بعد أكثر من قرن ونصف القرن على بداية المشروع النهضوي العربي المجهض، والدور التاريخي الذي اضطلع به دعاة الإصلاح والتجديد الفكري والسياسي، وطرح مفهوم النهضة، وتحديد هوية الإنسان العربي وحريته، وشروط التقدم، في مقابل ومظاهر الجمود والتخلف، لا تزال أسئلة وتساؤلات مشروع النهضة تراوح مكانها بل تراجع الكثير منها. ولا تزال مصطلحات ومفردات الأنتلجنسيا والثقافة، والمعرفة والإيديولوجيا غائمة، وغير محددة الملامح، ويكتنفها الالتباس التاريخي والمعرفي في الآن معاً، وذلك بفعل طبيعة المسار الذي اختطته أو فرض على المجتمعات العربية الولوج فيه، مما أدى إلى المراوحة والعجز عن تمثل وهضم وتجاوز إشكاليات مزمنة ما برحت تسم الوضع الاجتماعي وإمداداته وإفرازاته، كالعلاقة بين الثنائيات المتقابلة القديم «التراث» والجديد «المعاصرة»، والمحلي والوافد، والنقل والعقل، الأنا والآخر، الخصوصية والعالمية، وهذه الصعوبات ترجع في جانب منها إلى عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية اتسم بها طابع التطور «المشوه والتابع بوجه عام» وتناقضات نشوء الدولة العربية «القطرية» الحديثة مما استتبع غياب وتهميش دور الأنتلجسيا والمثقف العضوي «بتعبير غرامشي» أمام سطوة وحضور المثقف التقليدي بشقيه المحافظ والموظف الأيديولوجي. ما يميز الثقافة العربية هو افتقادها الرؤية والممارسة الثقافية النقدية بأبعادها التاريخية والراهنة والمستقبلية، وسيادة النزعة التلفيقية التي تقوم على الجمع بين متناقضات فكرية، ونظم معرفية متقابلة، والانفصال بين الفكر والواقع، والشعار والممارسة، مما عطل قدرة المثقف على تحقيق استقلاليته إزاء الدولة والمجتمع، وممارسة دوره ووظيفته النقدية. لقد أدى فشل الدولة العربية في تحقيق أي من الأهداف والشعارات الوطنية والقومية التي رفعتها، كالاستقلال، والحرية، والتنمية، والعدالة، والوحدة، وتحرير فلسطين، إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتفكك الروابط والصلات الوطنية والقومية، وتصدر الانتماءات والهويات الفرعية والتقليدية، وانتعاش الأفكار والتنظيمات المتطرفة، وتفشي العنف والإرهاب المنفلت الموجه ضد الأنظمة والمجتمعات والأفراد. إزاء كل ذلك فإن الدولة العربية التي وجدت نفسها فاقدة لشرعيتها التاريخية أو المكتسبة، عمدت إلى تقوية جهازها البيروقراطي/ العسكري، واعتمدت الحلول الأمنية في مواجهة الأزمات الحادة التي عصفت بها، وما جرى ويجري في سوريا واليمن وليبيا والعراق ومصر والجزائر وغيرها أمثلة دالة على أننا نعيش المرحلة الثانية من المؤامرة الخطرة لسايكس- بيكو، بمعنى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ للبلدان العربية. البديل الواقعي والصحيح يتمثل في إيجاد الحلول الصحيحة من خلال تفعيل وتطوير النظم والتشريعات، والتأكيد على الانتماء الإنساني المشترك والتفاعل الخلاق في إطار الحضارة الكونية الواحدة، وبما يحافظ على الهوية العربية، والخصوصية الثقافية والحضارية.