فتحت "آفاق" الباب امام الفنانين التشكىليين العرب المقيمين في الخارج للاجابة على سؤال: "من أنت؟" في اطار فهم العلاقة بين هؤلاء وبين الواقع الثقافي التشكيلي الذي يحيط بهم يومياً. ونشرنا دراسة اعدها الفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر كمقدمة لا بد منها للدخول الى هذا العالم المتناقض والمتشعب، كما وجّهنا رسالة مفتوحة الى جميع التشكيليين العرب في الخارج توضح الفكرة من الاستفتاء. وها نحن ننشر اسهامات التشكيليين العرب كما وردت الينا وفق تسلسلها الزمني، على امل ان نتابع في "آفاق" نشر كل الآراء التي تصبّ في اغناء وعي الحركة التشكيلية العربية لنفسها في الخارج، وكذلك اطلاع الفنانين التشكيليين العرب على مواقف وانجازات زملاء لهم ربما وجدوا صعوبة في معرفتها في السابق. ومرة اخرى نؤكد على ان المجال متسع ورحب امام كل المساهمات، تعليقاً ونقداً وتوضيحاً. فنان لبناني يقيم في لندن. أقام معارض تشكيلية عدة وعمل في الصحافة مديراً فنياً لمدة ثلاثين عاماً ورسم الكاريكاتير في الصحف اللبنانية والعربية والانكليزية. أصدر كتاباً بالانكليزية عن الوجوه التي رسمها كاريكاتيرياً اسماه Face Facts وكتاباً آخر ضم مجموعة قصص قصيرة "عبق نساء، عرق رجال". كما اشترك مع شعراء عرب معروفين في اصدار كتب مصوّرة محدودة الطبعات تجمع قصائدهم ورسومه. وهو صاحب غاليري "أرجيل" في لندن حالياً. أريد ان أبدأ بالحديث عن مفهومين يشكلان الصمم العربي منذ مدة طويلة وينسحبان بمناسبة او من دون مناسبة على شتى مناحي حياتنا الفنية خصوصا وهما الهوية والتراث. يشعر العرب بأنهم اذا خسروا هذين الشيئين المفهومين فان خسارتهم تكاد تعادل خسارة وجودهم ذاته. وهم يتعاملون مع الغير وهذان المفهومان نصب اعينهم، كمن يخشى خسارة اهم ما عنده. والحقيقة ان الاصرار على هذين المفهومين بهذا الشكل يذكر بالمثل الشعبي "من يفلس يفتش في دفاتر ابيه القديمة". وطالما التصق الفنان العربي بهذين المفهومين كأنهما تعويذة النجاح لفنه وحياته، وكانت حصيلة ذلك ان انتج طوال ربع قرن او اكثر فناً يكاد يكون متشابهاً ويعيد توليفة "فورميولا" واحدة مكرورة لها الرموز والموتيفات نفسها: الحرف العربي، النخلة، الهلال، القمر، العيون الواسعة، السيف، الكف الخ...، لدرجة ان الموتيف اصبح هو الأساس، والديكور الزخرفي جسد الفن ودمه. والحال ان "الهوية" و"التراث" لا يستوجبان كل هذا التركيز والاستنفار اليومي، لأنهما طبيعيان ومتداخلان في التركيب البنيوي للانسان العربي، والعقل غير الواعي لأي من الافراد. فهما كالتنفس، كلما دققت به ضاق وكلما نسيته انساب تلقائياً. ثم ان القعقعة المستمرة بهما كمن يسوق بسيارته في "اوتوستراد" عريض ويظل يصرّ على ان يبوّق من البوق ويثير الضجيج لتفسح له السيارة التي أمامه، مع انه بامكانه تجاوزها عن يمينها او عن يسارها ان كان يستطيع التجاوز... وحتى لو افسح له الذي امامه، فأغلب الظن انه سيظل يبوّق وذلك حباً بالضجيج اكثر منه مقدرة على التجاوز. وعلى النقيض من ذلك، كلما نسينا "الهوية" و"التراث" كان الأمر افضل، لأننا في عصر التعددية والاختلاف. فالانفتاح هو مدخلنا على المدى الانساني، لذلك لن يبقى للفنان الا ان يظل انسانياً، متقبلاً الثقافات كافة وباثاً المعرفة بأشكالها كافة. ان الفنان الذي يشعر بأنه متميز بحكم قوميته او دينه او انه "سوبر" قليلاً عن الآخرين هو مشروع فنان عنصري. فنحن حين ننظر الى لوحة "الصرخة" للفنان النرويجي مونك لا يهمنا ولا يتبدى لنا مهماً جنسية صاحب هذه الصرخة الموجود في اللوحة، او ما هي قوميته او دينه. الذي يتبدى لنا هو عذاب الانسان. وكذلك الحال مع لوحات فرانسيس بيكون، فنحن لا نشعر بضرورة بل لا يهمنا ان نسأل عن جنسية هذه الشخوص الموجودة في اللوحات، او ما هي قوميتها ودينها. الذي يهمنا هو ذلك السحق الانساني الذي يعانونه، والذي يبق على المدى الزماني والمكاني. وكثيراً ما يسألون: كيف يمكنك ان تكون فناناً عالمياً؟ والأصح ان يسألوا او يسأل الفنان نفسه: كيف يكون فناناً انسانياً؟ ان الفنان المعاصر، سواء كان في أوروبا او في أية بقعة في العالم او حتى لو كان في بلده، عليه ان يكون انسانياً بغض النظر عن اية وسائل يستعمل او أية تقنية يحترف، لأن كل ظروف الحياة المعاصرة اصبحت واحدة: فالاضطهاد اليومي واحد، وعدم الحرية واحد، وعدم الديموقراطية هو نفسه، كما ان الفرح والانطلاق وحرية التعبير هي كلها سمات واحدة مشتركة... فالذي يهم الفنان المعاصر هو الكرة الأرضية كلها والعيش عليها بحرية وصحة جيدة رافضاً الضغوط والاستغلال والعنصرية والتلوث. لذلك حين ارسم، يهمني الهم او الفرح الانساني. وأكثر ما ابيعه هو الفن المفهوم انسانياً والذي تتجاوب معه كل الجنسيات. فأصدقائي الذين يشترون مني هم الياباني البوذي، والهندي السيخي، والانكليزي الليبرالي، واليهودي غير العنصري، والعربي المنفتح. وحين أرسم لا أريد أن القي محاضرة عن تراثي وهويتي، فأنا لا أشعر بأي مركب نقص او عدم ثقة لأدافع عنهما. ان على الفنان حين يريد طرح مشروعه الفني والحضاري ان يتواضع ويقدمه للآخرين بحب، فالآخرون يتعاطفون معه. اما اذا طرح مشروعه الفني والحضاري بشوفينية وعدائية فكل الآخرين ينفرون منه. هذه هي يوميات العيش المشترك مع الآخرين، ويوميات الثقافة للفنان الذي يعيش في أوروبا. ان وجودي في لندن طبيعي جداً وأمارسه للنهايات وأشعر بأني جزء من الحياة الثقافية والفنية الموجودة هنا. ولا احس بأي فارق مع أي مواطن او غريب، واللندنيون يقرون بوجودي بامتياز. والذي اريده هو ان يشعر الآخرون حين يكونون في بلادنا بأنهم يمارسون وجودهم ومعتقداتهم بامتياز وحرية ايضاً. كل الذي يمكن ان أوجزه ان لا ينشغل الفنان كثيراً بالتميز، فالتميز حصيلة تلقائية، المهم ان يكون صادقاً وذا مدى انساني.