ظل العمق الاسرائيلي، منذ انتهاء حرب 1948، في مأمن من أية ضربات جوية عربية. لكن إثر نشوب حرب الخليج شنّ العراق بدءاً من قبيل فجر اليوم التالي لنشوبها، 18/1/1991 وحتى مساء يوم 26 منه، ست هجمات بصواريخ "سكود" على اسرائيل، سقط خلالها 39 صاروخاً على مدن تل آبيب وحيفا ومناطق أخرى. وبلغت خسائر اسرائيل نتيجة هذا القصف الصاروخي العراقي 4 قتلى و189 جريحا. ومات 11 عجوز نتيجة صدمات قلبية اصابتهم بسبب الخوف أو سوء استخدامهم للأقنعة المضادة للغازات السامة. وسارعت الولاياتالمتحدة، آنذاك، إلى نصب عدد من بطاريات صواريخ "باتريوت" المضادة للصواريخ بأطقمها الاميركية في اسرائيل. ولم تنجح في إصابة أو إسقاط أي صاروخ من "سكود" العراقية. ومنذ حرب الخليج اصبحت اسرائيل تشعر بأن عمقها الاستراتيجي أصبح مهدداً بالصواريخ الباليستية، بخاصة بعد أن تزايد الموجود منها لدى سورية الى نحو 1000 صاروخ وفقاً لتقدير المصادر الاسرائيلية. لذلك زودت الولاياتالمتحدة، من أجل توفير دفاع فعّال ضد الصواريخ المذكورة، اسرائيل اثر انتهاء حرب الخليج بأربع بطاريات صواريخ "بي أ سي - 2 باتريوت" وهي صواريخ بعيدة المدى مضادة للطائرات والصواريخ الباليستية أو من نوعية "كروز". وتضم منظومة الصواريخ الجوالة 16 منصة إطلاق متحركة رباعية القواذف تحمل 64 صاروخاً جاهزة للإطلاق. لكن فاعلية هذه الصواريخ ليست عالية، في ضوء خبرة حرب 1991، لذلك يجري في الولاياتالمتحدة تطوير نموذج محسن منها يسمى بي أ سي - 3 يفترض أنه قادر على اسقاط الصواريخ الباليستية من مسافة أبعد من النموذج السابق. لكن النموذج المذكور من صواريخ "باتريوت" لن يكون في الخدمة قبل العام 1999، كما ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" في 2/2/1998. وهناك أيضا صاروخ جديد مضاد للصواريخ يجري تطويره حالياً منذ العام 1992، بالاشتراك المالي والتقني للولايات المتحدة، يعرف باسم "آرو" أو "حيتس" بالعبرية، يقدر مداه الأقصى بنحو 500 كلم، حتى يكون قادراً على اعتراض الصواريخ الباليستية من أبعد مسافة ممكنة عن اسرائيل. وفي آيار مايو 1995 توصلت اسرائيل الى اتفاق جديد مع الولاياتالمتحدة جددت بمقتضاه الأخيرة التزامها بتمويل برنامج "آرو" لمدة خمس سنوات أخرى. وتبلغ جملة نفقات تطوير الصاروخ المذكور وأجهزة الرادار والتحكم الخاصة به نحو 6.1 بليون دولار، تساهم الولاياتالمتحدة بنحو ثلثيها. لكن من دون المساعدة التقنية الأميركية من خلال ربط أقمارها الاصطناعية بشبكة الإنذار المبكر الاسرائيلية لن يمكن اعتراض الصواريخ المعادية في الوقت المناسب. لذلك تطالب اسرائيل الولاياتالمتحدة بتطوير نموذج جديد من الصاروخ، أي "آرو -2" حتى يمكن أن يواجه الصواريخ الباليستية الجديدة المتوقع وجودها في المنطقة في المستقبل القريب، وحتى لا يكون الصاروخ "آرو" الجاري تطويره حالياً متخلفاً عن متطلبات الدفاع المتجددة ضد مخاطر الصواريخ عندما يدخل الخدمة العملية. هذا وكان من المفترض أن تتسلم اسرائيل بطاريتين من هذه الصواريخ، لكنها عادت وطلبت في منتصف نيسان ابريل 1998 تزويدها ببطارية ثالثة تقدر كلفتها بنحو 150 مليون دولار، اضافة الى الكلفة الاصلية المشار إليها مسبقاً. وقررت الولاياتالمتحدة، في ضوء انتشار الصواريخ الباليستية المتزايد في المنطقة، خصوصاً من قبل إيران التي ترى اسرائيل أنها في سبيلها إلى امتلاك أسلحة نووية خلال سنوات قليلة، مساعدة اسرائيل في نفقات البطارية الثالثة المذكورة. أجريت تجارب عدة غير ناجحة للصاروخ "آرو" حتى حزيران يونيو 1998. وعلى رغم ذلك، قرر وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي، في الاسبوع الأخير من أيار 1998 اعتماد برنامج موازنة لعشر سنوات مقبلة بالنسبة الى الصاروخ "آرو". وتقدَّر المصادر الاسرائيلية ان تصل كلفة برنامج الصاروخ "آرو"، مع إضافة البطارية الثالثة المشار إليها، إلى بليوني دولار. الأمر الذي وجه إليه بعض الخبراء الاستراتيجيين الاسرائيليين نقداً شديداً على أساس أن أقصى فاعلية للصاروخ "آرو" لن تزيد احتمال نجاحه في اعتراض الصواريخ الباليستية المعادية عن نسبة 50 في المئة في أفضل السيناريوهات المتصورة، الأمر الذي لن يوفر لإسرائيل دفاعاً مطلقاَ ضد الصواريخ المذكورة، ومن ثم فإن من الأفضل، استراتيجياً ومالياً، الاعتماد على قوة الردع التي تقوم على أساس إفهام اعداء اسرائيل إن عليهم أن يدفعوا ثمناً لا يحتمل في حال إقدامهم على إلحاق دمار نووي لاسرائيل. وضمن جهودها المستمرة لدعم قدرات اسرائيل في الدفاع ضد الصواريخ الباليستية قام الجنرال ليستر ليلس، المسؤول العسكري الأميركي الأول عن تطوير وسائل الدفاع ضد الصواريخ الباليستية ومن بينها نظام صواريخ "آرو" الاسرائيلية، بزيارة لاسرائيل في اوائل تموز يوليو 1998، وقال ليلس في تصريح له اثناء الزيارة المذكورة: "نحن نعمل في مجال تطوير الوسائل المضادة للصواريخ الباليستية على تصميم يستند الى فكرة الاعتراض فور الانطلاق إلى أعلى". واستطرد ليلس "إن هذا المفهوم نؤمن به جميعاً. والمسألة هي كيفية تنفيذه، هل بأشعة الليزر أم بالطاقة الحركية؟ إنني أعتقد أن أياً من النظامين قابل للتطبيق وعلينا أن نقرر السبيل الذي نراه". ومضى موضحاً "بالنسبة لنا فقد اخترنا نظام الليزر المحمول جواً. وبالنسبة الى اسرائيل قال إنها "تتجه الى الأخذ بنظام إيبس". وهي اختصار للعبارة الانكليزية Israel Boost - phase Intercept System. أي "نظام اسرائيل للاعتراض فور الانطلاق الصواريخ، الى أعلى"، وذلك بواسطة مركبات جوية موجهة من دون طيار. اضاف ليلس "أعتقد أنه في المستقبل ربما تأخذ الولاياتالمتحدة بالنظامين معاً. لأن ذلك يشكل جزءاً من قدرة ذات أنساق متدرجة مترابطة متكاملة. إننا نرى أنه للتغلب على تهديد الصواريخ الباليستية علينا أن نأخذ بنظام متعدد الأنساق. وفي حديثه، الذي نشرته "هآرتس" يوم 25/8/1998، قال الجنرال ليلس: "إنني استطيع أن أتصور على نحو مؤكد موقفا يكون فيه الرد الاسرائيلي على تهديد الصواريخ الباليستية مؤلفاً من نظام صواريخ آرو جنباً الى جنب مع أيبس". والواقع أن الولاياتالمتحدة تعمل، منذ نحو خمس سنوات، على تطوير جهاز ليزر محمول جواً بقوة 2 ميغاواط 2 مليون واط محمول في مقدمة طائرة نقل من نوعية "أواكس" رصد وإنذار مبكر وإدارة عمليات جوية من طراز "بوينغ 747 - 400 ف"، يمكنه أن يطلق أشعة الليزر الفعالة على الصواريخ الباليستية إثر انطلاقها ويدمرها على رؤوس مطلقيها. وأجرى السلاح الجوي الأميركي خلال شهر حزيران 1998، أول اختبار ناجح لمركبة جوية ذات طاقة ليزارية عالية، ضمن برنامجه المسمى "الليزر المحمول جوا". وفي ندوة عن "مستقبل القوة الجوية" عقدت في تل ابيب يوم 1/7/1998، قال المستشار الخاص لوزير الدفاع الاسرائيلي وأحد كبار ضباط السلاح الجوي سابقاً دافيد عفري، إنه اذا كان هناك أي خيار للردع بالنسبة إلى الصواريخ الباليستية، فإن امتلاك القدرة على تدمير الصواريخ فوق أرض العدو يشكل الخيار الذي يمكنه حل معظم المشكلة"، ودعا عفري السلاح الجوي الاسرائيلي الى الاستمثار بكثافة في مشروع "أيبس" وقال: "كلما طوَّرنا أكثر هذا المشروع، كلما كان ذلك أفضل للمستقبل". وأوضح أن التفوق الجوي الاسرائيلي التقليدي لم يعد يشكل رادعاً فعالاً ضد تهديد الصواريخ أرض - أرض الموجودة لدى سبع دول في المنطقة والمتجهة الى تسليحها برؤوس حربية غير تقليدية. ووفقاً لما نشرته "جيروزاليم بوست"، في مقالها "يعاد الى المرسل" المشار إليه مسبقاً، تأمل مؤسسة الصناعات الجوية الاسرائيلية ان تُسند إليها مهمة تطوير الطائرات من دون طيار التي تشكل عماد المشروع، التي يفترض أن تحلق الواحدة منها لمدة 24 ساعة، من خلال مجموعات مناوبة، على ارتفاع 60-70 ألفا في الجو، فوق المناطق الحدودية القريبة نسبياً من مواقع إطلاق الصواريخ الباليستية المحتملة، بواسطة نظام توجيه وقيادة من بُعد. وتغذي بدورها نظام تعقب يمكنه أن يمسح جو المناطق المذكورة للتأكد مما اذا كان العدو أطلق صاروخاً حقيقياً وليس مجرد نموذج هيكلي. وفي حال اذا ما كان هناك صاروخ فعلي انطلق من سورية، مثلاً، متجها نحو اسرائيل، يقوم نظام القيادة والتوجيه بتقرير أي من الطائرات من دون طيار تقوم باعتراض الصاروخ، ومن ثم تطلق الطائرة المذكورة صاروخاً صغيراً للغاية ولكنه ذو قدرة تدميرية عالية، نحو الصاروخ الباليستي المعادي وهو في المرحلة الأولى من انطلاقه. فيصيب محركه أو خزانات وقوده ويدمرهما معاً، ما يؤدي الى سقوط الصاروخ ورأسه الحربي، أيا كانت نوعيته، فوق أرض الدولة المطلقة له. هذا وتستغرق الصواريخ الباليستية فترة تتراوح بين 30 و75 ثانية وفقاً لطراز الصاروخ ومدى تطوره خلال مرحلة انطلاقها الأولى. ومن المفترض أن يتمكن نظام "ايبس" من اكتشاف الصاروخ المعادي وامتلاك قدرة التوجه نحوه واطلاق الصواريخ المدمرة له خلال ثوان معدودة. وتقوم مؤسسة تطوير التسليح الاسرائيلي المسماة "رفائيل"، حالياً، بأبحاث تطوير الصواريخ بالغة الصغر التي ستسلح بها الطائرات من دون طيار، ضمن مشروع يطلق عليه "النظام المضاد للصواريخ الباليستية الشديدة الفاعلية"، واختصاره MOAB أي "موآب". هذا وأنفقت الولاياتالمتحدة واسرائيل خلال السنوات الخمس الأخيرة 30 مليون دولار في دراسات جدوى مختلفة تتعلق بهذا المشروع. وسوف يخصص الكونغرس 10 ملايين دولار أخرى في موازنة العام 1999. ويرجع النقص في الانفاق العسكري الأميركي المتعلق بهذا المشروع على عدم ثقة ا لكونغرس في جدوى هذا المشروع، وغيره من المشاريع المماثلة المتصلة بالدفاع ضد الصواريخ الباليستية. وفي اسرائيل سيكون على المؤسسة العسكرية عند اتخاذها قراراً نهائياً للمضي في مشروع "ايبس" المذكور أن تضع في اعتبارها أن الكلفة المبدئية له تبلغ 200 مليون دولار، وأن إجمالي الكلفة سيصل في النهاية الى نحو عشرة أمثال هذا المبلغ. هناك آراء معارضة في اسرائيل - وفي الولاياتالمتحدة ايضاً - لجدوى مشروع "أيبس" كذلك لمشروع "الليزر المحمول جواً"، بسبب كلفتهما الباهظة. ففي اسرائيل كتب انجلو م. كودفيلا، مدير البحث الاستراتيجي في "مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والسياسية العالية" في كل من القدس وواشنطن، مقالة بعنوان "المناقشات لن توقف الصواريخ" نشرتها "جيروزاليم بوست" يوم 3/8/1998، أشار فيها إلى ما قاله الجنرال ليلس بخصوص مزايا المشروعين المذكورين، وقال إن مشروع "ايبس"، أو "ببي" في صيغته الأميركية، اعتبر من باب السخرية غير جدير بالنظر من قبل الكونغرس، للأسباب الآتية: 1- إن الاحتفاظ بعدد كبير من الطائرات من دون طيار لفترات غير محددة من الوقت يعد من الناحية اللوجستية أي من حيث تزويدها بمتطلبات تشغيلها الواقعية أمراً مستحيلاً تماماً. 2- لما كانت الصواريخ الباليستية تطلق من فوق منصات متحركة غالباً فإن أحداً لا يعرف حقيقة مواقع إطلاقها. 3- نظراً لأن الطائرات من دون طيار ستحلق بأعداد كبيرة بطريقة نمطية لفترة طويلة فوق أو قرب أراضي العدو فإنها لا يمكنها أن تفلت من رصد العدو لها. 4- من المستحيل توفير الحماية للطائرات المذكورة فوق أراضي العدو لفترات زمنية غير محددة. وبناء على ذلك قال الكاتب المذكور: "إنني لا أعرف كيف سيأخذ الأميركيون بجدية الاقتراح الخاص بأن اسرائيل أو أي أحد آخر، يمكن الدفاع عنها بواسطة نظام ببي. تلك هي، با ختصار، أوضاع وأبعاد مشكلة توفير دفاع فعال لدى اسرائيل ضد الصواريخ الباليستية المحتمل أن توجه يوماً ما ضد عمقها الاستراتيجي، الذي كان آمناً تماماً تقريباً بفضل تفوقها الجوي حتى العام 1991. بينما الآن تواجه اسرائيل صعوبات عملية في توفير قدرة دفاعية ضد الصواريخ المذكورة. لكن طرح المشكلة والحديث عن الحلول المشار إليها يعني جدية سعي اسرائيل الى توفير مثل هذه الوسيلة الدفاعية في مواجهة أي ضربة صاروخية معادية لها، الأمر الذي يعني إضعاف الردع العربي المحدود المضاد لانفراد اسرائيل بالتسلح النووي، والقائم حالياً أساساً على الصواريخ الباليستية المسلحة برؤوس كيماوية. * باحث استراتيجي مصري، رئيس تحرير الفكر الاستراتيجي العربي سابقاً.