الحملة العنيفة التي يتعرّض لها الزواج المدني في لبنان ليس لها ما يبررها. فالزواج المدني كما ينص مشروعه هو زواج اختياري، وليس إجبارياً ولن يجد اللبنانيون أنفسهم ملزمين به ما دام قائماً على هامش الأحوال الشخصية. وإن كان من الصعب على اللبنانيين عموماً أن يتخلّوا عن طوائفهم ومذاهبهم في ظل دولة عاجزة عن نزع الخوف الطائفي من نفوسهم، فإن الزواج المدني سيكون خيار الأقلية اللاطائفية التي لا تميّز بين مواطن وآخر تبعاً لانتمائه الطائفي. وليس من المستهجن ان تقوم الحملة ضد الزواج المدني في مرحلة من أشد المراحل طائفية. فالطائفية التي كانت حافزاً من حوافز الحرب الأهلية لم يستطع السلم الأهلي أن يلغيها لا من النفوس ولا من النصوص، بل هي ازدادت حدّة في الآونة الأخيرة حتى شملت ملاعب الرياضة. وإن كان اللبنانيون يختلفون طائفياً على الرياضة فعلى أية قضية تراهم سيلتقون؟ لم تبقَ الطائفية مادة للسخرية والضحك على خشبات المسارح ولا أمراً من الأمور الثانوية التي يمكن تأجيلها، فهي كلما تجاهلتها الدولة ازدادت استشراء داخل المجتمع اللبناني. وعوض ان تُعالج الدولة الطائفية معالجة جدّية وجذرية نجدها تتلكأ حيالها غير مبالية بأخطارها التي تهدد الكيان اللبناني. ترى ألم تكن كافية امثولة الحرب اللبنانية التي دامت قرابة عشرين عاماً لتفقه الدولة ان الطائفية ما برحت مسألة ملحّة وخطرة؟ وإذا لم تتعلم الدولة من الحرب المأسوية فمّم ستتعلّم إذن؟ ولا ندري ما سرّ هذا التجاهل الذي يبديه المسؤولون حيال قضية الطائفية وتلك اللامبالاة التي يُظهرونها وكأن الصراع الطائفي الذي يهيمن على المجتمع سراً وجهاراً هو صراع متوهّم وغير حقيقي. ويكفي ان نستعيد بعض الشعارات الفولكلورية التي يختبئ السياسيون وراءها لندرك كم ان المعالجة سطحية وغير جدّية. لسنا في مجال الخوض في خضمّ الطائفية اللبنانية فهو خضم خطر وأشبه بحقل الألغام، لكن الرفض الذي واجه مشروع الزواج المدني هو خير دليل على رفض اي مشروع علماني مهما ضؤلَ حجمه. والمستقبل الذي تعدنا الدولة به هو مستقبل مبني على القاعدة الطائفية نفسها التي بُني عليها ماضينا. اي مستقبل معرّض دوماً للهزّات الطائفية والمذهبية التي شهدها لبنان خلال حقبات من تاريخه. طبعاً ليس المطلوب إلغاء الطائفية إلغاء نهائياً وسريعاً، فهي اصلاً لا تلغى بسهولة إن لم يكن يستحيل إلغاؤها في وطن مركّب تركيباً طائفياً. لكن المطلوب خلق مناخ عام يساعد في تجاوز النزاع الطائفي المضمر والمعلن ويخفف من حدة الطائفية ويوفّر فرصة لحوار حضاري وديني راقٍ وحقيقي. وليس الزواج المدني الاختياري إلا خطوة اولى نحو ترسيخ حالة علمانية يحتاج لبنان اليها حاجة ماسّة في هذه المرحلة. وسيظل الزواج المدني زواجاً اختيارياً ولن تأخذ به إلاّ قلة قليلة من العلمانيين الذين ينتمون الى وطنهم وليس الى طوائفهم ومذاهبهم. ترى لماذا لا تُحسب جماعة العلمانيين طائفة من الطوائف الكثيرة في لبنان، طائفة لا مرجع لها سوى المواطنية الحقّة والانتماء الى وطن مثالي حتى وإن كان متوهّماً؟ الزواج المدني لا يعني بالضرورة التخلي عن الدين بل هو يسهم في لقاء الأديان وفي بلورة الإنتماء الديني وجعله انتماء الى حضارة العصر، الى حضارة الحوار، الى حضارة تعترف بالآخر وتحترم حقوقه. لو أن الذين يعارضون مشروع الزواج المدني ويشجبونه يتروّون قليلاً ويرجعون الى نظامه لكان في امكانهم ان يستوعبوه ويستوعبوا بعده الحضاري. وتأييد مثل هذا المشروع يخفف من حدة "الهستيريا" الطائفية التي تعتري لبنان اليوم وقد تمثلت اخيراً في تقسيم الرياضة تقسيماً طائفياً. وكم نحتاج فعلاً الى أيدٍ تنثر بذور الخير والألفة والحوار...