يذهب بعض دعاة "المجتمع المدني" في العالم العربي إلى تسمية "مجتمعهم" هذا بالمصطلح. وهم إذ يسمونه مصطلحاً يتركون تناوله على وجه آخر، جائز وربما مقدَّم، هو وجه المفهوم الذي يكتبه بعضهم "الأفهوم" على وزن أقنوم. ولا يقتصر الفرق، ولا الخلاف تالياً، على الاصطلاح والتواضع عليه. فمن يذهب إلى التسمية بمصطلح، ويتناول المعنى عليه، يرضى حذف عناصر أو عوامل ملازمة للمفهوم وداخلة فيه دخولاً إنشائياً وتاريخياً تكوينياً. فمفهوم "المجتمع المدني"، على خلاف مصطلحه وتعريفه عن يد بعض دعاته ومنهم سعد الدين ابراهيم، في محاضرة ألقاها في "مركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط المعاصر"، في الأسبوع الثاني من آذار / مارس المنصرم، تسترجع "ورقة" إلى مؤتمر الجمعية الدولية لعلم السياسة في آب / أغسطس 1997 بسيول...، يفترض شرطين لا ينهض ولا يعقل إلا بهما، هما شرط الدولة، الواقفة القوة العامة والشرعية على نفسها، وشرط الأفراد المواطنين والمتساوين في حقوق الأمن والخصوص والامتلاك. ويُعقل من طريق الشرطين هذين استواء المجتمع المدني، وهو مجتمع الأفراد والخواص والمالكين الآمنين والقائمين خارج السلطة أو السلطان، بإزاء الدولة وسلطانها، وفي مقابلتها ومقابلة سلطانها. وعلى هذا فالأفراد والخواص والمالكون هؤلاء هم حد السلطان. وليس في مستطاع السلطان، المدعو "مطلقاً" في غير دولة أوروبية في القرن السابع عشر، تجاوز هذا الحد وانتهاكه إلا إذا ارتضى تجدد المنازعات الأهلية وقيام أهل القوة من الأشراف والاكليروس عليه. وحملُ أصحابِ المجتمع المدني على أفراد هو خلاف حمل النظام القديم، نظام الجماعات والمراتب و"الطوائف"، إياهم على "أجسام" اجتماعية وسياسية سلكية تتنازع على السلطان والدولة وتتقاتل. فلم يستو السلطان دولة محدثة، تنظم المحكومين وتقوم منهم مقام الهيئة الجامعة، إلا من طريق تصديع "الأجسام" الاجتماعية والسياسية السلكية، بالقوة، وتفتيتها وتذريرها "ذرات" فردية وخاصة. فكان مجتمع هذه "الذرات" بمنزلة طوية المرء الخاصة من علنه وظاهره، على ما ذهب إليه راينهارت كوسيليك في تعليقه على توماس هوبس، مفكر سياسة الخروج من الحروب الأهلية. وقايض السلطان انفراده بالحكم والسلطة إقراراً بحرمة خاص الأفراد ومِلكهم وأمنهم ومعتقداتهم، وحداً لسلطانه لا يتجاوزه. فكان الأفراد ما تساقط من "الأجسام" الجمعية والسلكية الوطنية، وما تخلف عن تصدعها وانهيارها، وعن تحطيمها بالقوة في معظم الأحيان. وجرى تعريف رابطتهم، أو روابطهم، بحقوقهم الأساسية التي تعصمهم من إطلاق يد أي سلطان فيهم، بما هم أشخاص وذوات واحتياجات وحريات "طبيعية"، خاصة وفردية. لكن الأفراد، على هذه الحال، متنازعون ومتنافسون، وهم أولاً وقبل أي أمر آخر مختلفون. فإذا عاد إعمال القوة في المنازعة والمنافسة والإختلاف إلى السلطان وحده، وإلى الدول و"مجتمعها"، رجع التحكيم في المنازعة والمنافسة إلى القانون الشكلي والصوري وإلى "يد خفية" لا يخلو فعلها وأثرها من بعض السحر. فهما، الفعل والأثر، يرعيان خير توزيع لثمرات المنافسة، وخير استعمال لعوامل الانتاج واستثمارها، وخير توقيت، إلخ. والمجتمع المدني إنما هو منعقَد العلاقات بين الدولة، المستحوذة وحدها على السلطان في الداخل، وبين الأفراد المتحللين من روابط "الأجسام" الجمعية، والمتروكين نهباً للأهواء والحاجاتَ والرغبات داخل إطار حقوقي واضح، والمعوِّلين على فضائل "اليد الخفية" وقوتها على استنتاج المنازعة والمنافسة خيرَ النتاج الاقتصادي والسياسي وأفضله. وهذا ما يتحصل من حمل المجتمع المدني على مفهومه، أي على ترتيب عناصره وعوامله وعلى إدخال شروطه ونتائجه تحت فهم جامع ومشترك. أما حمله على مصطلح فيؤدي إلى تعريف قريب من تعريف سعد الدين ابراهيم يرى إلى "المجتمع المدني" شبكة مبادرات وتنظيمات تدار بإرادة أصحابها الحرة وترمي إما إلى خدمة مصلحة، أو إلى الدفاع عن قضية، أو إلى التعبير عن مشاعر جماعية، في استقلال عن الدولة والأسرة والسوق الإقتصادية والمؤسسة الدينية، وبأسلوب سلمي - وليس استبعاد علاقات الشاهد الطباعية إلا على سبيل التحفظ من السهو والغلط. فمثل الإتصال المفترض لا يحصل إلا إذا تهاوت سدود القرابة والجوار والمرتبة، والعالم المسحور، وإذا ربطت بين الناس روابط العمل والرأي الراشد الكانطي والمنافع. ومن اليسير على القارئ أن يلاحظ سعي التعريف في جمع عناصره، وفي استيفاء إحصائه ما يحصي، وعينه عين التعريف أو صاحب التعريف على وقائع اجتماعية وظاهرات مختلفة المصادر والظروف والمسارات التاريخية والعوامل. فهو يفترض اتصال المبادرات من طريق شبكة، أو شبكات، وائتلافها في شبكة مجتمعة، وكأن الإتصال والائتلاف هذين بمتناول كل المجتمعات، ومن شاء في هذه المجتمعات ومنها. وهذا افتراض غير محقق، على أضعف القول. ثم هو يفترض انتصاب إرادات حرة تدير الشبكة هذه. وكأن تعريف "الجمهور"، أو المحكومين والرعايا، بالإرادة ثم بالحرية، مسألة متحصلة، ولا شأن لها بتعريف الناس من طريق المِلك والعمل والدخل والضمير، ويغفل التعريف عن أن "الإرادة" كانت موقوفة، في مجتمعاتنا، إلى وقت قريب، لغةً وفعلاً، على صاحب "الإرادة" وحده، وهو من "يخط" خط كلخانة، على سبيل المثال و"يرسم" المراسيم ويريد ب"إرادة" سنّية ومنعِمة. وهذا، أي الإشكال وافتراض الشروط ودخول الشروط في النتائج، شأن الاستقلال عن الدولة هل "الدولة" واحدة؟، والاستقلال عن الأسرة، وعن السوق والمؤسسة الدينية. والجمع بين وجوه الاستقلال هذه في استقلال واحد، أمر عجب. فقد تلجأ الجماعات، على ما حصل حقيقةً وفعلاً، إلى الاحتماء من سلطان الدولة بالأسرة أو بالديانة، وتتوسل بالسوق إلى إضعاف علل الدولة والأسرة. وقد تقدم الجماعات دواعي روابط القرابة على أوامر الشرع ونواهيه، وتتملص بواسطة السوق وموجباته المستقلة من قيود "المؤسسة الدينية"، إلخ. أي ان جمع وجوه الإستقلال كلها في شبكة وإرادات حرة وإدارة ليس إلا من قبيل التمني المنقطع من الوقائع والأعيان: أعيان القوى، وأعيان المصالح، وأعيان الروابط والعرى، وأعيان المنازعات وموازينها. ولعل هذا الإنقطاع، على نحو التمني وانتظار الخوارق واجتماع ما لا يجتمع إلا على حال دون حال أو أحوال، لعله السبب في انقلاب المفهوم، مفهوم المجتمع المدني، إلى مصطلح، وتحول المصطلح إلى شعار وإلى كلمة تعارف بين أصدقاء وأصحاب لا يقلون صحبة عن "عصابة" سكورسيزي في شريطه السينمائي. فيسع من شاء، اليوم، في العالم العربي الفسيح، أن يدخل في عداد دعاة "المجتمع المدني" وأصدقائه وأحبابه وخلانه. والحق أن بعض وزراء الداخلية العرب دعوا في مؤتمراتهم إلى الرد على الإرهاب ب"المجتمع المدني" وتنميته. - وأرخ كتّاب عرب مأذونون ولادة "المجتمع المدني" في بلادهم ودولهم بانتصار بعض جماهير هذه البلاد للسيد صدام حسين ودخوله الكويت عنوة. ودعا السيد حافظ الأسد، الرئيس السوري، البرلمانيين العرب في مؤتمرهم بدمشق، في أيار مايو 1998، إلى رعاية "المجتمع المدني". وتتباهى "الميليشيات" المقاتلة اللبنانية بحدبها على "المجتمع اللبناني" ورعايتها "مساكينه" وضعفاءه. وينبغي، على الأرجح، ألا يقلق هذا التكأكؤ "ما لكم تكأكأتم علي كتكأكؤكم على ذي جنَّة..."، وهو الاجتماع على المشهد الغريب من كل حدب وصوب أهل "المجتمع المدني". فهم يتوسلون به، من طريق تعريفه وتجديد هذا التعريف، إلى إنشاء جبهة عريضة، سياسية واجتماعية وثقافية، لا تستبعد أحداً، ولا تعادي أحداً، لقاء بعض التدقيق في أجزاء التعريف. فإذا تخلت "جمعية الإخوان المسلمين" عن العنف، و"الجهاز السري"، نزلت على رحب "المجتمع المدني" وسعته. أما إرادتها إنشاء مجتمع متكاتف ومتراص في المجتمع المشتمل عليها" وأما "كَبْكَبَتُها" على ما كان بعض الخوارج يقولون في قتالهم أصحابها و"إخوانها" على روابط من المحال ان يتشارك فيها غيرهم، وإقامتها رابطة الجمعية "جسماً" يحل محل روابط الأهل والولاء الوطني والأهواء الفردية - فأمور يجوز الإغضاء عنها. وينزل آخرون "حزب الله"، الإيراني والبحريني واللبناني، و"أنصاره"، من "مجتمعهم" منزلة القلب. فيحصون أجزاء المصطلح بعين، ويثبتون نظيرها في "الشبكات" بالأخرى. وإذا أرخ أصحاب "المجتمع المدني"، أي أصحاب الشعار وكلمة التعارف، لمحط رجائهم كشفوا عن ضعف تدبرهم ما يرفعونه لواءً، وعن خلطهم مصادر تراثهم اللفظي والمصطلحي من غير تمييز. فهم يعزون انبعاث المصطلح إلى انبعاث المعارضة السياسية والاجتماعية بشرق أوروبا في العقد التاسع، وإلى إخفاق نظريات التنمية في العالم الثالث، ومصير الدولة الشعبوية والعالم ثالثية إلى التقوض والانهيار، وإلى الموجة الديموقراطية الثالثة، إلخ. فيغفل هذا التأريخ عن اجتماعيات علم اجتماع الحوادث التي يؤرخ لها، وعن دلالتها في ضوء مقاصد فاعليها وأصحابها، وفي ضوء المعاني التي أثبتوها لها وجعلوها فيها. فما يسميه دعاة "المجتمع المدني" تجاربه الأخيرة زمناً ووقتاً، والقرائن على يقظته وانبعاثه بعد غفلة عنه دامت على زعمهم ستة عقود بين 1920 و1980 على التقريب، تتصل كلها من وجه أو آخر بمجتمعات "متأخرة" عن المثال الأوروبي الغربي، أي عن إنجاز الدولة المطلقة فالديموقراطية هدم مباني النظام القديم الاجتماعية والسياسية، وعن استخلاص البورجوازية أي البورجوازيين من أنقاض المباني هذه، ومن السلطان، حرياتها الفردية وحقوقها. ولا تشذ إيطاليا أنطونيو غرامشي عن "التأخر" هذا - وغرامشي، الماركسي، واللينيني على غير وجه، هو الرائد الحقيقي لتناول "المجتمع المدني" على الطريقة "العربية" التي يتناول عليها اليوم، والأرجح أنه المصدر الوصفي والتأريخي الأول لهذا التناول. ولم يتستر غرامشي على توسله ب"المجتمع المدني" الإيطالي إلى تعويض تأخر الدولة الإيطالية، المولودة من "الريزير جيمينتو" حركة التحرير والتوحيد الإيطالية، عن الإضطلاع بضم الجنوب الصقلي والسرديني إلى إيطاليا متجانسة تسودها علاقات إجتماعية لا شبهة في رأسماليتها، ولا في استقلال رأسماليتها عن سند أصحاب الريوع وورثة الملكيات الكبيرة والولاء العائلي والديني. فأحل غرامشي عمل المثقفين العضويين، أي الحزبيين على هذا القدر أو ذاك، وعمل الحزب اللينيني، محل عمل الدولة المطلقة، ثم البورجوازية، في المباني الإجتماعية والسياسية "القديمة"، أي المتخلفة عن النظام القديم و"أجسامه" و"طوائفه" ومراتبه. وأوكل إلى الحزب الشيوعي اللينيني، المركزي على المثال الروسي البلشفي المتحقق تحت أنظار المثقفين والمناضلين المعاصرين، أوكل إليه صدارة "المجتمع المدني" وقيادته على طريق استتمام ثورة بورجوازية لم تنجز، على أن تُتبع بثورة عمالية واشتراكية تتوج الثورة الأولى. ولما كان ظهر جلياً في سنوات العقد الثالث الأولى دخول الثورة اللينينية الروسية في طور انكفاء طويل، ولم يبق شك في امتناع الحركات العمالية الأوروبية من الاحتذاء على المثال الروسي "الشرقي" نسبة إلى قوة "الرأس" الحاكم قياساً على ضعف المجتمع ووهنه، أخذ غرامشي ب"حرب مواقع وخنادق طويلة"، بحسب استعارته العسكرية، ميدانُها القوى الاجتماعية المتعثرة بعلاقات الولاء والريع والعصبية، والمتنكبة قيادة "الطبقة العاملة" وحزبها. وأوكل إلى "الثقافة" والمثقفين صوغ "نظرة إلى العالم" تقوم مقام العقلنة القاطعة والمتمادية التي تولت الحركات الدينية الإصلاحية، ثم السوق الرأسمالية، الإضطلاع بها. وعلى هذا، ذهب مؤرخون إلى أن دور الحزب الشيوعي الإيطالي، الغرامشيّ فالتولياتيّ فالبرلنغويريّ قبل أن يؤول إلى داليما اليوم، المحقَّق إنما هو الإسهام في تحديث الرأسمالية والدولة الإيطاليتين. وهذا، إذا صح، بعيد من "التسيير الاجتماعي والسياسي الذاتي" الذي أوكل به غرامشي هيئات "مجتمعه"، ومن وراثة الدولة الذاوية. ذلك أن غرامشي، شأن قافلة سابقة وتالية من القيادات الحزبية و"الثقافية" اللينينية، اطرح الدولة، وهيئاتها السياسية والتمثيلية والإدارية، من الأفق التاريخي المنظور، وجمع تمثيل القوة الحاكمة والقوى المحكومة في هيئة واحدة هي الحزب، أو "الأمير المحدث"، على خلاف مكيافيلي الذي ميز القوتين وأحال جمعهما في نصاب واحد، ولنصاب واحد. فليس بين المجتمع المدني، الانكليزي والهولندي والفرنسي وبعض الألماني، ونزعاته الفردية والحقوقية والاقتصادية، وبين "المجتمع المدني" الغرامشي، قرابة. بل بينهما فرق عريض وعميق. فإذ ينزع الأول إلى التذرير، وإلى صوغ اللحمة الاجتماعية والسياسية بين أفراد وخواص أحرار، ينزع الثاني إلى الجمع والكردسة والكبكبة، وإلى المركزية والانضباط. وكان غرامشي، في معظم هذا، محتذياً على المثال الروسي الجهيض، في المرتبة الأولى. واضطرت حركات المعارضة بأوروبا الوسطى والشرقية بما فيها روسيا السوفياتية وبعض الجمهوريات، إلى اللوذ بمجتمعاتها كان البولنديون يقولون: "المجتمع" من غير نعت ولا نسبة رداً على تسلط سياسي واقتصادي وقومي أجنبي يدين بانتصاره إلى الجيش الأحمر والأجهزة السوفياتية عموماً. وعليه ف"مجتمع" المعارضات الأوروبية، الوسطى والشرقية، يباين "المجتمع المدني" الغرامشي مباينة عميقة. بل إن ألسنة "المجتمعات" الأوروبية هذه ساووا بين حركاتهم وبين العراء من السلطة والبراءة من طلبها. وهي على الحال الكليانية ولو المتآكلة التي كانت عليها. وانصرف جهد الحركات المعارضة إلى استخلاص حيز لا يسوسه سلطان الحزب الواحد والكلياني. فعلى أي مثال يحتذي دعاة "المجتمع المدني العربي"؟ وأي اختبارات وتجارب يعقلون ويتدبرون من طريق مصطلحهم؟ قد لا يعدو الأمر، على جاري سوابق سبقت، انتحال مفهومات بديلة ترجئ الحاجة إلى التعقل والتدبر. والسوابق الخائبة، من الديموقراطية والأمة والدولة إلى الحزب والطبقة والسوق، لم تحمل المنتحلين على التواضع وعلى الإحتياط. فيمضون على تسمية تزيد الخبط خبطاً والعشو عشواً.