اثر نشوب حرب الخليج بين قوات التحالف الدولي والعراق، في 17/1/1991، شن العراق قبيل فجر اليوم التالي وحتى مساء يوم 26 منه، ست هجمات بصواريخ "سكود" على إسرائيل، سقط خلالها 39 صاروخاً - كان الواحد منها يحمل 150 كلغ من المتفجرات التقليدية - على مدن تل ابيب وحيفا ومناطق أخرى، كان من بينها منطقة ديمونا في صحراء النقب حيث يوجد المفاعل النووي الاسرائيلي، التي سقطت فيها ثلاثة صواريخ مزودة رؤوساً اسمنتية وذلك بهدف محاولة اختراق سقف المفاعل. فضلا عن صاروخ آخر سقط في البحر المتوسط. وكان العراق يستهدف من هذه الهجمات الصاروخية على اسرائيل آنذاك محاولة إعادة رسم الخريطة السياسية للحرب من خلال كسر التحالف العسكري بين قوات الدول العربية المشاركة في الحرب ومختلف قوات دول التحالف الدولي الأخرى. ووقتها قالت اسرائيل ان خسائرها الناتجة عن هذا القصف بلغت 4 قتلى و189 جريحاً بالإضافة إلى الدمار الذي لحق ببعض الممتلكات. ولكن وكالة "اسوشيتدبرس" للأنباء نشرت مقالة تحت عنوان "الاسرائيليون يناقشون الاستعداد للحرب" يوم 17/2/1998، جاء فيها أنه "قليلاً ما يذكر في هذه الأيام أن الذعر اثبت أنه يسبب موتاً أكثر من الصواريخ خلال حرب الخليج. فقد قتل اثنان نتيجة القصف الصاروخي العراقي المباشر. كما مات 11 شخصاً آخرين نتيجة نوبات قلبية اصابتهم بسبب الخوف أو لسوء استخدامهم لأقنعة المضادة للغازات السامة. وجرت معالجة المئات بعد ذلك بسبب أخطائهم في حقن انفسهم بالمضادات الخاصة بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية". يذكر أن العراق حين استخدم رؤوساً حربية تقليدية لصواريخه الباليستية الأربعين التي أطلقها على اسرائيل العام 1991، كانت لديه رؤوس كيماوية بوفرة آنذاك وسبق له استخدامها في حربه ضد ايران، كما استخدم غازات سامة ضد الأكراد في حلبجة العراقية العام 1988، من دون أن يثير كل ذلك ردود فعل غاضبة من قبل الولاياتالمتحدة التي ثبت أنها زودت العراق بنحو 14شحنة من المواد البيولوجية المختلفة بين 1985 و1989. أو من قبل بريطانيا التي اعترفت وزارتا التجارة والصناعة فيها، يوم 19/2/1988، بأن صادراتها للعراق من المواد التي تستخدم في إنتاج غاز "انثراكس" المميت استمرت من دون مراقبة حتى كانون الأول ديسمبر 1996. وفي مجال تقويمهم لفاعلية القصف الصاروخي العراقي لإسرائيل المذكور قالت المصادر العسكرية الإسرائيلية، إن كل صواريخ سكود العراقية التي استخدمت تم إطلاقها بنجاح "رغم تحطم بعضها في الجو أثناء سقوطه وسقوط البعض الآخر في البحر. لكن لم تكن هناك عمليات إطلاق فاشلة، الأمر الذي يعني أن قدرة العراق التكنولوجية في هذا المجال هي أمر لا يمكن تجاهله". هذا وقد وفر البنتاغون لإسرائيل، آنذاك، اتصالاً مباشراً لمعلومات الأقمار الاصطناعية التي ترصد عمليات إطلاق الصواريخ، وسمح هذا الاتصال بالاستغناء عن الاتصال للإنذار بالهاتف، الأمر الذي أتاح لإسرائيل دقائق عدة للتأهب عند إطلاق كل صاروخ "سكود" أطلقه العراق عليها. وعادت أجواء 1991 إلى اسرائيل مرة أخرى إثر تجدد أزمة المفتشين الدوليين بين العراقوالولاياتالمتحدة أخيراً خصوصاً بعدما أدلى ريتشارد بتلر رئيس لجنة التفتيش على الاسلحة المحظورة، بتصريحه الى صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 27/1/1998، الذي قال فيه "إن العراق يملك صواريخ مزودة برؤوس بيولوجية كافية لإبادة تل ابيب"، وكان سبق له أن أكد امام ممثلي الطائفة اليهودية الاميركية، في الليلة السابقة، أن العراق يملك 45 رأساً للصواريخ لم يعثر المفتشون عليها. وعلى رغم أن اسحق موردخاي وزير الدفاع الاسرائيلي صرح، يوم 28/1/1998، بأن لا داعي للقلق وأنه تجري متابعة التطورات عن كثب. وتابع قائلاً: "في هذه اللحظة يجب أن نستمر في حياتنا المعتادة"، فقد ساد التوتر في اسرائيل في اليوم التالي لتصريحات بتلر وتهافت السكان من أجل الحصول على الاقنعة الواقية من الغازات، وقامت الحكومة الاسرائيلية بشراء واقتراض مئات الآلاف من الاقنعة الواقية من الغازات السامة من ألمانيا والسويد وهولندا والنروج والولاياتالمتحدة، فضلاً عن طلب العقاقير المضادة للاسلحة البيولوجية من الولاياتالمتحدة وفرنسا. كما تم فتح 41 مركزاً على الاقل لتوزيع الاقنعة الواقية على السكان أو تجديد اقنعتهم القديمة. كما تم إعداد نحو 150 مركزاً للخدمات الصحية اللازمة لإسعاف السكان في أي منطقة يتم قصفها بأسلحة كيمياوية او بيولوجية، ونشر ما لا يقل عن 350 صفارة إنذار في كل أنحاء اسرائيل لإطلاقها بالتزامن في حال حدوث هجوم صاروخي عراقي، إضافة الى توفير كميات كبيرة في الاسواق من أغطية البلاستيك اللازمة لإعداد "غرف آمنة" لا تتسرب إليها الغازات السامة عند الضرورة. كما قام الآلاف من السكان بإعداد جوازات سفرهم وحجزوا تذاكر سفر بالطائرات تمهيداً لمغادرة البلاد بسرعة عند الضرورة! وإثر انتهاء اجتماع تم في وزارة الدفاع الاسرائيلية ضم كبار المسؤولين العسكريين الاسرائيليين، يوم 3/2/1998، صرح مساعد رئيس الأركان الجنرال شاؤول موفاز: "إننا مستعدون. إننا أقوياء، وفي هذه المرحلة نحن ننصح الجمهور بأن ينصرف إلى شؤون حياته المعتادة. وإذا شعرنا بأن هناك تغييراً في تقديرنا للموقف فسوف نعطي الجمهور التعليمات الخاصة بما يجب أن يفعل وضمن فترة إنذار كافية". كما صرح العميد عاموس جلعاد رئيس دائرة تقدير الموقف في الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، في اليوم نفسه بأن صدام حسين "لديه قدرات أقل بشكل كبير عما كانت لديه في 1991، ولكن من المؤكد أنه لا تزال لديه اسلحة بيولوجية وكيمياوية، وإثنتان أو ثلاث أو خمس منصات اطلاق صواريخ وبضع عشرات من الصواريخ". ولكن ذلك لا يعني أن الدوائر العسكرية الاسرائيلية رجحت إقدام العراق على استخدام هذه الصواريخ برؤوسها غير التقليدية ضد اسرائيل في حال وجهت اميركا ضربة عسكرية له، إذ فقد صرح رئيس الاركان أمنون شاحاك بأن "فرص استخدام العراق للأسلحة غير التقليدية ضدنا قليلة للغاية. وليس هناك داع للذعر". كما صرح نتانياهو، في اليوم ذاته، بأن هناك "احتمالاً ضئيلاً للغاية" لإمكان حصول هجوم صاروخي عراقي سواء بأسلحة غير تقليدية أو تقليدية ضد اسرائيل في حال حدوث مواجهة عسكرية بين الولاياتالمتحدة والنظام العراقي. واستطرد قائلا: "وفي أي الاحوال فإن لدى اسرائيل درءاً تكتيكياً"، وعندما سُئل عن التهديد المحتمل للسكان في تعرض المدن الاسرائيلية لضربات برؤوس بيولوجية أو كيماوية قال: "إن اسرائيل لديها القدرة على التعامل مع مثل هذا الموقف بكفاءة". ومن جانبها عملت الولاياتالمتحدة على طمأنة اسرائيل ودعم أمنها في مواجهة التهديد العراقي المزعوم، فعقب انتهاء محادثات وزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبرايت مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، يوم 1/2/1998، قالت اولبرايت: "أريد أن أقول للشعب الاسرائيلي إن الولاياتالمتحدة ستقف إلى جانبكم في التهديدات الراهنة كما وقفت قبل سبع سنوات. وما من شيء سيؤثر في التزام واشنطن الصارم بضمان أمن اسرائيل". وعندما سئلت عما إذا كانت الإدارة الاميركية طلبت من الحكومة الاسرائيلية عدم الرد على أي هجوم صاروخي عراقي كما فعلت إدارة جورج بوش عام 1991 قالت: "إن اسرائيل، مثلها مثل أي دولة أخرى، لها الحق المطلق في الدفاع عن نفسها". وكان وليام كوهين وزير الدفاع الاميركي صرح، في حديث له مع ال "سي. إن. إن" ليلة 4/2/1998، بأن الولاياتالمتحدة تفضل بشدة ألا يقوم الاسرائيليون بهجوم مضاد في حال تعرضهم لهجوم عراقي... وسوف نناقشهم في ذلك" ولكنه سرعان ما تراجع عن موقفه هذا، اثر لقائه مع وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي داخل طائرته في مطار ميونيخ في المانيا يوم 8/2/1998، إذ قال للصحافيين هناك: "إن لإسرائيل الحق بوضوح، في الدفاع عن نفسها وسوف تمارس هذا الحق متى كان ذلك ملائما لها". ووفقا لما نشرته "الواشنطن بوست"، يوم 2/2/998، فقد طلب نتانياهو من أولبرايت أثناء اجتماعهما المشار إليه، أن توفر الولاياتالمتحدة لإسرائيل إنذاراً يسبق قيامها بتوجيه ضربة الى العراق بعدة أيام، وذلك لأنها في حاجة إلى يومين أو ثلاثة حتى تكون قواتها في حال تأهب تام ولديها خطط عمليات. وعلى رغم ادعاءات اسرائيل، المشار اليها هنا لجهة انها مستعدة لمواجهة أي هجوم صاروخي عراقي، فقد قال وزير الدفاع اسحق موردخاي، في تصريح نشرته صحيفة "معاريف" يوم 13/2/1998، إن اسرائيل ستطلب من الولاياتالمتحدة تأخير هجومها على العراق إذا كانت استعداداتها اللازمة لمواجهة الرد الثأري العراقي المحتمل غير مكتملة. وعلق مراسل صحيفة "الواشنطن بوست"، التي نشرت الخبر المذكور يوم 14/2/1998، على ذلك بأن تصريح موردخاي جاء في وقت تندفع اسرائيل باحثة عن موردين يوفرون لها النقص الحاصل في الأقنعة الواقية من الغازات السامة الذي جعل العديد من المواطنين في حال عصبية شديدة. وبالنسبة الى مدى جاهزية اسرائيل العسكرية لمواجهة الضربة الصاروخية العراقية المزعومة، فإنه من المعروف أنه عند انتهاء حرب الخليج زودتها الولاياتالمتحدة بأربع بطاريات صواريخ "بي. أ. سي - 2 باتريوت" P AC - 2 PATRIOT لديها نحو 120 صاروخاً، لتوفير حماية ضد الصواريخ الباليستية للدولة العبرية، وقامت اسرائيل بنشر بطارية من هذه الصواريخ في اوائل شباط فبراير 1998 في صحراء النقب قرب مفاعل ديمونا إثر تفجر ازمة المفتشين الدوليين الأخيرة بين الولاياتالمتحدةوالعراق، وهناك نموذج مطور من الصواريخ المذكورة، يسمى "بي. أ. سي - 3"، قادر على اسقاط الصواريخ الباليستية من مسافة أبعد من النوع السابق، ولكنه لن يكون عاملاً قبل العام 1999. وفي الوقت نفسه ستزود الولاياتالمتحدة اسرائيل، على الأرجح، ب "محطة ارضية تكتيكية مجمعة متطورة" لتحسين دقة تصويب صواريخ "باتريوت" ضد الصواريخ الباليستية واصابتها قبل أن تسقط على أهدافها، كما ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" يوم 2/2/1998، التي قالت أيضاً إن قائد تشكيل المدمرات 14 في الأسطول السادس الأميركي صرح أثناء المناورات البحرية المشتركة التي قامت بها سفن حربية اميركية واسرائيلية وتركية في الفترة 7 - 9 كانون الثاني يناير 1998، بأن الولاياتالمتحدة ستعمل، على الأرجح، على تمركز طرادات من طراز "اجيس" AEGIS قرب شواطئ اسرائيل عند الضرورة، نظراً الى ان هذه الطرادات مزودة بنظم تعقب للصواريخ يمكنها أن توفر لاسرائيل دفاعاً ميدانياً مضاداً للصواريخ حتى يتم تطوير صواريخ "باتريوت" المحدثة أو صواريخ "آرو" الاسرائيلية التي ستدخل الخدمة، غالباً في العام 1999. وبالاضافة الى ذلك فقد وعدت الولاياتالمتحدة اسرائيل بتزويدها بمزيد من منصات إطلاق صواريخ "باتريوت" في حال تدهور الأزمة العراقية أو فشل مهمة كوفي أنان في بغداد، كما ذكر مصدر عسكري اسرائيلي لصحيفة "جيروزاليم بوست" يوم 20/2/1998. وتماشياً مع هذه الاستعدادات الاسرائيلية لمواجهة الاحتمال الضعيف للغاية بحدوث هجوم صاروخي عراقي، الذي نفته بغداد رسمياً، قام الجيش الاسرائيلي، باستدعاء قسم من قوات الاحتياط للتدريب لفترة يوم أو يومين بهدف تحديث معرفتهم لوسائل مواجهة الهجمات بالاسلحة الكيماوية والبيولوجية. وتكشف كل هذه الأحداث والتطورات مدى ارتباط أمن اسرائيل بالأزمة العراقية - الاميركية من جهة، ومدى هشاشة الوضع الامني داخل اسرائيل لمجرد احتمال تعرض العمق الاستراتيجي الاسرائيلي مرة أخرى لقصف جوي صاروخي من جانب دولة عربية، كما حصل أثناء حرب الخليج 1991، وذلك للمرة الأولى منذ حرب 1948 من جهة اخرى.