تشعر بوتيرة الحياة في الغرب متسارعة متجددة متفاعلة مع الحياة، تعيش الحدث العالمي وكأنه في عقر دارها، وزيارة بريطانيا لا تخلو عادة من فائدة، ففيها مجسّات تمكّنك من استقراء توجهات سياسية وعلمية واقتصادية واجتماعية قارية وعالمية، من خلال ما يكتب وما يخطط وما تمتلئ به جامعاتها، ومن خلال هذا الكم الواسع المتنوع من المقيمين فيها، وفي لندن يصدق قول الشاعر "فما يُفهِم الحدّاث الا التراجمُ". ويظهر ان العربيّ فيها لم يعد "غريب الوجه واليد واللسان" بسبب مئات الألوف من المقيمين الهاربين من جحيم "الحريات العامة" في بلدانهم، بالاضافة الى مئات اخرى من العالم الاسلامي يشكلون جزراً منتشرة في طول البلاد وعرضها، وينشرون معهم عادات وتقاليد وأزياء ومساجد ومنتديات ومظاهر شرقية كثيرة. والزيارة هذه جاءت تلبية لدعوة كريمة من "جمعية الطلبة المسلمين" MSS التي عقدت مؤتمرها السادس والثلاثين تحت عنوان "مستقبل الاسلام في القرن المقبل" بجامعة سالفورد في مدينة مانشستر، وللجمعية تاريخ حافل في خدمة ابناء الجالية، وقد تأسست بتداعٍ عفوي من مجموعة من الطلبة الوافدين من مختلف اقطار العالم العربي الى بريطانيا وإيرلندا منذ أربعة عقود تقريباً، فكانت بذلك استجابة لحاجة هؤلاء الشباب الذين شعروا بالغربة في بلد كان كل ما فيه جديد عليهم، وكل ما حولهم بعيد عن اجواء مجتمعاتهم الهادئة الرتيبة المتلمّسة طريق التحرر او التقدم او الاستقرار. واقتصرت برامج الجمعية MSS في البداية على تلبية الاحتياجات الضرورية للطالب الوافد المقيم اقامة موقتة، كتوفير عناوين محلات اللحم الحلال، وتحديد اوقات وأماكن اقامة صلاة الجمعة والعيدين، والاجابة بقدر الاستطاعة على الاستفتاءات الشرعية، ثم تطور عملها للاهتمام بأبناء الطلبة وتعليمهم العربية ومبادئ الاسلام في مدارس "نهاية الاسبوع"، ثم طورت علاقاتها مع الجالية المقيمة ومعظمها من شبه القارة الهندية. ومع استقرار بعض الطلبة، وازدياد عدد المسلمين بالولادة والهجرة المضطردة، كبرت الاعباء والتكاليف الملقاة على عاتق الجمعية والقائمين عليها. لقد أقامت "الجمعية" - بأموال التبرعات القليلة - بالاضافة الى مراكزها في الجامعات، عدداً من المراكز الاسلامية في جل المدن البريطانية الرئيسة عملت في مجال الدعوة والتربية والتعليم وإقامة الشعائر، وواظبت سنوياً على عقد مؤتمر شتوي، وإقامة مخيم صيفي، ينشطان في مجال المحاضرة والتوجيه والحوار وبعض الانشطة الفنية والرياضية، وشكلا ساحة مهمة من ساحات اللقاء الفكري والانسجام النفسي والعمل التوعوي، ومرا كما تمرّ كل النشاطات البشرية بفترات عالية الانتاج وأخرى متواضعة، ساهم فيها ظروف العالم الاسلامي وتطورات الاحداث الدولية. وشهد النصف الثاني من عقد السبعينات ومطلع عقد الثمانينات الغزو السوفياتي لأفغانستان، ثم اعلان الجمهورية الاسلامية في إيران، فالغزو الاسرائيلي للبنان وانفجار براكين الغضب في وجهه، فاندلاع الانتفاضة الفلسطينية، فشكلت تلك المرحلة التاريخية فترة الذروة في النشاطات الاسلامية العامة في بريطانيا، وشهدت مؤتمرات "جمعية الطلبة المسلمين" وتجمعاتها الفكرية والاعلامية نجاحات طيبة وإقبالاً متزايداً، ولكنه ضاعف في الوقت نفسه مهماتها، فهناك اعداد متزايدة من الطلبة والمقيمين واللاجئين السياسيين، المحتاجين الى مزيد من المراكز الاسلامية والعناية باللغة وإقامة الشعائر، وهناك البريطاني القلق من تنامي تيارات العمل الاسلامي حوله، وهو يبحث عن محاور معتدل مقبول يمثّل هذه التيارات ويشكل جسر تفاهم بينه وبينها. ولم تعد تحديات "الجمعية" محصورة فقط في مواجهة ما يبثه الاعلام الغربي عن الاسلام والعالم الاسلامي، ولا في المسؤوليات المطلوبة منها تجاه المستوطنين وأبناء الجيل الثاني، وتلبية احتياجاتهم الدينية الضرورية، وإنما تعدى ذلك الى مواجهة تحدّ داخلي تمثل في اغراق الساحة بتجمعات شللية ترفع شعارات غير مدروسة، وتتحرك بشكل يستفزّ كلاً من الدول العربية والمؤسسات الاسلامية البريطانية، والمجتمع البريطاني المتخوف اصلاً، وكان على "الجمعية" كما على غيرها من المؤسسات المعتدلة الهادفة ان تجيب عن ذلك كله دون ان تنجرّ الى معارك هامشية وصراعات قاتلة داخل الجسد الواحد يؤدي الى تضييع الاهداف الرئيسة التي أسست من أجلها. وكان لتجربة الخرّيجين المنتسبين والعاملين مع "الجمعية" في مرحلتهم "البريطانية" اكبر الأثر في تكوين شخصياتهم، وفهمهم للأمور، وإدارتهم لمواقعهم السياسية والوظيفية والمهنية، وإدراكهم لأبعاد العلاقات الغربية - الاسلامية، ولقد كان للجمعية دور واضح وعميق في ارتباطهم الوثيق بهموم وآمال امتهم وبلدانهم وتوعيتهم منذ بداية الطريق بالمسؤوليات المنوطة بهم وبالأمانة التي على عاتقهم تجاه الدين والوطن، وقد برز بينهم عدد كبير ممن تسنّموا مناصب قيادية في مختلف مجالات العمل السياسي والاداري والأكاديمي في بلدانهم. وغصّت مدرجات قاعة المحاضرات الرئيسة بالحضور الذين تابعوا باهتمام رجال الفكر والقلم، وساهموا في اثراء النقاش بمداخلاتهم وأسئلتهم الهادفة، وغطى البرنامج الفكري عددا من المواضيع الاستراتيجية المهمة، كاستشراف مستقبل العالم الاسلامي مقارنة بالتطور التقني الغربي، ومفاهيم الوسطية والتطرف وآلياتهما وضوابطهما، والاعجاز العلمي للقرآن الكريم، وواقع الحريات السياسية في العالم الاسلامي، بالاضافة الى المواضيع الفقهية التقليدية التي تفرض نفسها في مثل هذه اللقاءات. وشهدت اروقة المؤتمر مداخلات ومناظرات لم تنقصها الجرأة بين المحاضرين وقيادات الجمعية وبعض وجوه الجالية، تناولت مستقبل الوجود الاسلامي في الغرب عموماً وفي بريطانيا على وجه الخصوص، وركّزت على كيفية توظيف وجود الجالية الاسلامية وطاقاتها لرسم صورة صحيحة عن الاسلام وللمساهمة في خدمة قضايا العالم الاسلامي وبلدان الانتشار - التي اصبحت وطناً ومستقراً - في آن، ودارت الافكار المطروحة في معظمها على مواضيع "الغربة" و"التوطين" و"العزلة" و"التمايز" و"الذوبان" و"الولاء"، وجرت المقارنة في اغلب الاحيان مع الجاليات الاخرى التي حققت نجاحات ملموسة وساهمت في تطويع سياسات بلدان الاقامة لمصلحة سياسات بلدانهم، وكان لتجربة الجاليات اليهودية حصة الأسد في مثل هذه المقارنات. وقد انعقد المؤتمر الطلابي الاسلامي في جامعة سالفورد الغربية تحت ظلال شرقية ثقيلة بسبب العلاقة المتوترة بين الولاياتالمتحدة الاميركية والعراق، والتي دفعت الجميع الى الترقب، كما اعادت تشطير الجالية امام مطلب اتخاذ موقف واضح وصريح مما يجري، ففي احدى الجهتين هناك الشعب العراقي الذي يعاني من الحصار الطويل، وفي الجهة المقابلة هناك النظام الفردي الذي تسبب في اكثر من مأساة، وأشعل اكثر من حرب في المنطقة، والمسلم المغترب ما زال مرتبطاً بهموم بلده الأم، فهناك العراقي القلق على اهله تحت الحصار وتهديدات الحرب، وهناك الخليجي الذي يراقب بتوجس ما ستسفر عنه المفاوضات بين الأممالمتحدة وبغداد، ويخشى ان يدفع فاتورة الحرب كما دفعها من قبل، ويظهر أن اجواء التوتر لا تترك لك فرصة التوسط بين الموقفين، فأنت إما مع وإما ضد، ولا يهم عند المتخوفين ان تتضح الرؤية لديك، ولا يهم ان تعمل على تقريب وجهات النظر، فالصدع اكبر من ان تقف فيه على الحياد او في الوسط، والتحليل المنطقي يسقط امام جرح نازف يومي، وتخوّف ميداني ماثل للعيان. وبالاضافة الى هذا، اعادت محاور النقاش المتعلقة بالمستقبل والعولمة والوسطية والحريات، فتح الجروح النازفة في الجسد الاسلامي، وقد استمع الحضور الى رسالة صوتية من الشيخ احمد ياسين بعدما اعاقت السلطات الاسرائيلية حضوره شخصياً، وحاوره المشاركون على الهاتف مباشرة، وفتح الشيخ سجل المعاناة الفلسطينية وتفتيت العالم العربي، وأعاد الى الاذهان تاريخاً طويلاً من المواجهة والمرابطة، وكانت كلمته الهادئة أبعد اثراً في قلوب مستمعيه من قنابل اسرائيل الحارقة في فلسطين وعلى الجنوب اللبناني. واستمع الحضور في مستهل جلساته الى مقارنة بالأرقام بين واقع العالم الاسلامي في ميدان البحث العلمي والانتاج الصناعي واستغلال الثروات والأمية والوضع الصحي وبين ما هو قائم في العالم اليهومسيحي Judeo-Christian، كما يسميه الصهاينة، كما استمع لاحقاً الى مأساة الحريات العامة في خضم الصراع النكد بين بعض الانظمة والتنظيمات. وأتاح المؤتمر فرصة مشتركة بين العلماء المحاضرين وجمهور الطلبة الجامعيين لإجراء مزيد من القراءة الهادئة، التي لم تخلُ من الانفعال العاطفي بسبب مؤثرات المواقع الجغرافية، والضغوط السياسية المشرقية، ولكنه يبقى محاولة متجددة لتلمّس الطريق. ومثل هذه المؤتمرات قد لا تقوى على حلّ مشاكلنا المعقدة، ولكنها بلا شك خطوة مطلوبة - في الشرق والغرب - على طريق الاستشراف والتلاقي وتنمية كثير من الايجابيات الضائعة في خضم الجدل البيزنطي والعجز المفتعل.