عندما يجري الحديث عن «النهضة العربية» في القرن التاسع عشر، نلاحظ أن الذين كتبوا في موضوعها كتبوا في نواحٍ شتى. فهناك الذي كتب في الناحية اللغوية، ومن كتب في الناحية الأدبية، ومن كتب في الناحية العلمية، إلى ما هنالك من النواحي المختلفة التي طرقها الكثير من الباحثين. فالنهضة في واقع الأمر نهضات أو حركات تجديد متعددة وليست نهضة أو حركة تجديد واحدة. أما في ما يتعلق بعلاقة النهضة بالدين فهنالك جو ثقافي عام، بخاصة في لبنان، يفصل «النهضة الصحيحة»، إذا جاز التعبير، عن الدين. لذلك، فهو يعتبر أن الذين ساهموا في النهضة وشدّدوا على العلمانية أو على عداء رجال الدين «نهضويون كاملون» مثل فرح أنطون وشبلي الشميل. أمّا الذين لم يفعلوا فهم في أسوأ الأحوال رجعيّون وفي أفضل الأحوال «نهضويون ناقصون» معتبرين الديانة عائقاً أمام التنوير والتقدّم أو موئلاً للتعصب الأعمى واللاتسامح. ويعكس هذا التصور، إلى حد ما، التأثّر بموقف العداء الذي طغى لفترة طويلة خلال عصر الأنوار على التفكير الليبرالي، وبخاصة في فرنسا. الا أنّ هدفي في هذا البحث ليس إثبات علمانيّة أو لاعلمانيّة هذا التيار الفكريّ النهضويّ أو ذاك، بل الإشارة إلى أن الكثير من النهضويّين الداعين إلى التجديد الديني والمتدينين كانوا يعترفون باستقلاليّة العلم ويمارسون الكتابة في المجالين الديني والعلمي العام والعلوم الوضعية كذلك. وهم في ذلك كانوا متفقين، من دون أن يدروا ربما، مع العلماني الشديد العلمانيّة فرح أنطون (1874 - 1922) عندما يقول: «... الحل الصحيح الذي يحفظ حقوق كل من الدين والعلم لا يُمثل في اضطهاد العلم وخنق مسيرة العقل، بل بالفصل بين الدين والعلم، وتحديد دائرة اختصاص كل منهما تحديداً دقيقاً: العلم حرّ كل الحرية وسيد كل السيادة في وطن العقل لأن قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة والبرهان. والدين أيضاً حر كل الحريّة وسيد كل السيادة في وطن القلب لأن قواعده تقوم على التسليم والتصديق بما ورد من وحي في الكتب المقدّسة». ولنتوقف عند بعض الأمثلة في هذا المجال. اعتبر كثير من الكتّاب «الكليّة السوريّة الإنجيليّة» التي تمّ فيها هذا العمل على أنها كانت مؤسّسة تدريسيّة علمانيّة. وهي لم تكن بالطبع كذلك إذا كنا واقعيين في إلقاء نظرة، ولو سريعة، إلى الذين كانوا قائمين عليها فهم كانوا رجال دين لم يخفوا حقيقتهم البتة بل أعلنوها بكل اعتزاز. أمّا ترجمة الكتاب المقدّس تلك فقد اشترك فيها المبشّرون البروتستانت الأجانب وعدد من المتمكنين من اللغة العربية سواء أكانوا مسلمين أو مسيحييّن ويحضرني اسمان بارزان هنا: الشيخ يوسف الأسير المسلم والمعلم بطرس البستاني المسيحي. وقد تكرر الأمر ذاته مع ترجمة الكتاب المقدّس عند الآباء اليسوعيّين الذين استعانوا بإبراهيم اليازجي في هذه المهمّة. وإذا كانت ترجمتا الكتاب المقدّس إلى العربية، تلك التي رعاها المبشّرون البروتستانت أو تلك التي رعاها الآباء اليسوعيون، قد أحدثت نقلة مهمّة عند المسيحيّين واعتمادهم اللغة العربيّة دون غيرها وتطوير مفرداتها، فإن المسلمين استفادوا هم أيضاً من حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إثر احتكاكهم بثقافة الغرب الحديثة، بخاصّة بعد تجربة محمد علي باشا التحديثيّة في مصر وإرساله بعثات تعليميّة عدة إلى أوروبا واهتمامه بأن يقوم أعضاؤها عند العودة إلى الوطن بالترجمة إلى العربية أو التركية. وكان أبرز هؤلاء الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي وغيره من خريجي الأزهر الذين اهتموا بالكثير من المواضيع السياسيّة والجغرافيّة والتاريخيّة. وهكذا، ساهمت حركتا ترجمة إلى العربيّة واحدة مركزها الأساس بيروت والثانيّة مركزها الأساس القاهرة في تحقيق هدف واحد وهو تبسيط اللغة العربيّة وتلاقحها مع اللغات الأوروبية. ولن أتكلّم عن هذين الاتجاهين كثيراً، بل سأقتصر على الناشطين فيهما في بيروت بصورة خاصّة. يقول ألبرت حوراني في كتابه المعروف، الفكر العربي في عصر النهضة، وفي وصفه لفرانسيس مراش (1836 - 1876) الذي وضعه في الفصل الذي يتحدث عن الاتجاه العلماني المسيحي: ... لقد مات في مقتبل العمر ولم يترك سوى بعض المؤلّفات، منها «غابة الحقّ» وهي قصة رمزية كتبت في شكل حوار يدور حول كيفيّة إقامة «مملكة المدينة والحرية». كانت أفكار هذا الكتاب هي الأفكار الأوروبيّة المنتشرة في ذلك الوقت: فوائد السلم وأهميّة الحريّة والمساواة (وفيه استنكار للرق قد يكون انعكاساً لموضوع الحرب الأهليّة الأميركيّة)، وحاجة العرب مثل كل شيء إلى أمرين: مدارس حديثة وحب للوطن طليق من الاعتبارات الدينيّة. (التشديد لنا). وكان الكتاب يشتمل أيضاً على جدال حول معنى المدنيّة، ما يدل على الأهميّة التي كان يعلقها المؤلّف على مفهوم هذه الكلمة. فالمدنيّة، في نظره، هي ما يقود الإنسان إلى كمال أوضاعه الطبيعيّة والخلفيّة. وهي لا يمكن أن تتحقّق إلا إذا توافرت لها بعض الشروط وفي مقدم هذه الشروط، التربية السياسيّة... هذا فضلاً عن شروط أخرى، كتنمية العقل وتهذيب العادات والأخلاق الاجتماعيّة وتنظيف المدن وإتقان بنائها. إلا أن حوراني وغيره من الذين كتبوا عن مراش لا يذكرون أثراً آخرَ مهماً لهذا الكاتب يُظهر أنّه كان - كعلماني مسيحي - مؤمناً شديد الإيمان بمسيحيّته. وبعض الذين يذكرونه مثل الدكتور جابر عصفور يضعون هذا الأثر في خانة الرسائل الفلسفيّة بينما هي، وكما يظهر من عنوانها، رسالة دينية أو فلسفيّة - دينيّة. أمّا عنوان الرسالة فهو «شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة». وكانت هذه الرسالة قد وضعت وفق ما يقول مراش نفسه أيام خلافة السلطان عبدالعزيز خان الذي حكم بين 1861 - 1876 ونشرت على حلقات في «النشرة الأسبوعية» الصادرة عن المرسلين البروتستانت في بيروت ونشرت أيضاً كرسالة مستقلّة وبعد وفاته عام 1892. ولا ندري بالضبط ما كانت عليه علاقته بالمبشرين البروتستانت وهذا موضوع بحاجة إلى مزيد من البحث. الا أن ما يهمنا هنا ضمن موضوعنا، هو ما جاء في مقدمة رسالته حيث يقول: «بسم الله الواجب الوجود نحمد الله الذي لا بد من وجوده ولا حركة إلا من فضل وجوده. ثم نشكره على تزيينه الإنسان بالنفس الناطقة عما زين السماء بالكواكب الشارقة. حمداً وشكراً مرتبطين بسلسلة الإيمان متواصلين إليه على ممر الزمان. أمّا بعد فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني فرنسيس بن فتح الله مراش الحلبي إنّه لسماح من الله لا يعلم سببه قد استجد في عقول كثيرين من الناس أفكار نحو الديانة والوحي مزعجة جداً إذ لا ثمرة لها سوى هدم مباني الشريعة الأدبية من بين البشر واقتلاع ما فرسته في قلوبهم نعمة الإيمان المقدّس لأنّه لا يوجد شيء يصلح أحوال الناس ويهذب أخلاقهم ويكسوهم حال الصفات الحميدة أعظم من تلك الشريعة الطاهرة... إذ إن الناس إذا خلعوا ثوب التعاليم الدينية التي من شأنها أن ترد جماح الصفات الردية في البشر عن فتك بعضهم ببعض وتلجم طباعهم الشريرة بلجم الآداب عن إفساد ضالع الهيئة الاجتماعية التي من دونها لا تقوم مدنيات الناس البتة». ويقسم مراش رسالته إلى تسعة فصول: الفصل الأول: «في أن العقل يحكم بوجود الله». الفصل الثاني: «في الدلالة على وجود الله من الأجرام الفلكية». الفصل الثالث: «في الدلالة على وجود الله من شرائع الطبيعة». الفصل الرابع: «في الدلالة على وجود الله من عالم النبات». الفصل الخامس: «في الدلالة على وجود الله من عالم الحيوان». الفصل السادس: «في أن لا بد من وجود نفس خالدة للإنسان». الفصل السابع: «في أن الديانة هي صفة غريزية للإنسان». الفصل الثامن: «في أن الوحي هو أمر لازم من الله للإنسان». الفصل التاسع: «في أن الوحي إذا كان أمراً لازماً من الله للإنسان فالكتاب المقدس هو الوحي». بمجرد استعراضنا مقدمةَ رسالة مراش وفهرس فصولها، فإننا نستطيع أن نؤكد وصف ألبرت حوراني لمراش من أن الأخير كان يدعو إلى «حب للوطن طليق من الاعتبارات الدينية» الا أنه كان يدعو أيضاً إلى «حب نابع من الاعتبارات الدينية». (وقد يمكننا ربما القول على لسان مراش: «... حب للوطن طليق من الاعتبارات الدينية... وحب الدين مستقلاً من الاعتبارات السياسية»). ولعل هذا الوصف يصح على كل أو غالبية المثقفين الذين عملوا في الشأن النهضوي وساهموا فيه. والمطران الحلبي الماروني جرمانوس فرحات (1670 - 1732) هو أحد الأمثلة الواضحة في مجال الجمع بين الديني والعلمي اللغوي فهو يكتب بصفته الدينية كتابه في الوعظ، (مالطة، 1842) ومختصر الكمال المسيحي (لا يزال مخطوطاً). ويكتب كتباً عدة في اللغة العربية بصفته العلميّة والدينية معاً منها كتاب بحث المطالب في علم العربية (مالطة: المجمع المعيّن في جزيرة مالطة لانتشار الأديان 1836)، والأجوبة الجلية في الأصول النحوية، (مالطة، 1841)، وكذلك أحكام باب الإعراب، (مرسيلية: مطبعة باراس وسافونين، 1849)، وينتقل الى مجال الأدب في مخطوطته بلوغ الإرب في علم الأدب وإلى الشعر في مخطوطته ديوان البدع . وإذا كان المعلم بطرس البستاني البروتستانتي (1819 - 1883) قد ساهم مع المبشرين البروتستنات في ترجمة الكتاب المقدّس فإن له أثاراً أخرى أهمها دائرة المعارف، وهو قاموس عام لكل فن ومطلب (1876 - 1900) وكتاب كشف الحجاب في علم الحساب (1887)، وقاموس قطر المحيط وجريدته الوطنية الموجهة لكل أبناء سورية داعية إياهم إلى تناسي الأحقاد الطائفية: نفير سورية (1860 - 1861). أما ناصيف اليازجي (1800 - 1871)، فله في الدينيات مخطوط الجدال بين المسلم والنصراني، وله في التاريخ رسالة تاريخية في أحوال جبل لبنان في عهده الإقطاعي (1833)، وفي اللغة دليل الطالب إلى علوم البلاغة والعروض (؟)، وله في الأدب والشعر فاكهة الندماء في مراسلة الأدباء (1888)، والعرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، نشرت في طبعات عدة. ولولده إبراهيم اليازجي (1847 - 1906) الذي كان عضد الأباء اليسوعيين في الترجمة الكاثوليكية للكتاب المقدس، اهتمامات أخرى منها إصداره مجلة البيان (1897 - 1898) ثم الضياء (1898 - 1906)، ومطالع السعد لمطالع الجوهر الفرد في أصول الفرد والنحو (1875)، ونار القرى في شرح جوف الفرا (1889) وغير ذلك. أما في الجانب الإسلامي فإن المثال الأبرز في بلاد الشام فهو الشيخ الدمشقي طاهر الجزائري (1852 - 1920) الذي كان له قصب السبق في فتح أبواب المدارس النظامية العثمانية الرسمية على النسق الغربي بالتعاون مع الوالي الإصلاحي المعروف مدحت باشا. كذلك ألف كتباً علمية تدريسية منها: «مد الراحة لأخذ المساحة»، و «مدخل الطلاب إلى فن الحساب» و «الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام»، إضافة الى الكتب المتعلقة بتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي مثل «الجواهر الكلامية في العقائد الإسلامية». أما الشيخ المسلم يوسف الأسير البيروتي (1815 - 1889) الذي حقق ترجمة الكتاب المقدس الصادر عن المبشرين البروتستانت، فله ديوان شعري (1888) ورسالة مسماة الأعداد الرضية في المسايل الفرضية (1863)، إضافة الى مؤلفات أخرى. والأمر نفسه ينطبق على المعلم المسيحي إبراهيم الحوراني (1844 - 1916) الذي نكتفي بذكر ثلاثة من مؤلفاته في مجالات مختلفة. وهي: حكم الإنصاف في رجال التلغراف (1895) وكتاب القلائد الدرية في الحياة المسيحية، وضوء المشرق في علم المنطق (1914). إلا أن له أيضاً ما كان يخالف رأي شبلي الشميل العلماني فكتب مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء والحق اليقين في الرد على بطل داروين. بينما كتب الشيخ حسين الجسر الطرابلسي صاحب المدرسة الوطنيّة ومديرها في تلك المدينة مؤيداً داروين ونظريته ومعتبراً أنها لا تتنافى مع الدين الإسلامي. * أستاذ دائرة التاريخ في جامعة البلمند - لبنان