أوردت وسائل الاعلام أخيراً خبراً حول انقطاع الكهرباء في مدينة أوكلاند، أكبر مدن نيوزيلندا، منذ التاسع عشر من شباط فبراير الماضي. ومنذ ذلك الحين تعيش المدينة، التي يسكنها نحو مليون شخص، تحت رحمة الظلمة. ولا تتوقع عودة التيار الكهربائي الى وضعه الطبيعي قبل مضي نحو عشرة أسابيع. وقد يتبادر الى الذهن للوهلة الأولى ان انقطاع التيار يعود الى كوارث طبيعية كالعواصف او الرياح او الهزات الأرضية، إلا ان السبب هو عدم قيام شركة الكهرباء الخاصة وهي شركة "ميركوري انرجي" Mercury Energy باجراء أعمال الصيانة على خطوط التوتر العالي التي تزود المدينة الكهرباء. وكانت الشركة اشترت مصلحة كهرباء المدينة عام 1992. ومذذاك لم تجر اية أعمال تذكر على صعيد صيانة الخطوط المذكورة وباقي أجزاء شبكة الكهرباء وتطويرها لتكون قادرة على تزويد المدينة حاجاتها المتزايدة من هذه الطاقة. وانصب اهتمامها على تحقيق المزيد من الربح، والربح الفاجر فقط. ومن أجل ذلك، سرحت نصف العاملين لديها بمن فيهم الفريق المسؤول عن أعمال الصيانة. لذا ستضطر الشركة هذه الأيام الى استقدام فريق عمل استرالي من أصحاب الخبرة للقيام بهذه الأعمال. نورد هذا المثال للتدليل على عملية تخصيص من النوع الشديد الرداءة او من ذلك الذي ينطوي على ممارسة نوع من العهر الاقتصادي إذا صح التعبير. فشركة "ميركوري انرجي" اشترت مؤسسة كهرباء لمدينة يتجاوز سكانها المليون نسمة، كما لو انها اشترت محلاً تجارياً لبيع مادة غير ضرورية، متناسية ان الكهرباء سلعة حيوية في عالم اليوم. ومن المستغرب انه لم ترد أية أخبار عن اجراءات لمحاسبة الشركة على استهتارها بمتطلبات العمل في هذا القطاع المهم. إذ يبدو ان الصفقة الخاصة ببيع مؤسسة الكهرباء أعطت الشركة حقوقاً غير مبررة على حساب الواجبات الضرورية لضمان توفير الكهرباء، كما لم تلزمها باجراء أعمال الصيانة والتطوير الدورية للشبكة. وشهد العالم خلال الأعوام الماضية عمليات تخصيص لا تقل سوءاً. ففي المانياالشرقية سابقاً، على سبيل المثال، بيعت غالبية المؤسسات الاقتصادية الحكومية للقطاع الخاص في فترة لم تتجاوز خمسة أعوام. وكان الجزء الأكبر من عقود البيع من نصيب الشركات الالمانية الغربية. وتمت العقود بشكل أساسي على أساس التزام المالكين الجدد استمرارية نشاط هذه المؤسسات وتحديثها والاحتفاظ بپ60 الى 70 في المئة من العاملين فيها. لكن هؤلاء قاموا باغلاق غالبية هذه المؤسسات بعد فترة قصيرة من شرائها تحت حجج مختلفة، من بينها ان عمليات التحديث غير اقتصادية، إذ تنطوي على خسائر لا يمكن تحملها بسبب عدم وجود طلب على سلع هذه المؤسسات وخدماتها. إلا ان الوقائع اثبتت ان هؤلاء وسعوا شركاتهم في المانيا الغربية وبلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى لانتاج مثل هذه السلع والخدمات لتغطية حاجات السوق في المانياالشرقية سابقاً. وكانت النتيجة تسريح مئات الآلاف من العمال والموظفين وتراجع مستوى الانتاج. ولم تنفع النداءات الحكومية وتهديدات السلطات باللجوء الى المحاكم في التخفيف من ذلك. إذ تبين ان عقود البيع لم تحدد بشكل واضح الآلية التي ينبغي اتباعها لاجبار المالكين الجدد على القيام بما التزموا به، كما تبين ان غالبية هذه العقود تمت في ظل القيام بعمليات رشاوى طالت أعلى المسؤولين في الهيئة الحكومية التي تم تشكيلها لتخصيص المؤسسات العامة في المانياالشرقية سابقاً. تتناقض الأمثلة التي أوردناها مع مبادئ التخصيص التي ازداد زخمها بعد انهيار بلدان المعسكر الاشتراكي سابقاً أواخر الثمانينات. إذ ان التخصيص ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحسين اداء الاقتصاد الوطني لبلد ما من خلال بيع المؤسسات العامة او جزء منها بسبب ضعف فاعليتها قياسياً الى الامكانات المتاحة لها. ولا شك في ان الذين يتابعون دعوات التخصيص التي تنادي بها المؤسسات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي يجدون ان هذه الدعوات تقوم على أساس ان تخصيص المؤسسات العامة سيؤدي أو يجب ان يؤدي الى تحسين كفاءة المؤسسات المعنية من خلال تحسين جودة الانتاج وزيادة الانتاجية وخلق المزيد من فرص العمل على صعيد مختلف القطاعات الاقتصادية. وعليه فإن عمليات التخصيص التي تتم لغير ذلك تصبح موضع شبهات لأنه لا مبرر لها من الناحية الاقتصادية ناهيك عن الناحية الاجتماعية. لذا يتطلب التخصيص تقدير الآثار الاقتصادية والاجتماعية على المديين القريب والبعيد، وما ينطوي عليه ذلك من تفريق بين المؤسسات التي يتم عرضها للبيع. إذ ان بيع مؤسسات الكهرباء او الاتصالات مثلاً يختلف عن بيع مؤسسات أخرى كالفنادق والمنتجعات السياحية والمؤسسات الصغيرة. فالأولى تقدم خدمات تشمل جميع المواطنين فيما تنحصر خدمات الثانية بأعداد قليلة منهم، كما ان خدمات المؤسسات الأولى لا يمكن الاستغناء عنها فيما تمكن الاستعاضة بخدمات المؤسسات الأخرى. وعليه فإن عقود البيع او التأجير الخاصة بالمؤسسات الحيوية للاقتصاد الوطني ينبغي ان تحدد الضوابط الكفيلة لاستمرارية خدمات هذه المؤسسات بأسعار معقولة وبنوعية جيدة. ويمكن لهذه الضوابط ان لا تشمل فقط دفع الغرامات والتعويضات وانما ايضاً الغاء العقود في حالة الاخلال بها بشكل ينطوي على عدم تحمل المسؤولية بالشكل المطلوب. التخصيص في البلدان العربية كثير من البلدان العربية مقبل على عمليات تخصيص للعديد من مؤسساته العامة. وعلى هذه البلدان الافادة من تجارب بيع مؤسسات القطاع العام في بلدان أخرى خصوصاً بلدان المعسكر الاشتراكي سابقاً.وينبغي درس هذه التجارب واستخلاص العبر منها بغية تجنب آثارها الضارة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. فالقطاع الخاص في بلداننا ليس أقل حباً بالربح وهرولة وراءه من أمثاله في البلدان الأخرى. ومن هنا لا ينبغي المناداة بتقليل أرباحه من خلال التخصيص، وانما بعدم تمكينه من تحصيلها بالطرق غير المشروعة كالرشاوى والتحايل وأنواع الفساد الأخرى الشائعة. فبيت القصيد ليس في تحويل مؤسسات القطاع العام الى مؤسسات خاصة، وانما في ايجاد آلية لجعل أنشطة هذه المؤسسات تتم في اطار مناخ استثماري يحقق تكافؤاً عادلاً للفرص بينها وبين مؤسسات القطاعات الأخرى. ومما يعنيه ذلك عدم اعطاء قطاع ما حرية غير مبررة اقتصادياً واجتماعياً في احتكار نشاط المؤسسات ذات الأهمية الحيوية للاقتصاد الوطني، كما لا يجوز احتكار غالبية الفروع الاقتصادية من قبل قطاع ما على حساب اشاعة التنافس الاقتصادي بين مختلف المؤسسات ذات الملكيات المختلفة فيها. وعلى القطاع الخاص في بلداننا العربية ان يعي ذلك قبل غيره. فهو لا يستطيع أكل العنب وقتل الناطور كما يقول المثل الشعبي. وشراؤه للمؤسسات العامة على أساس تقيم مختلف التسهيلات له يتطلب منه التزام الواجبات الملقاة على عاتقه جراء ذلك. ومن هذه الواجبات المساهمة في شكل أساسي في عملية التنمية من خلال مزيد من الاستثمارات في تطوير هذه المؤسسات وتحديثها وضمان غالبية أماكن العمل فيها ودفع الضرائب والتأمينات وغيرها. ومن دون ذلك لا يمكن القبول بعمليات التخصيص المقبلة على بلداننا. * استاذ في كلية الاقتصاد في جامعة تشرين - سورية.