تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاستورياديس أو التزام التفكير "في" التاريخ والاجتماع ... ومن داخلهما
نشر في الحياة يوم 25 - 01 - 1998

وقعت مقالات كورنيليوس كاستورياديس اسطنبول 1922- باريس أواخر 1997 على بعض قراء العربية الذين أتيح لهم ان يقرأوها بالفرنسية مجموعة في كتب الجيب، منذ العام 1973، موقع الكشف والأوبة من غشاوة المنام الى صفاء اليقظة. واتفقت قراءته، في السنوات القليلة التي سبقت انفجار حروب لبنان، مع اضطرار نفرٍ، قليل ربما، من هؤلاء القراء الى النظر الى الخلف والوراء بغضب، على ما سبقهم الى القول شريط سينمائي انكليزي يرقى الى عقد من قبل. والخلف هذا، الباعث على غضب النظرة والناظر، إنما هو الماضي القريب والجامع نحو عقدٍ تام من السنين، أي ثلث عمر أصحابنا يومها.
وكان أصحابنا يتحدرون من صنف شاع بين المتعلمين والمدرسين والطلاب، في ذلك الوقت، هو صنف من عرفوا باسم غريب على السمع واللسان نَسَبهم الى كارل ماركس، فسموا "ماركسيين". ومصدر الغرابة، وهي طوتها الاعوام التي لا تقل عن ربع قرن ومحتها أو "درستها" على القول الجاهلي، هو انتساب هؤلاء الى ولي الحركة السياسية الشيوعية، أو نبيها وإمامها، وتركهم النسب السياسي والحزبي "التنظيمي" المعروف والمشهور. فهم يأتمون بالرجل الذي تزعم الاحزاب الشيوعية، على اختلاف اسمائها، التحدر منه، ومن كتاباته وأفكاره وسيرته السياسية، لكنهم ينكرون الانتساب الى هذه الاحزاب. وقد يزعمون ان ما يجمعهم بها، أو يجمعهم بمزاعمها وظاهر مقالاتها، ليس بشيء ولا يصح ان يحمل على شيء.
العود على البدء
أما من وجه آخر فكان أصحابنا يقبلون على السياسة، وعلى "عملها" وشأنها ومطلبها، إقبالاً لا يقل ولعاً وهوى واستفراغ جهد عن ولع الحزبيين عموماً وهواهم. فبدا مستغلقاً بعض الاستغلاق على أفهام من ليسوا من هؤلاء الاصحاب، وعلى أفهام بعض الراغبين في الصحبة والحائمين حولها، وأفهام بعض الاصحاب أنفسهم، هذا الترجح بين الانتساب الى الإمام المشترك والهوى السياسي وبين إنكار الصفة الحزبية الشائعة والمعروفة، والمفهومة تالياً. لكن الترجح هذا، أو السبب فيه، كان علة أصحابنا وانفصالهم واستقلالهم بأنفسهم. فهم، على زعمهم، أقوى نسباً بالإمام المشترك، وبذريته الفكرية والسياسية، من أدعياء القرابة المشهورين والمنتصبين نسَّابة محلَّفين وعدولاً. فكانت المنافسة على دعوى القرابة شديدة. أو هذا ما خيل لأصحابنا. فهم كانوا يولون الامر مكانة عالية وشريفة. وكانوا على يقين من ان مدَّعي الإرث، "الماركسي"، إنما يدعونه زوراً وكسلاً وجرياً على عادة موروثة. أما هم، على خلاف الأدعياء الكسالى، فيرسون سياستهم المرجوة والمأمولة، و"حزبهم" المنتظر والآتي لا ريب فيه، على نصوص إمامهم وولي فقههم وإن لم تكن تلك كلماتهم وألفاظهم على وجه الدقة. وكان تحقيقَ مزاعمهم الكبيرة، وهم استهولوها واستعظموها على نحو ما يستعظم أهل الطيش المسائل الكبيرة، "انتاجٌ" كتابي متقطع يتناولون فيه بعض الحوادث التي يظنونها جسيمة وخطيرة، أو يبعثون بعض نصوص الأسلاف العظام ويذيلونها بشروحهم.
لكن سلفية أصحابنا لم تكن لتستنفد كل منازعهم ولا كل أحوالهم، ولو هي استنفدت منازعهم وأحوالهم لما صادفوا كتابات كاستورياديس ولما كان لها عليهم الوقع الذي كان لها. فهم كانوا يأملون في خروج الوقائع والحوادث، بناسها ومعانيها، من صمتها واستغلاقها الى قول واضح، وفعل غير ملتبس، هما القول والفعل التاريخ نفسه. وكانوا على يقين من ان الوقائع والحوادث، والناس والمعاني، إذا خرجت الى القول والفعل، فلن "تتكلم" الا بلغة النصوص الأولى والأصيلة. وليس اتفاق الأمرين، الوقائع والحوادث من وجه والنصوص وشروحها من وجه ثان، ثمرة علم عميق ودقيق ثاوٍ في النصوص فحسب، بل هو وليد رغبة مشبوبة ومحمومة في استيلاد الحياة الاجتماعية والتاريخية "مجرى جديداً"، على ما كان يحلو لأصحابنا وأمثالهم أن يَسِموا مقالاتهم وكتاباتهم وعلى المثال نفسه: "نتائج وتطلعات"، "خطان في النضال..."، "في كذا... الدين، المجتمع، الفن...".
وبلغت بهم قوة مزاعمهم، وقوة يقينهم، مبلغ استنطاق وقائع الحياة السياسية والاجتماعية وحوادثها السائرة، مهما كانت مبتذلة وتافهة، أقوالَ النصوص الأم، من غير حرج. فهم حسبوا أنفسهم، على مثال أئمتهم وأوليائهم، يصولون ويجولون في مضمار التاريخ العابس والجاد، وفي ميدانه العاصف. أما ذريعتهم الى هذا الحسبان فتارة إضراب في منشأة من خمسة "عمال"، وتارة ثانية تظاهرة تلامذة مدرسة نائية، وتارة ثالثة مشادة بين مزارع تبغ وموظف ندبته مصلحة "الريجي" الى تخمين المحصول وأثمان طبقاته وأنواعه.
والحق أن يقينهم بكل ما كانوا يوقنون به كان يبطن تشككاً حاداً وجارحاً في موضوعات يقينهم. فالفرق بين المثالات التي ينقلون عنها وبين الوقائع والحوادث الاجتماعية والسياسية الماثلة أمام أنظارهم، وبين أيديهم، وفي أنفسهم، فرق كبير لا يردمه اجتهاد مهما تطرف وابتكر. ويتناول الفرق وجهي المقارنة، وجه الكم ووجه النوع. فوقائعنا وحوادثنا الاجتماعية والسياسية "صغيرة" قياساً بالوقائع والحوادث "العملاقة" التي ينتهي الينا خبرها من طريق روايات أسطورية لا يحاط بها. ووقائعنا مختلفة نوعاً عن وقائعهم، ولا يلم شرح النصوص والقطوف بهذا الاختلاف ولا يقرِّب شقته. فكان على أصحابنا بإزاء هذا الفرق، بوجهيه، إما الانكفاء، والتخلي ليس عن "الماركسية" وحدها بل عن اجتهاد الفهم برمته، أو الاغضاء عن عِظَم الفرق، والقناعة بتقريب يحفظ للمثالات قوتها على المعنى وللوقائع ما تيسر من الانقياد للمثالات والشبه بها.
فرجع أصحابنا من رحلتهم القصيرة مكسوري الخاطر. فالعلم الذي كانوا يعدون أنفسهم به، وكانوا يحسبون انه وحده العلم اللائق بمطلبهم وموضوعهم، لم يتحصل لهم. أما الفعل فاقتصر ما قدروا عليه منه على فتات وشذرات، وعلى بعض كلمات - وأكثرها رواجاً كلمة "لجان" التي تناهى خبرها الى السيد معمر القذافي وحملها على ما حملها عليه. وعوض الإقرار بتواضع الحصاد والانصراف إما الى الصحافة أو الى التأريخ أو الى التعليم التجريبي أو الى العمل النقابي والتعاوني... يمم أصحابنا شطر "الحزب اللينيني" أو "التنظيم اللينيني". فجمعوا العلم المرسل الى العمل السياسي، ووحدوهما في بنية حزبهم، وفي نظمه وهيكله. وقام نظم الحزب، أو هيكله وصورته، محل "علم" صار تبعاً لعمل الحزب ومصدراً له، في آن، ونيط العمل ب"علم" لم يشك أصحابنا في صدورهم عنه، من غير واسطة، حين وضعوا اللبنة الأولى لمنظمتهم الحزبية.
وهم دخلوا الحلقة المفرغة هذه، والتجأوا الى الدوران في هذا الدور، هرباً من البطالة السياسية والاجتماعية، على الأرجح، وإقبالاً على "العمل" الذي أتاحته الحركة الفلسطينية الوافدة ومنظماتها السياسية المسلحة وهي كانت مسلحة فوق ما كانت سياسية في السنة الاخيرة من العقد السابع وأوائل العقد الثامن. فبدت، يومها، "المسألة الوطنية" أقل تعقيداً من "المسألة الاجتماعية"، وبدا التعويل على الأولى أقرب الى ميزان الاحتمال والجواز من التعويل على الاخرى. وراح أصحابنا الى "المسألة الوطنية" على نحو ما راحوا، من قبل، الى "الماركسية". ونقلوا صدارة حزبهم من الحركات الاجتماعية المأمولة والوشيكة، على حسبانهم، الى الحركة الوطنية القائمة والناجزة.
وهم، في الحالين، لم ينزلوا لا عن مكانة "العلم"، ولا نزلوا عن طلب الصدارة للنواة المنظمة والمضطلعة بالريادة والقيادة والاستشراف. أما مسوغ الاضطلاع بدور الطليعة فسنده، عند أصحابنا، هو ندبهم أنفسهم اليه، ورأيهم في أنفسهم وفي استحقاقهم الدور. والأمران ينصبان صاحبهما، أي من يزعمهما لنفسه أو يُزعمان له، فرداً أو جماعة، ولياً على المجتمع وعلى سياسته لا يقاسمه الولاية المطلقة أحد. فعاد أصحابنا، من حيث لم يحتسبوا ولم يدروا، على بدء الاحزاب الشيوعية العربية ومزاعمها في القيادة التاريخية، و"العلم" بالتاريخ وقوانينه، وبما تبطنه المجتمعات من معان ومصائر ولا تستدل الى العبارة عنه الا بواسطة "طليعتها" و"مثقفها الجمعي" أو الجماعي.
ويقود مثل هذا العَوْد على البدء الحزبي والشيوعي الى ما سبق أن قاد اليه الاحزاب الشيوعية، العربية وغير العربية. فهو قادها الى تقليد قوالب ومثالات جاهزة" والى تنصيب الأقرب الى القوالب والمثالات، في بلدانها "الأصلية"، والأقدر على التقليد، "أرباباً" وقادة" وأدى افتراض القوالب الى عزل الأفكار السياسية و"العمل" السياسي من الحياة الاجتماعية والتاريخية الفعلية، والى تحجير العبارات عن هذه الحياة في أنماط لفظية وصور سياسية وعملية ثابتة.
ورجع كل أمر الى مطرحه ومحله: رجعت قيادة المراحل الى طبقاتها وأحلافها، وحُملت المراحل على مهماتها، وولدت المهمات بدورها ترتيب قواها الداخلية والخارجية، واختصرت الحركات المختلفة في معانٍ لا تتعداها، معيارها التقدم والتأخر، التحرر والتبعية، الشعب والعملاء، حرب الشعب والدولة... وفي قلب هذا كله: نحن وهم، على رسم لا يحول ولا يزول.
نظام الامر في الانتاج و"العلم"
أما كيف انتهى الأمر بأصحابنا وأمثالهم الى ارتكاب مثل هذه الآراء والأحكام المخالفة مخالفة تامة لوجه من وجهي مذهبهم الاول، فأمر يطول قصه وتعقبه، وليس هذا المعرض معرضه ولا مناسبته. وفي هذا الوقت صادفت طباعة كاستورياديس مقالاته المبثوثة في مجلة كانت توقفت عن الصدور قبل عقد من السنين هي "إما اشتراكية وإما بربرية". وكانت المجلة هذه، إبان صدورها وطباعتها، غير دورية، قليلة الأعداد وضيقة التوزيع. فلا تقع في متناول من يرغب في قراءتها. وزاد كاتبها عليها مقالات طويلة وجديدة صدَّر بها ما ضمه من كتاباته السابقة بعضه الى بعض. فكانت المقالات هذه بمنزلة القول الذي يحل عقدة اللسان المعقول والمعقود - والكناية ينبغي الا تحمل على مدلولها النبوي الموسوي والقرآني الا من طريق المدلول التحليلي النفسي، وكاستورياديس احترف التحليل النفسي في بعض ما احترف واشتغل.
في ضوء ما كتبه كورنيليوس كاستورياديس اليوناني والتراقي من تراقيا المولد والأثيني النشأة والفتوة والفرنسي الرشد فلغة الكتابة الاولى - دخلت على أصحابنا في باب شائع ويكاد يكون عاماً. فهو تنبه الى غلبة العلاقات والبيروقراطية والأمرية على وجوه الحياة المعاصرة، الاجتماعية والتاريخية، كلها غلبةً مدمرة ومنذرة بالعقم الانساني. وقوام العلاقة البيروقراطية، التي تينع على جذع الإنتاج الرأسمالي ومراتبه وتقسيمه العمل ونشدانه الربح والمراكمة الى لا غاية ولا نهاية - قوامها الفصل القاطع بين مرتبة الأمر والبت والقيادة وبين مراتب التنفيذ والانقياد و"التطبيق".
وبلغت هذه العلاقة، وهي تخللت الأنظمة الاجتماعية القديمة والجديدة كلها على ما أرّخ الألماني ماكس فيبر، في الرأسمالية المحدثة، غداة الحرب الثانية ومع العقد السابع، مبلغاً غير مسبوق، ويكاد يكون صافياً في اختصاره العلاقات الاجتماعية الى صورتها البسيطة والأنموذجية.
فالطبقات الاجتماعية الآمرة والغالبة، وقد تخففت من اصحاب الريوع والملكية الموروثة وقلصت مكانتهم ورجحان رأيهم ومصالحهم، نجحت في مراقبة النشاط الاقتصادي وتطويعه على نحو خلصه من تهديد الأزمات الدورية والخانقة. فكذبت المراقبة والتطويع الظن في جري النشاط الاقتصاد على قوانين طبيعية و"موضوعية" لا يسع المجتمعات، الرأسمالية، الا الانقياد لها ما لم تنقلب الى "الاشتراكية"، أو الاقتصاد الموجه.
وتوسلت الطبقات الآمرة في الرأسمالية، وكاستورياديس لا يتكلم على "الرأسمالية" خالصةً من منازعاتها الملازمة لها أو من طبقاتها، توسلت الى ضبط الأزمات بسياسات انتهت إليها وبلورتها في سياق حوادث بعينها، ولم يحملها على سياساتها لا "منطق نمط الإنتاج" ولا "تناقضاته الداخلية" ومفاعيلها الكامنة أو الظاهرة. فعمدت الطبقات الآمرة الرأسمالية الى البطالة فخفضتها الى أدنى درجاتها، منذ منتصف العقد الرابع من القرن العشرين، ثم غداة الحرب الثانية، من طريق سياسة إنفاق إرادية، أو إرادوية، ومتعمدة. وزادت الأجر العمالي الحقيقي، وليس الأجر الإسمي وحده. فاستجرت الزيادة المتعمدة، والمقدرة تقديراً دقيقاً يحتسب نسبة التضخم، ظهور الإستهلاك الجماهيري. وتوجه الإنتاج، أو شطر متعاظم منه، على تلبية الطلب الإستهلاكي. ودخل طلب الإستهلاك عاملاً بارزاً في توزيع الإستثمار، وتحسين الإنتاجية، والإفادة من البحث العلمي والتقاني، وتوسيع السوق.
وترتبت على هذه الأمور، المعروفة والمشهورة في الإجتماعيات الأميركية، حوادث اجتماعية وسياسية كبيرة لم يحملها كاستورياديس على الإضطرار والضرورة، وهو بين أوائل الذين وصفوها وأقروا بحدوثها ووقوعها، بل حملها على ما سمَّاه، غداة عقد ونصف العقد من وصفها، "إنشاء معانٍ اجتماعية وتاريخية". وزاد على وصفها صفة شاعت فجأة، نلية "ربيع عام 1968" الأوروبي والكوني، هي "المتخيَّلة" أو "التخييلية"، نسبة الى قوة الإنشاء والإيجاب التي ينسب إليها كاستورياديس، دون سلسلة الأسباب والعلل الحتمية و"الطبيعية"، أفعال البشر ومجتمعاتهم.
وعلى هذا فزيادة الأجر الفعلي وظهور الإستهلاك الجماهيري، وجعلهما مناطاً للإنتاج وسعيه في ربح مرسل، ما كان لها أن تؤدي الى إخراج شطر كبير من الطبقات العمالية وضمّه الى الطبقات التقنية الوسطى، والى "ثقافتها"، لولا قصر الطبقات العمالية نفسِها، و"فوقها" نقاباتها والأحزاب السياسية التي تتصل بها من قنوات وسبل كثيرة، مطامحها ورغباتها "التاريخية" على الدخول في "المجتمعات" الإستهلاكية، واستقالتها تالياً من الفعل التاريخي الكبير ومن صوغ المعاني الإجتماعية الجديدة وآفاقها المحدثة وغير المسبوقة. ودليل كاستورياديس على ما ذهب إليه، معقباً على الحوادث اليومية قبل استنباط مبانيها المشتركة والجامعة، هو جواز استخلاص الترتيب الطبقي الجديد نتيجتين مختلفتين تناقض الواحدة الأخرى. فيجوز القول إن الفئات "الدنيا" من المستخدمين، وغير العمال، مثل مستخدمي البريد ومستخدمي التنفيذ في المكاتب و"صغار" التقنيين، انحازت الى الطبقات العمالية البروليتارية، ويؤذن انحيازها الإجتماعي هذا بغلبة الصفة البروليتارية والعمالية التنفيذية المحض على عمل الفنيين والتقنيين" ويجوز خلاف هذا القول، فينبِّه الى انسلاخ الفئات "العليا" من الطبقات العمالية، والتحاقها بالطبقات الوسطى الجديدة. وليس الأمران، والقولان، مجرد تقليب للحساب الذهني والإحتمالي على وجوهه. بل إن الحركات النقابية الإيطالية والفرنسية، والأميركية قبلها، اختبرت الطريقتين والمذهبين، وانشقت كل حركة على نفسها، نقابياً وسياسياً وثقافياً، بحسب الطريقة التي انتهجتها وقدمتها على سواها.
فليس في الوقائع الإجتماعية أو الإقتصادية نفسها منطق قاهر وغالب ولا يترتب على هذه الوقائع، أو على وصفها، "علم" بها وبمصائرها. ولا تترتب عليها وعلى "العلم" بها طليعة تشق للوقائع، ولأصحابها، طريقاً معبدة، فترشد الطليعة العوامَ والمقلدين الى النهج الصحيح والقويم، على ما يقال في لهجة محلية من لهجات اللغة القيادية والطليعية الكونية. وإذا توجهت الطبقات العمالية الأوروبية في القرن التاسع عشر، ومعظمها كان حرفياً بعد، وجهة تخييل إنسانية تملك مصائرها بيدها، وتصدر أفعالها ونظمها وهيئاتها عن نفسها واختيارها، فليس "السبب" في ذلك "مستوى قوى الإنتاج" ولا "تناقضات علاقات الإنتاج".
وعلى المثال نفسه وهو خلاف المثال الثابت وقياس الشَبَه ليست حالُ الإنتاج، وهي أحوال كثيرة ومتضاربة، ولا حالُ التوزيع، وهي كذلك أحوال لا تتجانس، العلةَ في إقبال الطبقات العمالية، ومعها الطبقات المأجورة تلك التي مصدر دخولها الأجر والعمل، على خاصِّها الفردي، وعلى منافع هذا الخاص وملذاته العاجلة. ودليل كاستورياديس، في هذا المعرض كذلك، هو استحالة جمع الوقائع والأحوال الكثيرة والمتفرقة على حال واحدة ومعنى جامع. فالطبقات العمالية، والطبقات المأجورة معها، أي معظم المجتمع الرأسمالي المعاصر والمحدث، لا تباشر العمل المنتج اليومي، إن في ورشات المصانع أو في المكاتب الجديدة والمتصلة بالإنتاج، على المثال المستكين والفردي والمنفعل الذي يغلب على حياتها الخاصة والفردية، أو يغلب على حياتها السياسية والثقافية والإجتماعية الظاهرة والعلنية.
بل على خلاف التسليم والإنقياد الفرديين، في الحياة الخاصة والحياة العامة، تقوم علاقات العمل على منازعة يُنزلها كاستورياديس منزلة الركن من العلاقات الإجتماعية و"الإقتصادية" الرأسمالية، ومن نقده الماركسية. فعلى حين ينزع منطق الأمر البيروقراطي والرأسمالي الى إجراء العمل والإنتاج على صورة هرمية ومرتبية، فيتولى أهل الأمر البت في دقائق العمل وتفاصيل إنفاذه، ويتولى أهل العمل والتنفيذ الإجراءَ والإنقياد والإمتثال - يباشر المنتجون العمل فعلاً وحقيقة على نحو مختلف يكاد يكون مناقضاً للنحو المفترض. فقوام الإنتاج الفعلي - على ما ذهب إليه جمهور من المراقبين العمال والمراقبين الدارسين" وكان العامل الفرنسي في مصانع "رينو" للسيارات، دانييل موتيه، وصديق كاستورياديس، أحد هؤلاء المراقبين على هدى من اجتماعيات أميركية رائدة - قوام الإنتاج هو تصويبٌ تنفيذي دائم، تتولاه الجماعة العمالية المتماسكة، للأمر النظري والحرفي.
فتتضافر معارف العمال و"صغار" الفنيين العملية، وخبراتهم، وحدوسهم، وطرائقهم، على تسيير آلة الانتاج وأجهزتها. وتتولى هذه كلها، المعارف والخبرات...، مجتمعة، تخليص آلة الانتاج من تفككها النظري والأصولي، ومن تبذيرها وتبديدها المترتبين على أصولية الانتاج وعلميته المبدئية. وفي رحم الانتاج الرأسمالي هذا، وليس في قوانينه المزعومة مثل "قانون تناقص الربح" الماركسي، ترسو قوّة العمل اليد العاملة على قيمة وعلى ثمن. فتكلفة السلعة إنما هي، في المرتبة الاولى، تَبَع لما ينتهي اليه التجريب العمالي والفني داخل هذا الرحم، وللوجه الذي يرسو عليه تماسك العاملين وتنسيقهم خبراتهم فيما بينهم. ومبنى التجريب والتماسك والتنسيق إنما هو على المنازعة المقيمة بين أهل الأمر والمنتجين.
وعلى هذا ليست قوة العمل قيمة ثابتة ومقدرة على قدر معروف قبل مباشرتها العمل والانتاج" وليس "فائض القيمة" الذي تنتجه هو ركن "الصراع" الاجتماعي على التوزيع وعلى "علاقات" الانتاج وملكية الانتاج. ويسخر كاستورياديس بمودة كبيرة من عمى السلف الكبير، كارل ماركس، و"مكتشف" صراع الطبقات، عن مظهر المنازعة الأول، والاعمق أثراً، في مهد المنازعة نفسه. فيغفل السلف عن "تناقض" الرأسمالية الاول والأساس حيث ينشأ ويترعرع ويستوي ركناً.
وقوام "التناقض"، من وجه، هو نازع أهل الأمر، أو الطبقات الرأسمالية الصائرة الى البيروقراطية، الى إخراج المنتجين، أو أهل العمل، من الانتاج ودائرته، وتقليص دورهم الى التنفيذ الآلي والخالص، وتوكيل الآلات بالعمل عوض الجماعة العمالية" ووجه "التناقض" الآخر هو استحالة دوران الانتاج وجريه الناجع بغير تولي المنتجين تشغيل الآلات بعد صنعها وضبطها على العمل والجسم وعلى دراية المنتجين ودربتهم ومعارفهم.
وجلي، اليوم، أي غداة نيف وأربعة عقود على هذا الوصف، ان "التناقض" الرأسمالي، على حسب صفة كاستورياديس كان الواقعة الاجتماعية الكبيرة التي صدرت عنها حركة نقل بعض أجزاء جهاز الانتاج الرأسمالي من الحواضر الغربية الى البلدان الآسيوية والأميركية اللاتينية. فما يعرف بالتنقيل - وهو نقل أجزاء من جهاز الانتاج الكبير من محل، أي بلد ومجتمع وأهل مجتمع ومنتجين، الى محل آخر أي الى بلد... - وإنما السبب الاجتماعي، وليس "الاقتصادي"، و"الموضوعي"، فيه هو هذه المنازعة الأساس والحاكمة في قلب العلاقات الاجتماعية. وعوامل هذه المنازعة هم الجماعات والافراد، وإراداتهم وتصوراتهم ومعانيهم. والدليل على صدق هذا هو بعث المنازعة أهل الأمر على البحث عن مواضع، أهلوها أقل قدرة على المنازعة في ابتداء أمرهم، بينما يسعى أهل الأمر في ابتكار تقانة لا تترك للمنتجين من العمل، ومن المبادرة التلقائية إليه، الا أقل القليل. وعلى التنقيل هذا ترتب تدويل الرساميل" وعلى تدويل الرساميل ترتبت نذر العولمة وظاهراتها السباقة مثل "تحرير" أسعار العملات، وتعويمها، وترك احتياط الذهب، وتعاظم مبادلات الاسواق المالية، والتمهيد لتحرير التجارة العالمية من الرسوم والاحجام والمراقبة، وإنشاء الأسواق القارية...
كيان الفعل
عندما جمع صاحبنا مقالاته في الثلث الاول من العقد الثامن السبعينات كان قد انتهى من اقتصاصه أثر الحوادث السياسية والاجتماعية، في العقود الثلاثة السابقة، الى مباني هذه الحوادث وأصولها الجامعة. فلم يرَ لانكفاء المنتجين على خاصهم، وعلى حيواتهم الفردية وهمومهم البيتية والحياتية، بينما هم أنفسهم ينازعون، في عملهم وانتاجهم، على حصتهم من المبادهة والمباشرة والابتكار - علةً مقنّعة حملها على سببية "طبيعية" ولو اجتماعية وجدلية. فكل ما يورد على سبيل السبب، أو الأسباب، وعلى سبيل التعليل، لا يخلو من جواز رده وقلبه الى نقيضه.
وعوض البحث في تعليل سببي جديد، أو في تكثير الاسباب وترتيبها، تفحص كاستورياديس النازع الغالب الى حمل الظاهرات الاجتماعية والتاريخية على التعليل السببي والقوننة الطبيعية. فهو بعد ان سخر، على ما تقدم، من غفلة سلف الفكر الاجتماعي والتاريخي الكبير عن تشخيص المنازعة الاجتماعية في مهدها وموضعها الأول، انتبه الى الشبه الكبير والجلي بين موقع الطبقات الآمرة والبيروقراطية من المنتجين وبين موقع أهل النظر والعلم من تاريخ البشر واجتماعهم أو مجتمعاتهم. فأهل الأمر الاجتماعي وأهل النظر العلمي يتشاركون، على قدر واحد وسواء، في طلب إجراء ما يتناولونه، ويتسلطون عليه، على مثال سابق، أو قانون يوجبونه. فتقوم "القوانين" الاقتصادية والاجتماعية من المجتمعات، وبشرها، مقام القوة الطبيعية والغفل، ويطلب لها أهل النظر ما يطلبه أهل الأمر من المنتجين وعامة الناس.
ويتصدر أهل النظر و"العلم"، وهم يزعمون الصدور عن "علم" بالتاريخ والاجتماع يتعالى عليهما وعلى حوادثهما، يتصدرون السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويتولون القضاء في حوادثها ورسومها ومعانيها، باسم معرفة تلم بماهية الحوادث هذه. ولعل الحزب السياسي، على مثال لينين وأصحابه البلاشفة الشيوعيين ومريديه الى اليوم، هو التمثيل الاوضح والأقسى على انتصاب "العلم" المزعوم بالتاريخ والاجتماع، على صورة قوانين، خارج الحوادث التاريخية والاجتماعية، وفوق توليد الحوادث، وفاعليها وأصحابها، المعاني المتفرقة التي تسم مجتمعاً، أو تاريخاً، أو جماعة، بميسمها.
فالحركة العمالية التاريخية، ومناطها البروليتاريا، ارتضت الدخول، مع الماركسية ثم مع "الماركسية - اللينينية"، تحت التقسيم البيروقراطي، وتحت سيادته وجوه الحياة المعاصرة كلها. ولم يعجز كاستورياديس، اليوناني اللغة والثقافة الأصلية والقِيَم السياسية والفلسفية، أن يرد الامتثال لهذا التقسيم الى مثالاته الميتافيزيقية، الأفلاطونية في المرتبة الاولى والأرسطية على قدر أقل. فالعلم بالشيء في نفسه أو ذاته من طريق الإحاطة بماهيته وتعريفه، أو النظر الى مثاله الثابت والجامع قوته كلها على الجواز والصيرورة، إنما هو العلم هذا سلف قسمة الزمن والكائن الى محدث زائل ومتغير والى أزل غير محدث.
ويمثل كاستورياديس بوجوه الرأسمالية، وهي موضوع التأريخ ومدارسه الأثير، على مقالته. فيحصي بعض الوجوه التي تحمل على موضوع واحد، هو الرأسمالية، ومن هذه الوجوه: "من "المدن الحرة" التجارية الى مدينة مانشيستير الانكليزية الصناعية، ومن الساعة ذات الرقاص الى الآلة البخارية، ومن العيد الفلامندي المتهتك الى الأخلاق الفيكتورية المتزمتة، ومن أصناف الحرف وطوائفها الى الديانة الليبرالية، ومن الاصلاح البروتستانتي الى الفكر الحر والمتشكك، ومن بعث الثقافة اليونانية والرومانية الى مزاعم "اللوح البكر" في فلسفة القرن السابع عشر - الى كثرة الأحوال التي حلتها البورجوازية وتفرّق العبارات التي صاغتها عن أحوالها وعن أفعالها مناهجها ونُظمها وقيمها وأفكارها ومفاعيل أفعالها وتأويلها وصرفها الى وجوهها طوال قرون وفي عدد كبير من البلدان - يجتمع وجه اجتماعي وتاريخي واحد. وإثبات الوحدة لهذا "الكائن"، في القول إنه واحد أو وجه واحد، أمر مشكل. فليست وحدته بديهة هي وحدة أفراده" وليست وحدة "الشروط الموضوعية" التي تقلب ويتقلب بين أظهرها" وهي ليست علاقات الانتاج المنقلبة من طور الى آخر من تجار القرن الثالث عشر وحرفيين في "المدن الحرة" الى مصرفيي "السيتي" في القرن التاسع عشر.
وإذا كانت "صورة" العلاقات الاجتماعية واحدة، افتراضاً، فيستدل على وحدة الصورة من شبه نتائج الفعل الاجتماعي التاريخي البورجوازي ومقارنتها بعضها ببعض. ولا يُتناول شبه النتائج على وجهها المادي والحسي، فهو لا يدرك من هذه الطريق" بل ينبغي تناوله من طريق الشبه المعنوي، على قول البلاغة العربية، أي من طريق بنيه المعاني المتشابهة والمتقاربة. ويفضي هذا الى القول "إن البورجوازية هي طبقة تسعى في جمع العالم وتوحيده على ركن بورجوازي" فتعمل في هذا السبيل على اجتثاث كل صور الوجود الاجتماعي السابقة، وتنشىء نظماً لا حاكم فيه غير موجب تنامي قوى الانتاج تنامياً الى لا غاية ينتهي اليها".
ويفيد هذا "التعريف" ان وحدة البورجوازية ليست غير الوحدة التي يضيفها اليها، أي الى تاريخها وصورها وظاهراتها، فعلها التاريخي، وقصدها المجتمِع، على قدر ما تقوى على جمع قصدها وضبط فعلها عليه. ومرجع "التعريف" هو ما يتحدث من جراء الفعل أو من جراء "يفعل"، على حسب ترجمة أهل العربية للمقولات الأرسطية البورجوازي، القائم والمستمر، ومن جراء علاقة الفعل هذا بما يفعل فيه وما يفعل بواسطته. و"الجراء" هذا يبتكر موضوعاً لا مثال له، ولو كان له مثال لحمل عليه ونسب اليه. فهو مثال نفسه، وهو مثال ضرب من الفعل الاجتماعي - التاريخي لا يصدق وصفه بما توصف به "الأشياء"، ولا بما توصف به الذوات والنفس، ولا بما توصف به الصور والتخيلات، الخ.
قد يبدو ان كاستورياديس ينتهي الى ضرب من "اللاهوت السالب"، على ما أخذ عليه يورغين هابرماز الذي خصه بمقالة من "مقالات الحداثة الفلسفية". وهذا المأخذ، المتردد، مجحف. فالتناول التاريخي العيني للموضوعات التي تناولها، وصرف كتاباته المطبوعة والاخيرة اليها، تنم بيقظة "إيجابية" لا ينتابها السهو عن "الانبجاس" ولا تغفل عن رتابة التسليم والتكرير والاستقالة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.