لئن كان موضوع النهضة هو نفسه فكرتها، أي فكرة النهضة مع تحققها، فإن سياق النهضة هو ما يحدد تبلور مفهومها، أي مدى الحداثة الناشئة عنها. وعليه فإن المؤشر على قدر تفتح الفكر النهضوي رهن بما أنجزته الحداثة، نظرية وممارسة، في مسالك الفكر، وبالتالي الأدب بشقّيه، شعراً ونثراً. فالعبارة تشهد، في بنيتها النفسية والاجتماعية، على قسط الانزياح الحاصل في صراع الفكر بحثاً عن نفسه، وبالتالي تحديد هويته. ولعل ثقافة بيروت، أي ما اختمر في بيروت فكراً أصيلاً ووافداً، مثال على مجلى النهضة، بحكم ان بيروت، جغرافية وتاريخاً، بوتقة انصهرت فيها دعاوى التحديث، انطلقت في القاهرة أو بغداد أو دمشق أو المهجر، تماماً كما أن رابطة جبران القلميّة في نيويورك امتداد لنهضة مفكري جبل لبنان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وترديد صدى لجماعة الديوان في القاهرة، واتفاق مع دعوة التجديد التي أطلقها بدوي الجبل في دمشق والزهاوي في بغداد. بيروت ثقافة سليلة النهضة الأرحب التي انبلجت في دنيا العرب مع صدمة الحداثة الأولى، أي حملة نابوليون على الشرق، أي الأثر الفرانكوفون الأوسع. جاءت حملة نابوليون على مصر 1798 - 1801 لتوقظ الشرق من سباته، فسعى بتأثير الصدمة/ الاحتلال الى البحث عن تحديد هويته، والأهم أن يحمي نفسه من أن يدوسه الغرب متى لحقه في طريق التطور الى أقصى حد. وهنا بالذات نشأت أزمة الحداثة، فالنهضة العلمية والفكرية التي أحدثها الاحتكاك بالغرب ولّدت أيضاً الطاقة البدائية الكامنة في العقل العربي. انبهر رفاعة رافع الطهطاوي 1801 - 1873 بباريس حين أوفده اليها محمد علي المأخوذ بانجازات أوروبا، فعاد بعد اقامة طالت 1826 - 1831 بأهم وثيقة أدبية في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر: "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" طبعته بولاق، أي المطبعة العربية التي أحضرها معه نابوليون، 1834. فنقل، وهنا بيت القصيد، الى الحكم المصري صورة مفصّلة عن حضارة باريس وآدابها. وان كان محمد علي أفلح في تمهيد الدرب أمام الروح العربية الاستقلالية نتيجة اخفاقه في اقامة امبراطورية عربية عارضها الانكليز بالمدفعية البحرية، فإن ابنه ابراهيم اضطر الى التسامح في حكمه لبلاد سورية 1831 - 1840 إثر فشله في ضمها الى مصر، ما فتح الباب واسعاً للبعثات التبشيرية الغربية، فدلف الى بيروت وجبل لبنان أثران فكريان، انكلوفون وفرانكوفون، بمعاهدهما ومطابعهما، وبدأ التحول وئيداً. على هذا النحو، إذن، تسرّبت الحداثة، آخذة بفكر أوروبا وعلمها، الى جبل لبنان، بجناحيها الانكلوفوني والفرانكوفوني، ارسالية أميركية في عبيه بدءاً من 1847، وارسالية فرنسية في غزير بدءاً من 1843، فما أن نقل المرسلون الأميركيون قاعدتهم الى بيروت في 1866 وسموها الكلية السورية الانجيلية الجامعة الأميركية في ما بعد، حتى لحق بهم المرسلون الفرنسيون مؤسسين على مرمى حجر منهم كلية القديس يوسف الجامعة اليسوعية في ما بعد في 1875. الحداثة بفرعيها هذين حددت طبيعة توجه اللاحقين بركبها قبل أن يستقلوا عنها بفكر حداثوي، مغاير، وأحياناً مناقض، وفي أحيان أخرى متمم ومطوّر له، بغرض تلبية حاجة الشأن الوطني أو القومي. نزول الحداثة على هذا النحو، ومن خارج التراث، طعّم الكامن الحضاري برافد لم يعهده من قبل، وفي هذا غنى له. لكن يبدو ان الغربة ما بين الموروث والوافد نشأت منذ ذلك الحين، ثم تعمقت فإذا هي جفوة مع نزول الاستعمارين الانكليزي والفرنسي في دول سورية الطبيعية، ثم أشبه بالقطيعة مع اعلان موسكو إثر الثورة فيها مبادئ اتفاقية سايكس - بيكو السرية بين لندنوباريس التي كرست تجزئة سورية. ما أن نزلت الحداثة في بيروت حتى نشبت بموازاتها ردة فعل، أي ما أفاد، في آن، في حماية الأنا من الانشطار والتشظي بوجه ثقل النفوذ الغربي، فكراً ثم سياسة. والأرجح ان المرسلين الأميركيين أدركوا هذه المسألة بالذات، فكانت جامعتهم أول عهدها تدرّس الطب وسائر العلوم بالعربية، فاضطر أساتذتها، وفي مقدمتهم وورتبات وبوست وفانديك الى الترجمة أو وضع المؤلفات التدريسية بالعربية، وحذا حذوهم أساتذة المعاهد الأخرى. وبقيت حركة الترجمة نشيطة في الجامعة الأميركية، عبر مطبعتها، حتى عدل عن استعمال العربية للتدريس العالمي، فصار المدرّسون والطلبة يرجعون رأساً الى المؤلفات الفرنجية، وحتى اليوم. ومن الجدير بالذكر أن المطبعة الأميركية أخذت على عاتقها مهمة تجهيز المدارس الأهلية بالكتب مدة أربعين عاماً. كان من أبرز انجازات المرسلين الأميركيين وعلى رأسهم سميث وفانديك وضع ترجمة عربية للكتاب المقدس، ساهم في إعدادها ناصيف اليازجي 1800 - 1871 وبطرس البستاني 1819 - 1883 ويوسف الأسير 1815 - 1889. بوشرت الترجمة في 1849 وظهرت في 1865. ولا يخفى أن النثر التوراتي محطة في تحديث العربية، فهو صلة بين الأدب العربي والأدب الرومنطيقي الوافد من الغرب، إذ يُدرك أثر التوراة في أدب جبران ونعيمة وميّ وأبو شبكة ثم حاوي والخال وصايغ، ومن دار في فلكهم. وهناك ترجمة أخرى رائعة للكتاب المقدس صاغها إبراهيم اليازجي 1847 - 1906 وصدرت في 1880. وكان لعبادة التوراة دور فعال في تجديد النثر وتطويره، إذ أن بساطة الترجمة صادفت رواجاً بداعي ما تميزت به من الصفاء والإيقاع والتأمل، اضافة الى ما ادّخره الكتاب المقدس من رؤى القصص الديني.