اقالة الرئيس بوريس يلتسن حكومته ورئيسها فيكتور تشيرنوميردين، وحصول هذه الإقالة بشراسة وسرعة بعد اسبوع على توعك صحي ألزم يلتسن الفراش، أعادت الى صفحات الاعلام الدولي صورة روسيا الآسيوية الخاضعة لقيصر مريض ينازع. لكن عدم الاستقرار الذي تخشاه صحافة العالم لروسيا طغى، عبر التعليقات، على تحليل تصرف يلتسن الذي خلع ما كان بدأ يظهر كخليفة محتمل له وعيّن مجهولاً صغير السن لا يشكل خطراً حتى في القرن القادم على الرئيس الروسي! فتصرف يلتسن الذي يذكر بهارون الرشيد والبرامكة لا يهم العالم بقدر ما يعنيه انخراط روسيا في حركة الاقتصاد الدولية واستقرار هذه المنطقة الشاسعة التي تفصل بين ثلاث قارات. بيد ان الزعيم الروسي لم يتوقف عند هذه الخطوة، بل ألحقها امام عدسات التلفزيون الروسي بتوبيخات لطاقمه وتهديد بپ"افنائه" ان لم يذعن لقراراته وينفذها: "من لا ينفذ القرارات الرئاسية يوقع على مذكرة موته... ليس هناك من شيء تقومون به يعجبني اليوم..."، قالها يلتسن كمحاولة منه لاستعادة السلطة والحياة بعد فترة مزمنة من المرض والاشاعات. خليفة تشيرنوميردين الموقت أدرك ان تعيينه لا يعود فقط لصورته كإصلاحي بقدر ما يعود ايضاً لصغر سنه وعدم تشكيله أي خطر على القيصر. فسرجاي كيرينكو رفض الجلوس في مكتب رئيس الوزراء، مفضلاً مكتب نائبه، كتأكيد منه على تقنية مركزه الجديد الذي تكمن مهامه الأولى في تنفيذ سياسة يلتسن. لكن ما حمل يلتسن على اقالة تشيرنوميردين الذي كان يبدو كمنقذ "سوفياتي" لقرارات رئيسه ؟ قد يكون علاقة رئيس الوزراء المخلوع بوسائل الاعلام التي أودت به. فتشيرنوميردين الذي بدأ حياته كموظف مجهول وعضو في الحزب الشيوعي على مدى ثلاثين سنة، لم يكن حتى الفترة الاخيرة نجماً قادراً على استقطاب اي تأييد شعبي لشخصه: مخلص ليلتسن، بلا طموح سياسي واضح، وهو لم يكن يظهر على شاشات التلفزيون الا برفقة معلمه. هذه الصورة بدأت تتغير في الأشهر الاخيرة مع تدهور صحة الرئيس الروسي وغياباته الطويلة عن الحياة السياسية. فالموظف "الرمادي"، الذي كان يُهمهم عندما يخطب، والذي نال "ميدالية" درجة ثانية مع قرار طرده، كان في الشهر الماضي النجم الصاعد في الاعلام الاميركي بعد لقائه بنائب الرئيس كلينتون، آل غور. "الشريك الجدي"، "القائد الذي يحمل مشروعاً"، القاب مُنحت لتشيرنوميردين في الولاياتالمتحدة حاملة إياه على دخول موجة الاعلام ومحاولته تحسين صورته فيه. فالذي كان قد صرّح مراراً بأنه يمشي في ظل يلتسن وان لا طموحات سياسية تغريه، بدأ يُدلي امام عدسات التلفزيون بعبارات كپ"اليوم أنا مسؤول عن الحكومة وأعمالها، فلنتكلم عن الانتخابات عندما يحين موعدها...". والذي كان يخشى الاعلام ووسائله المرئية، قرر ان يخصص كل اسبوع ربع ساعة للظهور على الشاشة الصغيرة في برنامج اسئلة وأجوبة مهيأة سلفاً، وذلك لإكساب الموظف والاقتصاد صفة الرجل السياسي. غير ان تشيرنوميردين لم يعد يكفيه برنامج واحد، فبدأ يظهر مراراً في برامج الترفيه والتسلية، تارة في لباس غير رسمي وطوراً وهو يعزف على الاكورديون، كما اخذ يناقش الشعب والعمال امام العدسات ويتكلم عن اصوله الريفية. وهذه العلاقة الجديدة والمميزة بالتلفزيون كانت ايضاً وليدة صداقته الجديدة مع رجل الاعمال النافذ و"الاعلامي الاكبر" في روسيا: بوريس بيريزوفسكي الذي كان قد موّل خلال السنة الماضية حملة يلتسن الانتخابية، قبل ان يتعرض بدوره لغضب الرئيس الروسي المسن. وبريزوفسكي هذا صرّح قبل أشهر بأن تشيرنوميردين هو افضل مرشح لخلافة يلتسن لإكمال سياسة الاصلاحات ومنع الانقسامات. بيد ان بيريزوفسكي ذاته، بعد تعرضه بطريقة غير مباشرة لانتقادات الحكومة التي صرّحت بأنها لن تسمح بأي احتكار لوسائل الاعلام وهذا ما كانه مشروع البليونير الروسي الجديد غيّر فكره وأخذ يحارب تشيرنوميردين. وهذا على الأقل اوحت به الصحافة الروسية التي فضلت هذا التحليل المدعوم بتصريحات بيريزوفسكي حول ضرورة تغيير الطاقم، على القبول بأن قرار الطرد ناتج عن عطش يلتسن الى البقاء في السلطة والتفرد بها. انه درس يبدو ان رئيس الوزراء الروسي المخلوع قد فهمه، فصرّح بعد قرار عزله بأنه غير مرشح لأي منصب رئاسي في سنة 2002! زعيم روسي وسوفياتي سابقا آخر لم يعد يحظى بأي اهتمام صحافي منذ سنوات عدة، حاول مؤخراً العودة الى تحت الاضواء. ميخائيل غورباتشوف، الذي لم ينل في الانتخابات الاخيرة 1 في المئة من الاصوات، اطلّ على شاشات تلفزيون روسيا في نهاية العام الماضي. سبب "الاطلالة" كان تسويقه للبيتزا الاميركية PIZZA HUT. الفيلم الاعلاني يُرينا الرئيس السابق برفقة حفيدته يتذوق البيتزا في الساحة الحمراء امام جمهور يُقر بفضله في ادخال الشركة الاميركية الى موسكو. الا ان "بيتزا هوت" قررت توزيع الفيلم الاعلاني في... الولاياتالمتحدة وعدم استخدامه في روسيا، لما لغورباتشوف من صورة سيئة قد تكون انعكاساتها وخيمة على العجينة الاميركية...