرزها تلك العاصفة التي مرت بالوضع السياسي في الكويت، ابان الأزمة بين العراق والأمم المتحدة وبعدها، والتي أفرزت في ما أفرزت استقالة الحكومة الكويتية وتعيين حكومة جديدة. وعلى الصعيد الاعلامي فقد تمثلت تلك الظواهر في ظهور وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم، على شاشة قناة "الجزيرة" القطرية واستقباله ليس فقط الأسئلة الصعبة من مقدم البرنامج وانما ايضاً الأسئلة الأصعب من الجمهور العام من خلال الاتصالات التليفونية المفتوحة، وهي سابقة لم يتعود عليها المشاهد العربي من قبل. هذه الظواهر وغيرها هي مظهر لمخبر، وهي دليل على ان تيارات التغيير المتلاحقة ليست وقفاً على المعنى الظاهري ولكنها تغوص في بنيته ايضاً. لقد شهدت سنوات التسعينات مظاهر من التغيير في الخليج تنبئ بأنها مجرد ارهاصات لتغيرات أكثر سرعة وأشد حدة سنقابلها في المستقبل. وما الأزمة الكويتية السياسية او المحاولة القطرية للعب دور "المعارضة" من داخل مجلس التعاون إلا مظهران من المظاهر العديدة في التغيير البادي للسياسات العامة في الخليج. لقد تم ذلك في وقت تيقن فيه الجميع، على الأقل في الخليج، بأن هناك مشكلة حقيقية تواجه التنمية في المنطقة. وهي انهيار أسعار النفط في الأسواق الدولية، وما أحدثه ذلك حتى الآن من ضغوط على الميزانيات العامة لهذه الدول، التي ستؤثر بدورها في النسيج الاجتماعي والحركة السياسية مستقبلاً على الصعيدين الداخلي والخارجي. ويمكن القول ان منطقة الخليج، وهي تتقدم الى مشارف القرن الواحد والعشرين، تودع عصراً من دون ان تدرك كيف تستقبل عصراً آخر. تودع عصر النفط، وتقف مندهشة في استقبال عصر العولمة. والمراقب المنصف يرى ان التوديع والاستقبال لم يهيأ لهما التهيئة الصحيحة بعد، وإن كانت هناك ارهاصات لهذا الاستقبال تمكن قراءتها في الأمثلة السابقة. خارجياً تكمن المشكلة الأولى في تأخر القراءة العربية الصحيحة للمتغيرات. ومن المؤسف ان المنطقة العربية لا تزال تعتقد ان هناك فائضاً مالياً لا يزال راقداً في خزائن الدول النفطية، ومن هذا الفائض يمكن تقديم معونات او مساعدات او حتى قروض لتمويل مشروعات التنمية العربية في الدول ذات الحاجة. هذه الفرضية التي استمرت على مدى من العقود الزمنية في الماضي كانت صحيحة، حتى جاء الاحتلال العراقي للكويت في مطلع التسعينات، وما تلاه من أعباء عسكرية وسياسية على دول الخليج ليقلصها بسبب موضوعي. ثم جاء انخفاض أسعار النفط السريع بعد ذلك ليحقق عجزاً مستمراً في ميزانيات الدول العربية الخليجية المنتجة الى درجة ان أحد الثقاة المطلعين على الأرقام قال قبل أشهر في اجتماع أكاديمي يبحث الموضوع: "ستصعقون اذا عرفتم ما هي الأرقام الحقيقة في حوزة وزراء المال الخليجيين اليوم"، وهو يقصد الاشارة الى ندرة الأموال لا الى وفرتها. بعض البلدان الخليجية الأقل حظاً في تدفق النفط يعاني شهرياً من عدم قدرته على الوفاء بدفع مرتبات موظفيه، اما الدول الأخرى فإنها تصارع أرقام العجز المالي كل ربع عام على أبعد تقدير. هذه التراكمات قضت على الأمل الباقي لامكان الاستمرار في تمويل بعض المشاريع التنموية في الدول العربية ذات الكثافة السكانية، التي كانت تعتمد على قروض مريحة وهبات لا ترد من الدول المنتجة للنفط. وإذا كان الأمر كذلك فإن الصورة التي استمرت لعقود بين العرب وهي ان هناك "عرب نفط، خصوصاً الخليجيين، وعرباً غير نفطيين" آن لها ان تتغير. ويعرف مثلي، كما يعرف الكثيرون من الذين يداومون على قراءة العقل العربي، ان هذه النظرة تحتاج الى وقت طويل لتتغير. ان فهم هذا التغير الاقتصادي العميق سيؤدي في المدى المتوسط الى قلب الفهم الخاطئ الذي ساد فترة طويلة من الزمن بين العرب، عندما قسموا أنفسهم الى اغنياء وفقراء بسبب النفط، وتراكمت على هذه الصورة المقلوبة نظرات ومواقف عدائية غير مبررة سادت ليس بين الفرقاء الأبعد وانما أثرت في الانتلجنسيا من أبناء منطقة الخليج انفسهم. وتظهر هذه التشجنات بشكل بارز في الأزمات الحادة، مثل ما مر بنا منذ قيام الثورة الايرانية واحتلال العراق للكويت والأزمات السياسية الخانقة التي تلت ذلك. وعلى رغم ان النفط، خصوصاً الخليجي منه، هو الثروة الطبيعية العربية الوحيدة، او هو احدى الثروات الطبيعية العربية القليلة التي شارك فيها العرب من شرقهم الى غربهم بنسبة او بأخرى، إما عن طريق صناديق التنمية العربية التي شهدت المنطقة انتشاراً لها منذ الستينات، او عن طريق المساعدات والهبات والقروض المالية المباشرة، او عن طريق تدفق العمالة العربية على دول الخليج او اشتراك القطاع الخاص العربي في التنمية، فإنها الأقل شكراً، فقد ألقينا جميعاً تبعات الكثير من المصائب السياسية والاجتماعية التي مررنا بها على النفط وكأنها ليست من صنع أيدينا وكأن النفط المحرك الوحيد لهذه التفاعلات. لا يشك عاقل ان النفط ايضاً حقق لنا الكثير من سبل التنمية، وقد قلت مرة ان النفط محايد مثله مثل أشياء كثيرة أخرى في الحياة، يعتمد فعله او عدم فعله على من يقوم بتحريك قدراته من البشر، ولكن بيت القصيد الآن ان هذا النفط وأهله، إن صح التعبير، يودعون عصره الذهبي، وينعون للعرب كافة موت قدرته على الفعل. وما المحاولات لرفع سعره إلا محاولات لإنقاذ ما يمكن انقاذه، وهي على كل حال محاولات قد ترفع الأسعار موقتاً، اما تدهور الأسعار في المديين المتوسط والبعيد فلا مناص منه. لا بد اذن من التحول الى التفكير الجاد حول الحقائق التي نواجهها مهما بلغت درجة مرارتها. والحقائق تقول لنا ان التنمية الحقيقية مسؤولية مشتركة بين الناس والنظم على حد سواء، وليست بالقطع مسؤولية مصدر الثروة الطبيعية التي يعرف الجميع منذ ان جاءت انها ذاهبة. داخل الدول الخليجية الأمر أصعب، إذ تعود الجيل الذي يشب عن الطوق في الخليج اليوم على الرفاهية التي صنعها النفط، وهو جيل ليس كسابقه الذي يودع، وقد خبر شظف العيش وشدته، ولكنه الجيل - إن صح التعبير - ذو "الملعقة الذهبية"، الذي يواجه وهو يكاد يدخل معترك الحياة بحقيقة تفاجئه مفادها ان كلفة دولة الرفاه المطلوبة هي أكثر بكثير مما في خزائنه، ويواجه ايضاً حقيقة ان ملائكية الآباء الكبار الذين وجهوا الادارة وتحكموا فيها قد تركوا مواقعهم لجيل وسط لا يتمتع على أقل تقدير بسمعة "زوجة قيصر"، فأصبحت أمامهم معادلة صعبة الحل، مطالب متعاظمة للاستمرار في تمويل دولة الرفاه من جهة، ومصادر تمويل متسارعة النضوب. وبين هذين المطلبين اللحوحين هوة غير واضحة يختفي فيها الكثير من الموارد للجيوب الخاصة. وأمام هذه المعادلة المستحيلة تقف الأجيال الجديدة في الادارة مشدوهة، وتقف التدفقات الضخمة من المواطنين المؤهلين الذين تلفظهم كل عام الجامعات والمعاهد والمدارس الى سوق عمل محدود القدرات وضيق الاستيعاب. كل هذا يفرز التشنجات السياسية المشاهدة، كما يفرز محاولات جادة لاستنباط الحلول. وزير التخطيط والتنمية الادارية الكويتي السابق، وهو كخلفه رجل قدير ومتمكن من جيل الاداريين الجدد، قال في الأيام الأولى لتسلمه الحقيبة الوزارية قبل سنتين: "وداعاً لدولة الرفاه". ولم يترك السياسيون في البرلمان هذا التصريح المقتضب بل ناقشوه بغضب ورفضوه بعنف، مسايرة للتمنيات والوعود التي بذلوها للناخبين. فقد رفض بعضهم ان يرى الشمس في عز الظهر، محملين الأفراد بدلاً من الواقع ما يمكن ان تؤول اليه الحال. وعندما وجد هؤلاء السياسيون ان الطرق قد سدّت أمامهم في وضع تصور لتنمية حقيقية ومستدامة تحتاج الى المصارحة وتحمل الأعباء، لجأ البعض منهم الى قضايا جانبية مثل ما عرف بأزمة "الكتب الممنوعة" في الكويت لترحيل الحكومة. ولكن المعضلة لا تزال باقية وهي محاولة الاجابة عن هذا التساؤل المقلق: كيف يمكن الحفاظ على السويّة العالية من دولة الرفاه في زمن تتراجع فيه بقوة الايرادات التقليدية؟ وهو سؤال مطروح على الجميع في الخليج ولكنه يظل سبّاقاً في الكويت لما توافر لها من فضاءات محمية للتشاور والمناقشة والعمل السياسي من بينها مجلس الأمة الكويتي. العصر الذي يودع فيه الخليج عصر النفط، يولجنا الى عصر نستقبله هو عصر العولمة، وهو عصر له أدواته، كما ان له شروطه الموضوعية، عصر يبعدنا عن عصر المواصلات الى عصر الاتصالات، عصر يستوجب المشاركة والتنافس والسوق المفتوحة وحقوق الانسان والمساواة الاجتماعية. وهو عصر بعد ذلك وقبله يربطنا بالعالم في مرحلة تتعدى القطرية والقومية، عصر العلم والثقافة، هذا العصر الذي ندخل، يدخله بعضنا بتردد وخوف على الهوية وقلق على عدم القدرة على المنافسة. ولكننا في كل الأحوال يجب ان نكفّ عن رثاء العصر الذي مضى وأن نتحلى بالشجاعة لنواجه كل نذر المستقبل.