بات الناس في روسيا وخارجها معتادين الآن على الاسلوب غير المتوازن، الى حدّ مَرَضي، للرئيس الروسي بوريس يلتسن في معالجة مشاكل بلاده. فمرة اخرى يغادر يلتسن فراش المرض ويتوجه الى الكرملين ويتخذ اجراءات صارمة تتجاوز المتوقع والمعقول كأنه لا يرمي الا الى تكذيب القائلين بأنه مريض عاجز. ولكن هل حقاً ان القرار الحاسم الذي اتخذه يلتسن بعزل رئيس الوزراء وكامل اعضاء حكومته دليل على عافيته وسيطرته على الامور وقدرته على اتخاذ أي قرار، مهما كان راديكالياً، لمواجهة الامراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها روسيا وتتفاقم في استمرار حتى باتت مزمنة كما هي امراض رئيسها؟ كان نيكولاي الثاني، آخر قياصرة روسيا، يداري عجزه عن ادارة البلاد ومعالجة امراضها المزمنة بإقصاء وزرائه وقادة جيشه كإنما ليبرّئ نفسه من تدهور اوضاعها حتى تفاقمت الامور الى حدّ استطاع معه البلاشفة ان ينقضّوا على السلطة فيها ويحتكروها طوال 70 عاماً قبل ان ينهار الاتحاد السوفياتي بالطريقة المزرية المعروفة. هكذا ايضاً يتصرف بوريس يلتسن، فهو، بين حين واخر، يطلّ من مرضه لكي يُحوّل وزيراً او مستشاراً او حكومةً، كبش فداء لتبرئة نفسه من مسؤولية تفاقم الاوضاع وتدهورها، مع انه رئيس تنفيذي يتمتع بسلطات واسعة تكاد تجمع بين سلطتي قيصر روسيا وامين عام لحزب شيوعي سوفياتي بائدين. والمشكلة هي ان يلتسن لا يملك براعة خاصة في ادارة شؤون الدولة على صعيدي الاقتصاد والمال، وهما المجالان الاكثر اهمية في الحياة الروسية. لكن الخبرة الرئيسية التي اتيح له اكتسابها عبر مركز مسؤول كبير في الحزب الشيوعي السوفياتي السابق تتمثل في القدرة على ادارة المناورات السياسية من وراء الكواليس. وطبعاً ليس صعباً التصور ان يلتسن ما كان ليستطيع حتى في الحلم ان يعود الى واجهة المسرح السياسي لو انه كان عُزل من منصبه في عهد سابق لعهد ميخائيل غورباتشوف الذي كان بدأ عملية اصلاحات سياسية واقتصادية أدت في النهاية الى تقويض سلطة الحزب الشيوعي ما أتاح ليلتسن، وغيره لاحقاً، فرصة العودة الى العمل السياسي. بعبارة اخرى يبدو يلتسن قوياً بما يملك من سلطات وببراعة في البقاء في القمة والتحرك من وراء الكواليس لا ضد خصومه فحسب، بل ضد انصاره اذا شعر بأن هؤلاء صاروا اقوى مما يجب. يُقال هذا مع تأكيد ان هذا الاسلوب في ادارة الصراعات السياسية لا يمكن مقارنته بأساليب القمع الشيوعي في العهد السوفياتي، طالما ان الساحة السياسية التعددية لم تعد حكراً على حزب واحد. المشكلة هي ان يلتسن يتمسك بهذا الاسلوب ولو على حساب استقرار سياسي او اقتصادي، كما هي الحال بالنسبة الى التغيير الاخير، فرئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين كان يشكّل، داخلياً وخارجياً، نوعاً من الضمان قد لا يوفّره غيره لاستقرار سياسي واقتصادي نسبي. ولكن، مرة اخرى، يُقال هذا مع التنبيه الى ان المنطق السياسي في روسيا يلتسن وجيرينوفسكي وزيوغانوف وليبيد يُقاس بمعايير روسية بحتة.