في مقالة "قراءة في كتاب مسعود البارزاني" المنشورة في "تيارات - الحياة" يوم 1/3/1998 المصادف للذكرى 19 لوفاة الزعيم الكردي مصطفى البارزاني، بدا لي الكاتب نزار آغري كناطح صخرة وكطير يغرد بلحنه الشاذ خارج السرب. فاحتفالات احياء هذه الذكرى الجليلة داخل كردستان وحيثما أقامت الجالية الكردية كانت أوقع صوتاً وأكثر تأثيراً في وجدان وضمير الانسان الكردي من مقال شاحب مشحون بقيح الحقد والتحامل سطّره كاتب يهين الضمير الجمعي للشعب الكردي، ويحاول نسف نصف قرن من تاريخ البارزاني بكل منعطفاته الحافلة، ومن ثم نسف وتشويه كل تاريخ الحركة التحررية العادلة باعتبار ان البارزاني كان رائدها والأكثر حضوراً في كل دقائقها منذ أوائل الثلاثينات ولغاية رحيله في الأول من آذار مارس 1979. فكأنما آغري بكتاباته يشوّه عدالة القضية الكردية منذ بدايات انطلاقتها ويصورها مجرد مؤامرة وفقاعات عشائرية منغلقة على الذات ومنعزلة عن العالم والمصلحة الكردية العامة. وبخلاف ذلك يحق لي ولحشد الكتاب والسياسيين الكرد أو المعنيين بالشؤون والشجون الكردية ان نفترض ان الكاتب لا يعلم تفاصيل تاريخ شعبه ومسار حركته التحررية، ما يدفعه الى قراءة فجة مسطحة وارتجالية لسلسلة الكتب التي صدرت عن السيد مسعود البارزاني بعنوان "البارزاني والحركة التحررية الكردية" والتي اعيد طبعها مجدداً من قبل رابطة كاوه للمثقفين الاكراد، وهي في مجملها واحدة من أصدق الشهادات حول تراث البارزاني الراحل وتطور الحركة الكردية منذ بدايات هذا القرن. ومن معالم مصداقيتها غزارة المادة الوثائقية والتتبع التاريخي الموثق للاحداث تباعاً وخلوها من حشو الكلام ومن السرد العاطفي الانشائي. والى ذلك فمؤلف هذه الكتب هو الذي عايش وعاصر أكثر الاحداث في كنف والده الجليل ومن ثم تبوأ بجدارة الموقع الأول في الحزب الديموقراطي الكردستاني ونذر أكثر من ثلاثين عاماً من عمره للقضية الكردية وما زالت شخصيته الاكثر جذباً وشعبية بين الاكراد لما تشبعت به من قيم اخلاقية ونضالية عائدة بالاساس الى النهج الذي جذره والده مصطفى البارزاني ومنحه صفة الديمومة. ولعل انتخابات عام 1992 في كردستان العراق تشكل الدليل على التزكية التي محضها الشعب الكردي للتاريخ النضالي للبارزاني كتراث قومي وطني تحرري لا كمجرد تمردات عشائرية كما يصر السيد آغري على تسميتها. ولم أكن أنوي الرد ولكن وجدت ان الكيل طفح وخرج قلم الكاتب عن أدنى مستويات الموضوعية واصبح ديدنه في المدة الأخيرة التهجم بأية طريقة وبأي ثمن على شخصية البارزاني الراحل لمجرد اختلافه في الرأي مع بعض التوجهات الحالية للديموقراطي الكردستاني وزعميه مسعود البارزاني، ما يدعوه الى التثبث بالانتقام بشكل عشائري من مجمل تاريخ البارزاني وعائلته الكريمة التي غدت بديمومة نضالاتها رمزاً للمقاومة الصلبة. ولذلك فهي واجهت وما زالت سهام النقد والطعن من مختلف العشائريين القبليين المتقوقعين في التخلف في وقت انطلقت وتواصلت ثورات البارزاني المرتكزة الى وعي قومي هو مزيج متناسق ذو أصول دينية وطنية وقومية تحررية خضعت قوة العشيرة واخلاقياتها لضرورات الحركة القومية وذوبت العادات المحلية في بوتقة شعبية قابلة للاندماج بالفكر المعاصر. وحجتنا القاطعة في ذلك ان الحزب الذي أسسه البارزاني في 16/8/1946 والذي ما زال الحلقة الأكثر متانة وحضوراً ضمن الحدث الكردي لم يكن حصيلة اندماج عشائر وتحالفها، بل كان محصلة متقدمة ومتطورة لكل التكوينات السياسية للانتلجنسيا الكردية التي عقدت مؤتمراتها وحلت نفسها لتشكيل الحزب الديموقراطي الكردستاني، وانتخاب البارزاني الراحل رئيساً له، لأنه كان الرمز القومي الحائز على اجماع الاصوات في تلك الايام العصيبة التي شهدت انبثاق ومن ثم سقوط جمهورية مهاباد الكردية والدفاع المستميت للبارزاني الراحل ورجاله عنها، وقيادته اثرها لمسيرة الشرف البارزانية عبر الحدود العراقية - التركية - الايرانية ولجوئه الى الاتحاد السوفياتي السابق، وبقائه فيه نحو 12 عاماً. بعد قراءتي آغري اقتنعت بأنه لم يقرأ من الكتاب الذي يزعم استعراضه الا المقتطفات التي يجد انها تشفي غليله والتي اخرجها من سياقها التاريخ لتوضيح خواتيم الأمور وفق منظوره الغارق في الذاتية وهذه بعض الأدلة: الحكومات المركزية تتبجح في مقاومتها للنضال التحرري بانها تنوي فرض القانون ولكن السؤال اي قانون يراد فرضه، وان لم يكن النضال القومي موجهاً ضد التكوين السياسي القانوني للنسيج الحاكم فما هو اذن مسعاه ومغزاه وجدواه؟ اما لماذا برزت العشيرة البارزانية وتفوقت على جيرانها فالسؤال يجيب عن نفسه حيث ان البارزاني بعكس الاخرين كرس كفاحه للمصلحة القومية الكردية الكبرى والمصلحة الوطنية العراقية وضحى بالعشيرة لاجل التحرر القومي وحارب الانتداب البريطاني ورفع شعار المطالب الوطنية، وكانت تلك نقلة تاريخية نوعية حولته في عيون الجميع رمزاً قومياً وليس زعيماً عشائرياً، ومطالب ثوراته وشعاراتها تنطق بنفسها وتفصح عن مكنونها لكل ذي بصر وبصيرة. ويدعي الكاتب دون دليل طبعاً ان الانتفاضات البارزانية في 1943 و1945 كانت مجرد تمرد عشائري محض، وهذا زعم منبثق من عدم قراءة الكاتب لأية وثيقة تخص هذه الحقبة من التاريخ بما في ذلك الكتاب الذي يفترض انه بين يديه وقد قرأه قبل الكتابة عنه. وادعو الكاتب الى قراءة وثائق هاتين الانتفاضتين فهي في متناول اليد وقد أوردت مجدداً في كتاب "مصطفى البارزاني زعيم الحركة القومية الكردية المعاصرة" الصادر عام 1996 عن الزميل عبدالقادر البريفكاني حيث ورد فيه نص المطالب التي قدمها البارزاني الى الوفد العراقي المفاوض في كانون الثاني يناير 1944 وهي: ابقاء المناطق المحررة من كردستان بيد الثوار الاكراد، والعفو عن جميع الاكراد المعتقلين بسبب الثورة، والتوزيع العادل للمستلزمات الحياتية في كردستان، وتوخي تعيين الموظفين الاكراد بدل العرب في كردستان العراق، ومنح كردستان العراق حق الحكم الذاتي في الادارة والثقافة، وفتح المزيد من المدارس والمستشفيات وغيرها من المرافق المدنية الخدمية في المنطقة الكردية. هذا كان السقف المطلبي لثورة البارزاني منذ منتصف الاربعينات وتطورت طموحات الثورة اكثر فأكثر. ففي ثورة ايلول سبتمبر 1961 رُبطت المطالب الكردية بمطلب الديموقراطية في عموم العراق وغدت الثورة الكردية خيمة منشرحة الصدر لا لمختلف شرائح الشعب الكردي فحسب، بل لكثير من القوى الوطنية العراقية المتفهمة للنضال الكردي ودوافعه الوطنية حتى اصبح الطموح الكردي اليوم متجسداً في الفيدرالية. والسؤال الكبير هو: أي من هذه المطالب هو مطلب محض عشائري وأي منها موجه بالذات لمصلحة عشيرة البارزاني واتباعه؟ اتمنى على السيد اغري ان يبحث لنا عن جواب منطقي ولكن بعد ان يكون قد تخلص من هواية اطلاق الاحكام المسبقة القائمة على التجريح والحقد اللامبرر. ثم انه في مدينة باكو واثناء اقامته في الاتحاد السوفياتي دعا البارزاني في كانون الثاني 1948 الى اجتماع كردستاني عام القى فيه خطاباً قومياً شاملاً استهدف الاشارة الى انتفاضات وثورات الشعب الكردي تجسيداً لروح المقاومة ولوضع خطة تحرك سياسية تملأ الفراغ الناشئ آنذاك عن سقوط جمهورية مهاباد الكردية، واتى على ذلك مختلف الامارات والكيانات الكردية في التاريخ ووصف جريمة اعدام القاضي محمد من قبل الشاهنشاه بالجريمة الوحشية، واسهب في شرح مخططات القوى المعادية للطموح القومي التحرري الكردي وقدم خلاصة لتجربته النضالية وتعهد في خطابه بمواصلة المقاومة. وكان من الطبيعي ان يثير الخطاب حفيظة رئيس جمهورية اذربيجان السوفياتية باقروف الذي كان معادياً للشهيد قاضي محمد ولجمهورية مهاباد وأساس كرهه يعود الى رفض البارزاني الانصياع لاوامره، فشرع باقروف بالتعاون مع بيريا، رئيس الشرطة السرية في عهد ستالين لمعاداة البارزاني ورجاله، بعد ان رفض املاءات السلطة الاذربيجانية الاقليمية وطلب من الحكومة السوفياتية الانتقال الى جمهورية اخرى. والحقيقة ان اوضاع البارزانيين في الدولة الشيوعية لم تتحسن الا بعد موت ستالين ومجيء خروشوف الذي قال للبارزاني في لقاء معه: لستم الوحيدين المتضررين من سياسة عصابة بيريا بل كل شعوب الاتحاد السوفياتي عانت منهم. هذا كان سبب التوتر بين البارزاني وباقروف الاذربيجاني الستاليني وليس لأن الاخير، كما يزعم آغري، كان متذمراً من عقلية البارزانيين المنغلقة. اما "الافكار الرعوية" التي يزعم آغري وجودها في خطاب البارزاني المشار اليه آنفاً فلا ندري بحق اين هي؟ فاذا كانت الدعوة لوحدة الصف الكردي ووضع خطة الثورة والتعهد بمواصلة المسيرة النضالية والدعوة لاستنفار الطاقات كلها وضمها الى بوتقة النضال التحرري افكاراً رعوية عشائرية فما هو مفهوم التقدمية وما هو مضمون الفكر التحرري اذن؟ ام لان البارزاني استخدم في خطابه العبارات البسيطة المباشرة ولم يلجأ الى البلاغة الخطابية والجمل المركبة والفضفاضة، ولذلك فهو في منطق بعض ادعياء الثقافة عشائري؟ ان اكثر قادة النضال التحرري في العالم تأثيراً كانوا مكثرين في العمل ومقلين في الكلام. ولا يجد آغري في يوم 14 تموز يوليو 1958 في العراق اي مغزى سوى كونه كارثة، وبذلك يخرج الكاتب ليس عن اجماع الاكراد بل عن اجماع عموم العراقيين ايضاً. وهو اذ يعيب على البارزاني تأييده الثورة العراقية التي وفرت له فرصة العودة الى الوطن من منفاه السوفياتي وتصريحه آنذاك وبتواضع بأنه جندي من جنود زعيم الثورة عبدالكريم قاسم، فإن الاحرى به ان يكيل الاعجاب لثورة الشعب العراقي ولتفهم القائد الكردي ضرورات اللحظة التاريخية آنذاك قبل ان يوغل قلمه في طينة الجهل بفهم الحدث التاريخي فيخرج هذا القلم ملطخاً بالطعن الجاهل لا بمسك الكلمة الطيبة. ان ثورات البارزاني في الاعوام 1923 و1943 و1945 ومساهمته الفعالة الى جانب الشهيد القاضي محمد في الدفاع عن جمهورية مهاباد والتجائه إلى الاتحاد السوفياتي وإشعاله اكبر ثورة كردية عام 1961 في كردستان العراق التي توجت باتفاقية آذار مارس لعام 1970 ومن ثم استمراره في قيادة النضال التحرري حتى بعد ان غدا فريسة المرض، لا يمكن ان تكون - بأي معيار قيست - مجرد هواية عشائرية ذات طابع تمردي عصياني لأغراض شخصية، في وقت يعلم اي انسان كردي عادل بل اي عاقل يعلم ان نِعم الحياة كانت ستُقدم على طبق من ذهب للبارزاني وعشيرته وعائلته لو انه كف عن ربط كفاحه بأفق قومي وطني تحرري. ولكي لا نتُهم برمي الكلام على علاته دعونا نستشهد ببعض ما قاله عنه زعماء سياسيون كبار. فقد وصفه الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر بأنه "زعيم اجتمع فيه القديم والجديد وهو متفانٍ من اجل شعبه"، وقال عنه الراحل كمال جنبلاط وكان قد زاره أوائل السبعينات انه "قائد تاريخي ظهر في شعب تواق للحرية وثائر للانعتاق من الظلم والجور". وفي كتابه "الحروب الكردية" كتب الصحافي البريطاني ديفيد أدامز يقول "ان فضائله هي من طراز الشجاعة القديمة، حتى ان الانسان ليعجب بسموها. فقد عاش يقود ثورة بعد ثورة بأساليب زعيم محنك ولكن بلا غاية سوى الكبرياء والاستقلال". وبعكس ما يروي آغري فإن العلاقة لم تنفصم بين ثورات البارزاني والوعي الكردي التحرري المتنامي في المدن. وكانت ثورة البارزاني لعام 1943 محور مناقشات وحوارات مكثفة داخل حزب هيوا الذي تأسس عام 1939. فالتكوينات السياسية المدنية كانت بحاجة الى قوى شعبية والى جناح عسكري قادر على التعبئة واشعال لهيب الثورة، وهذه كانت المواصفات المتوفرة في البارزاني ورجاله الاشداء وهكذا تم التمازج منذ البدء بين هاتين الشريحتين. وبعد ذلك بثلاثة اعوام حلت اللحظة التاريخية لانصهار الجمع في اطار اكبر حزب جماهيري يمتلك قوة المثقف السياسي والزخم العسكري والتعبوي والشعبي ويتمتع بزعامة رمز تاريخي هو البارزاني، قادر على تجييش طاقات وامكانات كل القطاعات الشعبية في حرب تحريرية اثارت اعجاب العالم ونقلت القضية الكردية الى اوساط المعمورة بعد ان كانت بالفعل مغمورة تحت ركام النسيان. ويدعونا آغري الى تبني نظرية جديدة في الشأن الكردي وهي كيل المديح للحكومات المركزية منذ زمن العثمانيين ومن ثم الانتداب البريطاني والحكومات العراقية المتعاقبة لانها كانت تريد اخضاع الجميع للقانون ونزع السلاح وحل الخلافات الدموية. الا ان البارزاني ورجاله كانوا دوماً على الضد من ذلك، ويُذكر ان البازرانيون لم يكونوا الوحيدين المتمتعين بالقوة والشكيمة والنفوذ بل كان ثمة عشائر اخرى كذلك. ونبشر كاتب المقال ان السيد مسعود البارزاني سيبقى في الجزء القادم من كتابه الذي سيتناول حقبة ثورة ايلول سبتمبر 1961 والتطورات اللاحقة هو نفسه المتواضع في الكلمة والغزير في المادة الوثائقية والواقعي في السرد ورواية الاحداث، مع فارق انه لن يكتب الجزء القادم كشاهد ومعاصر فقط بل كفاعل لاحداث وكقائد نضال تحرري حائز على مكانة مرموقة ومتمم للسفر النضالي لوالده الجليل وكرئيس للحزب الديموقراطي الكردستاني الذي شهدت صناديق الانتخابات الكردية العامة والانتخابات النقابية لمجمل شرائح المثقفين الاكراد ومؤسساتهم على وزنه الجماهيري وعمق تجذره في وجدان الانسان الكردي. ولا شك في ان اصوات مئات الآلاف من الناخبين الاكراد اقوى دليلاً بكثير من مقال لكاتب لم يعد لكتاباته عن البارزاني الا طعم المسبّة. ولذلك فاننا على يقيم من ان امنية آغري لن تتحقق ولن يكون مسعود البارزاني الا في صف الشعب والوطن والقضية الكردية العالة. ومستجدات الاحداث التي طرح آخرها في 14/1/1998. واخيراً فاذا بتوقف اطلاق النار في كردستان فان الهوية الوطنية للكتاب والمثقفين الكرد ينبغي ان تتجسد في حشد الاقلام لانجاح السلام بدل الاصرار على تصدير احقاد الحاضر الى الماضي وتحميله ما لا يتحمل.