يدور جدل عميق داخل المجتمع اللبناني على طرح قضية الزواج المدني واستحداث قانون اختياري له في لبنان، في مقابل قوانين الاحوال الشخصية التي تربط مؤسسة الزواج بالدين واحكامه وشرائعه وقوانينه، مع ما يتفرع منها من ارث وانتماء الاولاد الديني... الخ. ويدور الجدل على مستويين: الاول سياسي يتناول الظروف التي يطرح فيها الموضوع الذي تتداخل فيه مجموعة من العوامل السياسية تبدأ بتأثير النكايات والمناكفات بين "ترويكا" الحكم رؤساء الجمهورية الياس الهراوي والمجلس النيابي نبيه بري والحكومة رفيق الحريري على توقيت طرحه من جانب الهراوي، ولا تنتهي بالمناورات في معركة رئاسة الجمهورية التي فتحت على مصراعيها على رغم محاولات عدم تأجيجها، وبأوضاع كل من الرؤساء ضمن طائفته وموقفه من نظرة رموزها الى هذه القضية. اما المستوى الثاني فهو المبدئي المتعلق بمواقف ايديولوجية، للمعارضين والمؤيدين للفكرة وعلاقة هذه المواقف بنظرة كل منهم الى الاصلاحات المطلوبة ضمن المجتمع اللبناني خصوصاً في ما يتعلق بشعاري الغاء الطائفية السياسية والعلمنة. وفي هذا الاطار هناك مواقف تاريخية لدى الكثير من القوى سابقة على الحرب اللبنانية ولاحقة لها. السجال سياسياً على المستوى السياسي يقول أحد الوزراء الذين صوّتوا الى جانب طرح مشروع القانون الذي أعده الهراوي في شأن الزواج المدني الاختياري ان "الموافقة على طرحه لم تكن تحمل في طياتها الدخول في معركة كسر عظم مع رئيس الحكومة في مقدار ما ينم التصويت عن قناعات عدد من الوزراء، في دعم المشروع". واكد الوزير لپ"الحياة" ان وقوف غالبية الوزراء مع طرح المشروع كانت مضمونة قبل بدء جلسة مجلس الوزراء، وان وزراء اجروا اتصالاً برئيس الحكومة وأبلغوه نيتهم الاقتراع لمصلحة المشروع من دون ان يعني ذلك الانحياز الى رئيس الجمهورية الذي اصر على طرحه من خارج جدول اعمال الجلسة. ولفت الى ان تصويت معظم الوزراء الى جانب المشروع، "جاء انسجاماً مع اقتناعات بعضهم، ومطالبتهم الدائمة بالغاء الطائفية السياسية، ومن خلالها اقرار مشروع الزواج المدني الاختياري"، مشيراً الى ان "الخارطة السياسية للوزراء تدعم هذا الاستنتاج خصوصاً انهم ينتمون الى احزاب وتنظيمات سياسية كانت ولا تزال تطالب بذلك". وسأل الوزير في تبريره مواقف زملائه الذين أيدوا طرح الزواج المدني: "ألم تكن احزاب التقدمي الاشتراكي والبعث العربي الاشتراكي والسوري القومي الاجتماعي والوعد ومعهم حركة "امل" من دعاة الغاء الطائفية وتطبيق الزواج المدني الاختياري، اضافة الى ان بعض الوزراء الآخرين كانوا ينتمون سابقاً الى احزاب ولم يبدّلوا من اقتناعاتهم على رغم انهم تركوا هذه الاحزاب لاسبابهم الخاصة؟". وقال ان مجموع الوزراء المنتمين الى الاحزاب او الوزراء الذين تربطهم بها علاقة جيدة، اضافة الى الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية، شكلوا غالبية في الجلسة سمحت بطرحه على بساط البحث. ولم يقلل الوزير من التعليقات السياسية التي حاولت ان تربط بين توقيت طرح مشروع الزواج المدني، والاستعداد لفتح ملف استحقاق انتخابات الرئاسة، وان كان الهراوي أصر على طرحه من زاوية انه يود ان ينهي ولايته بوضع حد للتطييف المذهبي الذي ظهر جلياً من خلال بعض المباريات الرياضية. ورأى الوزير ان الهراوي "ربط بين طرح مشروع الزواج المدني وتوجيه رسالة الى رئيس المجلس النيابي يحثه فيها على الاعداد لتشكيل الهيئة الوطنية لبرمجة الغاء الطائفية"، مؤكداً ان "الربط كان وراء موافقة الوزراء المحسوبين على حركة امل، ما برر موافقتهم على الزواج المدني في مقابل بدء تشكيل الهيئة الوطنية". ورأى ان بري "سيواجه الموقف المعارض في الوسط الشيعي لمبدأ الزواج المدني، بالرسالة التي وجهها الهراوي الى رئاسة المجلس النيابي عن الغاء الطائفية". واكد ان رئيس الحكومة "لم يتدخل لدى الوزراء ليطلب منهم التريث في الموافقة على توقيت طرح رئيس الجمهورية، فلو انه اعتقد ان التصويت سيتم في الجلسة لكان اتصل بالوزراء في محاولة لاقناعهم بتأجيله. بل ان نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر طرح صيغة توفيقية لم ترَ النور نظراً الى ان الاجواء لم تكن مشجعة وان الهراوي تمسك بطرح مشروعه من دون ان يأخذ بطلب رئيس الحكومة التريث". واشار الى ان صيغة الوزير المر تضمنت نقطتين، الاولى ان مجلس الوزراء اخذ علماً برسالة الهراوي الى بري، والثانية "بعد الموافقة المبدئية على طرح المشروع، لا بد من تشكيل لجنة وزارية تتولى اعادة صوغه في ضوء الملاحظات التي ستتسلمها من الوزراء". وعزا سبب عدم الاخذ باقتراح المر الى ان اجواء الجلسة كانت مشدودة. وقال ان انعدام التواصل بين الهراوي والحريري، في شأن طرح المشروع، كان وراء احباط المحاولة التوفيقية، مع ان وزراء كُثرين ممن أيدوا موقف رئيس الجمهورية ابدوا استعدادهم للتوصل الى حل وسط، شعوراً منهم بان التصويت سيقود الى مشكلة ربما تتطور الى ازمة يصعب التغلب عليها، وستنعكس سلباً على اجواء مجلس الوزراء على نحو يهدد انعقاد الجلسات. واوضح الوزير ان "من الخطأ الدخول في تجاذب سياسي منذ الآن، هل يوقّع الرئيس الحريري على المشروع تمهيداً لاحالته على المجلس النيابي، أم لا، خصوصاً ان الدستور يكفل للوزراء مناقشة المشروع بنداً بنداً، والا ما هو التفسير العملي لطلب رئيس الجمهورية من وزير العدل الدكتور بهيج طبارة الذي اقترح مناقشته ان يودع ما لديه من ملاحظات، الامين العام لمجلس الوزراء هشام الشعار؟". وتابع: "لم يكن لدمشق دور او علاقة بكل ما حصل في الجلسة، اذ لا تستطيع ان تطلب من بعض الوزراء عدم الموافقة على طرح المشروع، بعدما ربط بتحضير الاجواء لالغاء الطائفية السياسية، خصوصاً ان النظام في سورية لا ينص على توزيع طائفي للسلطة، وبالتالي لا تستطيع الاعتراض في المبدأ على اي خطوة تهدف الى تطوير النظام اللبناني والا بدت كأنها تدعو الى ابقاء الوضع الراهن على حاله او تؤيد العودة به الى الوراء...". والجدل الدائر على المستوى المبدئي يكشف مشكلة كبرى بين القوى السياسية وتناقضات لا حصر لها. فما ان طرح المشروع حتى انكشفت مواقف من انواع عدة: - قوى هي مع المبدأ لكنها اعترضت على التوقيت نظراً الى تداخله مع الظروف السياسية أو اعترضت على ربطه برسالة الهراوي عن التعجيل باجراءات الغاء الطائفية السياسية. واكثر هذه القوى مسيحية مثل حزب الكتائب الذي يقول بالعلمنة تاريخياً، وبالتالي لا يعترض على الزواج المدني، لكن رئيسه جورج سعادة سأل هل هذا وقته؟ ورفض حزب الوطنيين الاحرار ربطه بالغاء الطائفية، فيما لم يعلق حزب الكتلة الوطنية الذي يشكل عميده ريمون اده أشد المتحمسين للفكرة. وبين هذه القوى ايضاً بعض الاحزاب والشخصيات الاسلامية، التي وجدت نفسها مضطرة الى مراعاة القيادات الدينية الاسلامية. فحتى الحريري لم يعترض على المبدأ بل على التوقيت وعلى ظروف المشروع، اضافة الى قوى وشخصيات اسلامية منتمية سابقاً وراهناً الى القومية العربية. - القوى التي لها موقف مبدئي ضد الزواج المدني اياً كانت مبرراته، لاسباب دينية، وتضم المرجعية السنية ومرجعية السيد محمد حسين فضل الله و"حزب الله"، اضافة الى بكركي التي جهرت برفضها الفكرة لسبب ديني كنسي، ولموقف تضامني مع دار الفتوى. يضاف الى ذلك موقف رموز من "القوات اللبنانية" المحظورة. اما رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الامام محمد مهدي شمس الدين فكان سبق ان كان ليناً حيال الفكرة لكنه تضامن مع المفتي الشيخ محمد قباني. - القوى المؤيدة للفكرة مبدئياً ووقفت معها اياً كانت الظروف السياسية، نظراً الى اعتبارها ان التجاذب السياسي الحاصل يجب الا يلغي الوقوف في شجاعة الى جانب خيار يساعد في تحديث المجتمع واخراجه من التقوقع الطائفي، عبر تشريع الزواج بين افراد من طوائف مختلفة، لانه يخفف مع الوقت من الاستقطاب الطائفي داخل المجتمع والأسر. واضافة الى القوى والاحزاب التي أيدت الفكرة في مجلس الوزراء، هناك العماد ميشال عون الذي رأى الخطوة جيدة ما دامت اختيارية. واذ سبب طرح المشروع اختلافاً بين قوى من طائفة واحدة امل و"حزب الله"، وعون و"القوات"، فان السجال الذي يدور ضمن الطبقة المثقفة أثبت وجود تيار راجح لمصلحة الفكرة يعتقد ان من الافضل، اياً كانت العوائق، الاستفادة من الحجر الذي رماه الهراوي في المستنقع الطائفي من اجل الاندفاع بهذا الخيار واطلاق نقاش وطني حوله. لكن الكثير من خيبة الامل اصيب بها بعض المثقفين نتيجة اعتقادهم بأن الاجواء التي سبقت الحرب كانت تتيح نسبة تأييد اكبر للمشروع وان الشحن الطائفي الذي حصل بسبب هذه الحرب زاد خصومه بدلاً من ان يخفف منهم، فبات التقوقع الطائفي يؤثر في تقدم المجتمع نحو تشريعات تسمح بحرية شخصية وفردية اكثر.