لا يجسّد حسن رمز الغريب الذي يدخل منزل فؤاد وناتاشا ليعكّر صفاء حياتهما. فالمنزل اولاً وأخيراً مبعثر ومفكك مثلما أوحت به السينوغرافيا الواقعية جداً والبسيطة، والعائلة المؤلفة من رجل وامرأة لا تعرف الصفاء اصلاً بعدما انكفأ الزوج على نفسه ووقعت الزوجة في رتابة الحياة اليومية. يدخل حسن المنزل دخول الصديق القديم الذي سوف يثير الذكريات الجميلة والأليمة وحين يرحل في الختام لا يترك وراءه سوى الحنين الى الماضي الذي بات أشلاء في الذاكرة. لم يختر فادي ابو خليل في مسرحيته "بوب كورن" النماذج الثلاثة: حسن وفؤاد وناتاشا إلا ليرسم صورة مصغّرة عن وطن التناقضات قبل الحرب اللبنانية وبعدها. حسن لم يكن بالصدفة مسلماً يسارياً ولا كان فؤاد بالصدفة ايضاً مسيحياً يمينياً، أما ناتاشا الروسية البيضاء التي نشأت في لبنان فهي رمز الانسان المقتلع والحائر وغير المعني بما يُسمى "الفكرة اللبنانية". يلتقي الثلاثة اذن حين يعود حسن من غربته الأميركية التي دامت قرابة العشرين عاماً. ولم يطرق حسن باب صديقيه القديمين إلاّ ليستعيد ماضيه الذي توقّف غداة الحرب الأهلية عام 1975 لكنه سيجد ان صديقيه فقدا ماضيهما بدورهما وباتا يعيشان على هامش الحياة في منزل تحاصره ضوضاء المدينة التي يعاد بناؤها. واللقاء سيكون مناسبة للقليل من الكلام وسيتقطّع اللقاء ايضاً تقطّع حياة الثلاثة وتقطّع شخصياتهم. ولم يعمد فادي ابو خليل الى التقطيع شبه السينمائي إلاّ ليؤكد عدم تواصل الشخصيات بعضها مع بعض وعدم تواصل الماضي مع الحاضر والحاضر مع المستقبل الذي يُبنى في الخارج. وليس غريباً ألا يكمل الأصدقاء كلامهم فتحلّ العتمة قبل ان يلفظوا الكلمات الأخيرة. فلا حاجة للكلام ما دامت الحياة تقارب نهايتها الباردة والبطيئة والخاوية، وما دام ضجيج "المقدح" يطغى على جو المنزل. لم تمحُ السنوات العشرون التي مضت العلاقة التي جمعت بين الثلاثة. ولئن فرحت ناتاشا بحسن العائد فأن فؤاد استعاد بصمت وحذر بعضاً من الغيرة التي كانت تلهب قلبه. فحسن وفؤاد كلاهما كانا يحبّان ناتاشا وكانت ناتاشا تحبّهما كليهما ايضاً. ولم تخفِ انها كانت تتمنى لو أن فؤاد وحسن اجتمعا في شخص واحد. حسن الشاعر الفاشل كان كتب لناتاشا قصائد عدة وناتاشا ما برحت تخبّئ له حباً خاصاً على الرغم من زواجها من غريمه. فحسن وفؤاد صديقان وغريمان في الوقت نفسه ولطالما اختلفا سياسياً قبل الحرب: حسن يساريّ وعروبي وفؤاد يمينيّ. وفيما هرب حسن من جحيم الحرب الأهلية انغمس فؤاد في لعبة الحرب فقتل وشاهد القتلى يموتون. نجح المخرج والكاتب في جعل الصديقين مناقضين لا في شخصيتهما فقط وإنما ايضاً في أدائهما وتعبيرهما. ونجح جورج كعدي في اعتماد الأداء الداخلي ليجسّد شخصية فؤاد المحبط فبدا شبه صامت وشبه هادئ فيما هو يحترق داخلياً. فهو اصبح خارج الحياة كما تقول زوجته لا سيما بعد مقتل صديقه كمال. منقطع تقريباً عن العالم، كلامه قليل، يعاني ألماً في المعدة وما برح مولعاً ب"جدار" فرقة "بينك فلويد". وأمام فؤاد أدى فادي ابو خليل شخصية حسن في طريقة مختلفة عن طريقة جورج كعدي. فهو يختلف عنه اختلافاً شديداً بل بات يختلف عنه اكثر فأكثر بعدما اصبح اميركياً هو اليساري والعروبيّ السابق. يؤدي فادي ابو خليل شخصيته ببعض الصلافة فهو الصديق - البعيد الذي يقتحم بيت صديقه وزوجته التي كان يحبها. ولم يخفِ فادي ابو خليل ناحية التطفّل التي منحته الجرأة على اقتحام المنزل. جاء يسأل عن الماضي، عن اصدقائه، عن زياد الرحباني، عن ليل بيروت وعن الرقص وموسيقى ال "بوب كورن" ... جاء يسأل ايضاً عن البلد وعن السلام الذي حلّ بعد الحرب الطويلة فهو لم يستطع ان يستوعب ما يحصل: حفريات وجنون وصخب. اصبح حسن اميركياً مأخوذاً بحمّى ال "انترنت" التي حوّلته الى انسان آخر على شفير الانهيار. فهو خسر توازنه كمواطن لبناني وأميركي، كمواطن فقد جزءاً من ذاكرته اللبنانية وبات ضائعاً بين لبنانيّته وأميركيّته، بين الحنين والحداثة، بين الوجدان والمعاصرة. وأدى فادي ابو خليل شخصية حسن وفق وتيرة خاصة تجمع بين وجهيها المتناقضين. اما ناتاشا الروسية البيضاء فهي المرأة اللامبالية لا يهمّها إلاّ راتب زوجها الشهري وأن يتحقق حلمها بإنجاب طفل يرفض زوجها ان ينجبه. والشخصية التي تؤدّيها ناتاشا الأشقر اقرب الى المرأة اللعوب التي لا تتوانى عن الرقص مع غريم زوجها وعن الانبهار به مثيرة غيرة زوجها القديمة. امرأة مصابة بالعجز من جراء حياتها الزوجية الرتيبة، تحسد حسن على اقتنائه الجنسية الأميركية. ولا تخلو ناتاشا من البراءة والطيبة: تذكّر زوجها بدوائه وترحّب بحسن كل الترحاب مستعيدة من خلاله لا من خلال زوجها بعضاً من الماضي الجميل والحميم. ونجحت ناتاشا الاشقر في تخفيف الحدة التي اعترت العلاقة بين الصديقين وحضرت بجسدها حضوراً لطيفاً ونمّت حركتها عن خبرتها الطويلة في الرقص. غير ان زيارة حسن المتقطّعة دفعت الزوجين للخروج من رتابة حياتهما ولو لفترة قليلة. فهو في عودته اعاد اليهما الماضي الذي يبحث عنه وأشعل خصوصاً في صدر فؤاد ناراً قديمة لم تخمدها السنوات العشرون، نار الغيرة ونار الكراهية الخفيّة او الباطنة التي غذّتها الحرب. ولن يلبث فؤاد ان يشهر مسدسه الفارغ الذي ما برح يحتفظ به ليعنّف صديقه القديم في لحظات ملتبسة من الغضب والمزاح غير البريء. وبدا العنف المستيقظ لتوّه وليد الهدوء الذي يغرق فؤاد فيه بل وليد البغض الكامن في لاوعيه وهو يكنّه لصديقه وغريمه حسن من غير ان يظهره، بغض يخالجه رغماً عنه ولا يستطيع ان يتخطّاه. ولئن بدا عنف فؤاد عبر لعبة المسدس مبرراً فان تكرار حسن له لم يكن مبرراً كفاية، فحسن الذي ربما يحقد حقداً لاواعياً ايضاً على صديقه الذي فاز بحبيبته لم يكن يحتاج الى مثل هذا العنف ولو كان ظاهرياً او مزيّفاً. فحسن على العكس من فؤاد لا يُخفي في باطنه احاسيس اخرى ولا يضمر مقدار ما يفصح. وقد نجح في سرقة الصليب من الدرج الذي كان يخفي فؤاد المسدس فيه. كأن الصليب الصغير والمسدس هما من إرث الحرب. ولم يسرق حسن الصليب إلاّ ليأخذه معه الى اميركا كذكرى من الحرب الأهلية. اقترب فادي ابو خليل في اخراجه النص الذي كتبه بنفسه، من الواقعيّة الجديدة من غير ان يستسلم لإغراءاتها. فالعرض مقتضب وذو ايقاع متقطع عماده لعبة العتمة والضوء. ولم يكن اختيار المخرج هذه التقنية السينمائية إلاّ ترسيخاً للأحداث المتقطعة إن كان ثمة احداث. غير ان لحظات العتمة غير الشديدة والتي استحالت الى ما يشبه الكواليس بدت صاخبة بالموسيقى والغناء او بضجيج العالم الخارجي وآلات الهدم والبناء. فالعتمة هي جزء من العرض وعبرها يتذكر الجمهور على الطريقة البريشتية انه يشاهد عرضاً او لعبة ثلاثية. اما النص فبدا واقعياً بدوره خالياً من الإنشائية ومكتوباً كتابة دراماتورجيّة واضحة. فكلام الشخصيات قليل نسبياً وحواراتها محددة ومقتضبة وأفعالها قائمة في دواخلها. واستطاع فادي ابو خليل عبر شروعه شخصياً في كتابة نصّه ان يتخطى ما يسمى ازمة النص التي يرزح المسرح اللبناني والعربي تحت وطأتها. وتمكّن فعلاً من كتابة نص جميل قابل للإخراج والأداء وبعيد كل البعد عن الأدب المسرحي. وكان ابو خليل قريباً كل القرب في كتابته النص من الواقع اللبناني ومن الحياة اللبنانية الواقعية واليومية وجعل كل شخصية تتكلم كلامها الحقيقي وغير المصطنع. لم يخلُ العرض من طابع الرثاء والسخرية المرّة على السواء. فالمخرج والكاتب غدا كأنه يرثي زمناً كان ولم يبقَ، هو زمن بيروت ما قبل الحرب، زمن الأحلام والآمال الكبيرة التي سقطت تباعاً. اما السخرية فتجلّت في حال العبث والجنون والتفكك التي عاشتها الشخصيات داخل المنزل المبعثر. ولم تتوان الشخصيات الثلاث عن الرقص على موسيقى ال"بوب كورن" الشهيرة وكأن حياتها أضحت شبيهة بحبّات "البوشار" التي تفرقع وتطير في الهواء. عرض مؤثر وجميل خالٍ من أي ادّعاء، واقعي وشاعري نابع من الذاكرة الجماعية، من الاحلام الجماعية التي سقطت. ولم يكن سقوط الشخصيات الثلاث في صمتها اخيراً إلا دلالة على عزلتها وعلى موتها المجازيّ في مرحلة السلام والبناء. وبدا حنين ناتاشا المستعر الى الماضي مسعى للخروج من الزمن الحاضر الذي تشعر فيه وكأنها من جنس الحيوان. والشخصيتان اللتان فرّقتهما الحرب فرّقهما السلام ايضاً، فرّقتهما المدينة التي تغيّرت، بل الحياة التي ما عادت تنتمي الى الحياة.