صدر مؤخراً عن دار "راندم هاوس" في نيويورك كتاب مصور يقع في 390 صفحة من الحجم الكبير، يضم عدداً هائلاً من الصور والرسائل والمقتطفات التاريخية المنوعة حول كردستان، كتبها مستشرقون ورحالة زاروها على مدى السنوات ال 125 الماضية. وقد اشرفت المصورة الفوتوغرافية الاميركية سوزان ميزلاس على جمع الصور والوثائق والاقتباسات، اضافة الى كتابتها شروحاً وانطباعات عنها، فيما اضاف المستشرق الهولندي مارتن فان برونسن شروحات وتعليقات الى متن الكتاب الذي يضم اكثر من 400 صورة نادرة حول تاريخ الاكراد الحديث تم جمعها من مراكز الابحاث والوثائق والجامعات في اوروبا، اضافة الى ما حصلت عليه سوزان من الاكراد انفسهم في ست زيارات قامت بها الى كردستان العراق. والكتاب في حقيقته محاولة لرواية التاريخ عبر الصورة. وهذا، في الواقع، شكل جديد من اشكال الكتابة الحديثة للتاريخ، يحاكي شكلاً آخر من كتابته تهتم به الجامعات في يومنا، وهو جمع التاريخ المروي شفاهاً وتدوينه. يضم الكتاب مواضيع شتى يصعب التطرق في حيز محدود اليها كلها. لكن احدى اهم المسائل التي يوثّقها هي الزعامة السياسية وتاريخها وتطورها، وذلك أمر قلما تهيأ لكتاب واحد ان يلم به. فهو يتناول في صفحاته الاولى الشيخ النقشبندي عبيدالله النهري الذي قاد عام 1880 حركة مسلحة ضد الايرانيين والاتراك انطلاقاً من قرية نهري، وينقل عنه أقوال رحالة ومبشرين مسيحيين زاروا تلك المناطق، او التقوا الشيخ عبيدالله نفسه. تقول الرحالة البريطانية ايزابيل بيرد في كتاب لها بعنوان "رحلة الى بلاد فارس وكردستان" ان الشيخ عبيدالله طلب رؤية المبشر الاميركي الدكتور جوزيف بلمب كوجران بعد سيطرة قواته التي كانت تقدر بأحد عشر ألف مقاتل على مدينة ارومية. وكانت المنطقة تضم العشرات من القرى المسيحية، فيما كان الدكتور كوجران تربطه علاقات حسنة مع اكراد تلك النواحي. وطمأن عبيدالله كوجران على سلامة السكان المسيحيين واعضاء بعثته التبشيرية. وزوده برسالة تطالب قواته بحسن معاملة القرى المسيحية في سهل ارومية. وفي الرسالة ذاتها يوضح الشيخ للدكتور "نحن مستعدون لحكم انفسنا بشكل لا نلحق فيه أي اذى او ضرر بالآخرين". كما ينقل عن كوجران انه زار الشيخ في منزله ومكث معه مدة اسبوع حيث لمس منه صدقاً في اقواله وشغفاً كبيراً بسماع اخبار العالم وتطوراته واحداث العالم الغربي. فيما تكتب زوجته في مذكراتها ان الشيخ كان حريصاً على مراسلتهم ودعوتهم لزيارته وطمأنتهم الى ان حركته لا تبيّت أي شر للآخرين. وبعد اندحار حركة 1880 جراء التعاون التركي - الايراني، لم تقم للاكراد زعامة متينة طوال القرن التاسع عشر. لكن تلك الفترة شكلت حاضنة لنمو بدايات قيادة متنورة غير عشائرية، استلهمت افكارها من حركة النهضة الاوروبية ووصولها الى اسطنبول، حيث انتشرت سريعاً بين متنورين غير اتراك كانوا يعيشون في العاصمة. وكان ابناء واحفاد البدرخانيين والنهريين أول من تلقفوا تلك الافكار، لكنهم بقوا غير مؤثرين اجتماعياً، عدا ميادين محددة كتأسيس المدارس والجمعيات واصدار صحيفة "كردستان" التي بادر اليها أمير بدر خاني مبعد عام 1897. مع ذلك بقيت السمة العشائرية والدينية والمحلية هي الغالبة على الزعامة الكردية. وكان أشهر الزعماء في تلك الفترة الشيخ ابراهيم باشا الذي كانت عشيرته ملي تنتشر في الاجزاء الجنوبية من كردستان تركيا. وتقتبس سوزان ميزلاس عن السير الانكليزي مارك سايكس ان الشيخ ابراهيم كان يتمتع بقوة الشخصية وحب متابعة احداث العالم، ومنها مثلاً احداث المشكلة الايرلندية في بريطانيا. وتقتبس عنه ايضاً انه كان يحرص على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الارمن وانه انقذ ما يقرب من عشرة آلاف منهم كانوا معرضين للموت. في ما بعد تعمق الطابع المحلي للزعامة الكردية. ونشأت لها مراكز عديدة أهمها منطقة السليمانية وزعامة الشيخ القادري محمود الحفيد، واطراف مدينة ديرسيم في الاناضول وزعامة الشيخ النقشبندي سعيد بيران ومنطقة اورومية في شمال غرب ايران وزعيمها الاقطاعي اسماعيل آغا شكاك. اضافة الى زعامات اقل شأناً كالجنرال احسان باشا، والجنرال شريف باشا. والاخير ساهم في مؤتمر السلم بباريس عام 1919 وقدم مذكرة مطالباً بدولة كردية مستقلة وبدولة شراكة مع الاثوريين. لكن معاهدة لوزان في 1923 التي حلت محل معاهدة سيفر في 1920 احبطت محاولاته، ما دفعه الى البقاء في اوروبا بعيداً عن موطنه. اما احسان فأطلق انتفاضة مسلحة في آغري داغ، لكن بعد اخمادها لجأ الى ايران واستقر هناك متخلياً عن حملة في قيادة الاكراد الى الحرية. اما الزعماء العشائريون فظلوا متشبثين بخيار العمل المسلح. ففي 1925 أطلق الشيخ سعيد النقشبندي حركة مسلحة ضد الحكم الكمالي. فيما كان زميله القادري الشيخ محمود في السليمانية يقارع الانكليز والدولة العراقية. اما اسماعيل آغا فكان منهمكاً في ذبح الاثوريين من جهة، وقماتلة القوات الايرانية من جهة ثانية. ولم تكن هناك روابط متينة بين هذه المراكز تتعدى زيارة اسماعيل آغا الى السليمانية والتقائه الشيخ محمود عام 1922. اما التعاون مع اكراد تركيا فلم يكن قائماً، ربما بسبب أمل زعماء الاكراد في العراقوايران بضمان الدعم التركي في وجه بريطانياوالعراقوايران. لكن الامل لم يتعد رملاً ذرته الرياح، اذ هاجمت الطائرات البريطانية مدينة السليمانية، معقل الشيخ محمود، عام 1923. وسيطرت القوات البريطانية بالتعاون مع القوات العراقية وراحت تتقدم نحو السليمانية بعد اعتقال الشيخ محمود جريحاً. فيما اخذ الشاه الايراني رضا بهلوي يواصل دفع قواته الى التقدم على اسماعيل آغا دافعاً به نحو الحدود التركية. وفي خضم كل ذلك لم يحرك الاتراك ساكناً خاصة بعد حصولهم على معاهدة لوزان 1923 التي خلت كلياً من اي ذكر للاكراد وحقوقهم. وينقل الكتاب عن الحاكم السياسي البريطاني في العراق ويلسن انه تحادث مع الشيخ محمود في مستشفى ببغداد. فذكّره الشيخ محمود بالمبادئ الاثني عشر للرئيس الاميركي ويلسون والتصريح البريطاني الفرنسي المشترك عام 1922 حول حقوق الاكراد، وكان دونها على صفحة كتاب ديني، لكن محكمة عراقية حكمت عليه بالاعدام، وبعد تدخل البريطانيين خفض الحكم الى السجن. اما اسماعيل آغا فدخل، بعد سنوات من النشاط المسلح عبر الحدود، في محادثات مع الشاه، أمنه خلالها على حياته عند عودته الى ايران. وحين وطئت قدمه أرض ايران، اطبقت عليه قوات الشاه وقتلته في اوائل تموز يوليو 1930. في تركيا، لقي الشيخ سعيد النقشبندي مصيراً مشابهاً. اذ امتنعت العشائر العلوية الكردية عن دعم حركته التي كانت طالبت بعودة الخلافة الاسلامية وقيام نظام "الولايات الاسلامية" التي تضمن للاكراد حقهم في ولاية مستقلة تحت رعاية الخليفة. وكان ذلك سبباً في انتكاسة حركته واعتقاله واعدامه عام 1925. وبين الحربين العالميتين، اتسع دور المثقفين والمتنورين في الزعامة الكردية، خصوصاً في ايرانوالعراق. اما في تركيا، فان البدرخانيين كانوا نزحوا تحت وطأة السياسات الكمالية الى سورية ولبنان ومصر، ما دفع بأدوارهم في المشهد الكردي الى المؤخرة. وفي ايران انشأت مجموعة من المتنورين في اواسط الاربعينات عصبة احياء كردستان. وسرعان ما تطورت العصبة في ظل تشجيع سوفياتي، الى الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي تولى قيادته الرجل الديني المتنور قاضي محمد. اما في العراق، فكانت الحركة البارزانية تنشط في شمال مدينة اربيل. لكنها لم تستطع حتى بداية الخمسينات ان تتحول الى زعامة كردية شاملة. واستقطبت زعامة قاضي محمد اكراد العراق، خاصة بعد اعلانه جمهورية مهاباد عام 1946. وكان ضمن الملتحقين بالجمهورية الملا مصطفى البارزاني. والواقع ان قطاعاً من المثقفين الاكراد في العراق، كابراهيم احمد ورفيق حلمي، اسسوا منظمتي "هيوا - الامل" و"زيانوي كورد - الاحياء الكردي". لكنهما لم يستطيعا منافسة زعامة قاضي محمد التي كانت توحي بامتلاكها مقومات الخروج من اطارها المحلي المناطقي الى الاطار الكردي العام. لذلك سرعان ما حلت الاولى نفسها فيما اندمجت الثانية بالحزب الديموقراطي الكردستاني العراقي الذي تأسس بمبادرة من مبعوث البارزاني حمزة عبدالله. وكان وهج الزعامة العشائرية للاكراد في العراق، لاقى انكساراً حاداً بعد خفوت دور الشيخ محمود في نهاية الثلاثينات. لكن بعد النكسة التي المت بقاضي محمد وجمهوريته، واعدام الضباط الاكراد العراقيين الاربعة الذين كانوا عادوا لتوهم من مهاباد، في حزيران يونيو 1947، عاد اكراد العراق للتطلع الى زعامة عشائرية قادرة على مواجهة الحكومات المركزية في الجبال النائية. وكان الملا مصطفى النازح الى موسكو في تلك الحقبة المثال القادر على تجسيد الزعامة. من هنا حاولت قيادة الحزب الديموقراطي الكردستاني العراقي اعادة الاتصال بزعيمه المهاجر. كما ان الامتدادات العشائرية داخل الحزب اخذت تمارس دوراً اساسياً لادامة الاتصال بالملا مصطفى على أمل عودته الى العراق يوماً. وبعد انقلاب 14 تموز 1958 سمح عبدالركيم قاسم بعودة الملا مصطفى. لكنه حين عاد اصطدام بجيل من الزعامة الكردية الشابة التي كانت نشأت في غيابه. وكان جيلاً متعلماً متطلعاً نحو الافكار اليسارية. ورغم انه عايش ذلك الجيل ما يربو على ست سنوات، الا انه اضطر في النهاية عام 1964 الى طرد الناشطين منهم من قيادة الحزب الديموقراطي الكردستاني وفي مقدمهم ابراهيم احمد وجلال طالباني وعلي عسكري وعمر مصطفى والضابط الكردي الايراني عزيز شمزيني. وشكل ذلك الحادث بداية صراع زعامي حاد لا زالت آثاره تفور بالدم بين اكراد العراق، وذلك هو الصراع المرير بين الزعيمين جلال طالباني ومسعود البارزاني، ما يؤكد ان المناطقية لا زالت سمة اساسية في الزعامة الكردية على رغم الاستثناءات القليلة.