لم تتردد كثرة من المعلقين والمحللين في تناول وقائع الأزمة العراقية الأخيرة على وجه الوقائع المفهومة والواضحة. ويفترض هذا التناول أن الأفعال متماسكة تجري على نحو مفهومٍ ومتوقع، وأن الفاعلين إنما يصدرون في ما يفعلون عن منطق لا خلل فيه ولا شطط. والحق أن هذا الرأي لم يخلص إليه أهل الرأي غداة انقضاء الوقائع، وبعد فحصها بروية، بل هم أخذوا به في أثنائها، وبينما هي حاضر وحال متغيران. فهم "أنبياء الحاضر"، ويقينهم هو يقين الأنبياء عندما يتنبأون بالآتي، أو هو يقين "أنبياء الماضي"، على قول مشهور في المؤرخين الذين يربطون حوادث الماضي بعضها ببعض برابط لا فكاك للحوادث منه. ويأخذ كثيرون بهذا الرأي في شأن حوادث ينبغي أن تبدو غريبة ومستغلقة على الفهم مثل الحوادث الجزائرية. وهم أخذوا به في الحوادث اللبنانية، المتأخر القريب منها والبعيد المتقدم زمناً. ففي الأحوال كلها التي ينفجر فيها عنف عاصف، أو ينذر فيها بالإنفجار، وهي من أحوال مجتمعاتنا السائرة والمتواترة، قلما يستوقف العصف المدمر "ثقافتنا" أو يدعو إلى التفكير. ولعل من الكوابح الأولى عن التفكير حمل مثل هذه الحوادث، الغريبة عن المتعارَف والمتعالَم المشتركَيْن، على رد "طبيعي" ومتوقع على حال غير مقبولة. فيسرع العذر إلى "رد الفعل" على نحو ما سبق اللوم إلى السبب المفترض فيه. وتلقى التبعة عن "الرد" المزعوم على السبب أو على الفعل. فالبادئ أظلم دوماً، وكأن تبيَّن "البدء" مسألة يسيرة ولا تدعو إلى الخلاف. ويماشي هذا التعليل، أي ما يشبِّه التعليل والتفسير، مزاعمَ الراد، أو من يدعو إلى النظر إليه على هذه الصفة والحال. وعليه ففظاعة "النتيجة" الجزائرية، أو العراقية، أو اللبنانية، أو الليبية، وربما الفلسطينية والسورية... ليست إلا صورة أمينة للمقدمة الاستعمارية والغربية، ولما ترتب على هذه المقدمة المنصوبة بداية لم يتقدم عليها ما يصح أن يعزى إليه فعل أو أثر. فمجتمعاتنا، على هذا التعليل، صفحة بيضاء لم يكتب عليها من قبل ما ينم بالضجيج والغضب اللذين يمزقانها منذ بعض الوقت وهي، في تعليل آخر ينوب عن الأول في حال ثانية، صفحة تامة الكتابة وبديعة الخط لو لم يُقحم عليها "نص" غريب وهجين. وكان ماكس هوركهايمير وتيودور أدورنو - وهما فيلسوفان ألمانيان، ومن دارسي الاجتماعيات بمعناها العريض في ما سمِّي "مدرسة فرانكفورت" نسبة إليهما في المرتبة الأولى، وهما مهاجران يهوديان إلى الولاياتالمتحدة الأميركية غداة استيلاء النازيين على ألمانيا - نظرا ملياً في شيوع تناول واحدٍ ومستوٍ للحوادث المتنافرة والخرقاء. وحيث رأى المحللون المأذونون رد فعل قومياً على مظالم معاهدة فرساي، وعلى شروطها القاسية والمهينة على ألمانيا، وأدخلوا رد الفعل هذا تحت العقلانية السياسية والتاريخية ونسبوا فعل الحلفاء إلى الظلم وجنون العظمة وعنجهية القوة وغطرستها - فعللوا هتلر والحزب الهتلري والجماهير الهتلرية برد الفعل القومي والمفهوم - نبه هوركهايمير وأدورنو إلى انحراف رد الفعل هذا، وإلى تغليفه نواته المعقولة، أي صفة الرد والتقابل، بهذيان مرسل لا يصح قياسه على مادته الأولى، ولا يصح قياسه بها. فمن يُدخل رد الفعل المزعوم تحت "النتيجة الطبيعية" والمعقولة يذهب إلى أن كل الوقائع والحوادث عقلانية، مهما غلا الفاعلون واشتطوا، وليس لأحد أن يميز الأفعال والسياسات الجائزة من الأفعال والسياسات المردودة والمرفوضة. أما القوانين والمعايير العامة والدولية، والحق الدولي، والمجتمع الدولي، فليست، على حسب هذا المنطق، إلا أقنعة تتقنع بها القوة العارية وموازينها الخبيثة والمؤقتة. فيسع القوة، وسياساتها ووقائعها، أن تنسب نفسها إلى العقل، على نحو ما يسع العقل والحق أن يُنسبا إلى الأمور الواقعة التي لا تستقوي على الوقوع والاستقرار إلا بالقوة. وهذا مآل التاريخانية الجذرية والقاطعة: فكل ما يقع ويحدث إنما يصدر عن الضرورة العقلانية والاضطرار. فإذا ذهبت سياسات برمتها، فعلاً وقولاً، هذا المذهب، و"أينعت"، على قول الحجاج الثقفي، قتلاً وموتاً وجوعاً وقهراً، أشبهت الهذيان العُظامي من أمثلة مبالغة العظمة ونقيضِها الإضطهاد، على زعم الفيلسوفين الألمانيين. ويتزيا الهذيان العظامي بزيّ أفكار ومشاعر معروفة وسائرة مثل الكرامة والعزة والحق في الاستقلال والسيادة و"الوحدة" وحدة المرء أو الأمة والأمن. وهو يكاد لا يتميز من القول العادي والمنطقي المتماسك ما اقتصر أصحابه على بعض حيثيات الحاضر الماثل وعلى الدلالات التي يزعمونها له وهو على هذه الحال من النسيان. فانحراف الهذيان عن الإشتراك في المعاني، ولو انحرفت أمة كبيرة و"عظيمة" من الناس، قد لا يظهر إلا بعد بعض الوقت، مع ثبات الإنحراف على طريقة وعلى نهج والاستمرار عليهما. فالهاذي العُظامي يغفل عن رد ما يدين به إلى العالم الخارجي الذي يتشارك فيه مع غيره من الآدميين والإنس. ويزعم، في هذيانه، أنه لا يدين لأحد بشيء. فإذا استقرت هذه الغفلة، وتمكنت منه، فَقَد تمييز ما يصدر عنه مما يصدر عن الأشياء والحوادث والناس، أي عن "الخارج". واختلط عليه "صوت" ضميره، ومصدره هو أو ما يضعه في قرارته، و"الأصوات" المبهمة التي لا مصدر معروفاً لها وتهتف له، وتنوب عن المشيئة، على زعم السيد صدام حسين في مخاطبته كبار ضباط جيشه بالكويت في أواخر صيف عام 1990 وهي خطبة نشرتها "الحياة" يومها. وعوض تفحصه نفسه، وتشخيصه فيها رغبة في السلطان لا يحاط بها، ينسب إلى الكويتيين تحريض العالم عليه، والإيقاع به والعدوان عليه. ويملأ الهاذي العالم الخارجي بما يعتمل في نفسه من ذرائع محض، ووسائل، وأقيسة وعلاقات، ومكائد. فإذا العالم، على هذا، مليء بفراغ نفس الهاذي وبخلائها. فالذرائع والوسائل والأقيسة والعلاقات، إذا خلي بينها وبين نفسها وتركت على غاربها، لا تستقر على معنى ولا تؤدي معنى أو دلالة. بل تجمح إلى لا غاية، وتتوالد من نفسها. وينزل السلطان والقوة من الهذيان العظامي رتبة عالية وأولى. فتُؤول الحوادث كلها، من أتفهها إلى أعظمها، على مثال رتيب وواحد هو مثال المنازعة على الغلبة والتسلط. ويوسَّع مسرح المنازعة فيبلغ أقاصي الأرض. فلا تبقى بمنأى منه حادثة قريبة أو معاصرة: فالأزمة النقدية الأسيوية، ونفط بحر قزوين، و"الانبعاث" الديبلوماسي الروسي، والخلاف الفرنسي والبريطاني على زعامة أوروبا الاتحادية، وأزمة الأسواق الكبيرة، واضطراب صحة السيد بوريس يلتسن، وتحقيقات القاضي المستقل السيد ستار، وبطولات "المقاومة الإسلامية"، وصمود "سورية ولبنان"... كلها "أسباب" لا يصدق تناول إرادات السيد صدام حسين إلا من طريقها. وكان هذا شأن هذيان القاضي شريبير الذي خصه فرويد بمقالة مأثورة. فإذا عدمت الفكرة سنداً من الواقع المشترك، والمختبَر على هذا الوجه، انقلبت "فكرة ثابتة"، وتمسكت بفراغها، أي بثباتها وشبهها نفسها و"تكرارها نفسها"، على قول هوركهايمير وأدورنو. ومن هذا شأنه أو شأنهم، ولو كانوا "أمة" تغلغلت إرادته في ثنايا العالم وشغافه، على حسبان الخمينيين في أوقاتهم الأولى و"الربانية"، ورد كل الحوادث إليه وإلى إرادته وعزيمته. فأيقن السيد طارق عزيز، نائب رئيس "مجلس" الوزراء العراقي، أن سيده ورئيسه أتاح لسواقط النظام العالمي الأميركي و"مهمشيه"، وهم ليسوا إلا الإتحاد الروسي والإتحاد الأوروبي باستثناء بريطانيا، رئيس الدورة والصين، أن يستردوا بعض الدور والعمل، فلا يبقى إلا أن يشمروا عن سواعدهم فيستردوا دورهم وعملهم كاملين. ويخلص الهاذي العظامي من إثبات القدرة الكلية لإرادته إلى تسوية العالم وتمهيده جعله مهاداً مستوياً من غير نتوء. فهو كفء العليّ، وكفء تعاليه وتنزيهه عن الشبه. أما ما دونه، أي الناس كلهم والأشياء كلها، فيستوي واحداً ومتشابهاً في دونيته واختلافه. فلا يوقع قوته وسلطانه على "موضوع"، أو ضحية، إلا "سحقه" و"أباده" و"استأصله". وهو يجري في هذا على منطق صارم لا توسط فيه ولا أنصاف حلول. فإذا ابتدأ عملاً لم يقف فيه دون تمامه وإنجازه. وإنجازه معناه الفراغ منه و"حلُّه" إلى مادته الأولى، أو ما يكنى به عن المادة الأولى. ويقع العُظامي الهاذي على "إنسانية"، أي على جموع من البشر والإنس، "تخلّي بينها وبينه"، وتسلس له قيادها وأمرها، على قول الكاتبين. فتنقاد لرجل لا يوليها نظره، ولا يرى إليها رعية ومحكومين، بل يقصرها على مادة أولى وخام يتوسل بها إلى غايات هي غاياته هو ورغباته دون العالمين. والعالم الذي يتقاسمه الهاذي العظامي، القائد، مع "إنسانية" أسلست له قيادها، هو عالم مقلوب رأساً على عقب، ومسحور، تقوم منه الكلمة محل الفعل، والعبودية محل الحرية، والموت محل الحياة. وولاء هذه "الإنسانية" لقائدها لا يترتب إلا على جهة واحدة، ووجه واحد، هما جهتها هي ووجهها. وتبعث نظرة القائد الجانبية - وصدام حسين لا ينظر إلا على حدة، على خلاف هتلر الذي كان ينظر في قلب العيون الشاخصة إليها ولهاً وعشقاً - على انكفاء من ينظر على حدة منهم على أنفسهم، وانغلاقهم عليها. ولا تيقظ نظرته هذه الانتباه، ولا تدعو إلى الإفاقة، بل تسأل عن الحساب وتأديته وتلح في المسألة. وما يهجس به السؤال الملح عن الحساب إنما هو العجز الذي يستشعره صاحب السؤال في قلب سلطانه "العظيم" وفي ركنه. فإذا قال هواجسه وأهومته، وأعلنها، لم تخرج عن صور الخوف والتعاسة. فهي مواكب أطفال وأولاد يموتون سقماً وعطشاً وذواءً" وهي مبانٍ تتصدع وتهوي على اللاجئين إلى دورها الحصينة والخبيئة" وهي "ليل من النقع" يستولي على سماء العراق ويطفئ الحياة في البذور والضروع والأرحام" وهي طاعون "أبو طبر"، على ما سمى أهل العراق طاعوناً قاتلاً اجتاح بلادهم في أوائل القرن التاسع عشر وعادوا فسموا عصابة قتلة في النصف الثاني من العقد التاسع المنصرم، يقطِّع جسم الدولة الواحد قِطعاً ويرميها للذئاب المتربصة الذئب التركي، والذئب "الفارسي"، والذئب "اليهودي".... ولما كان التخييل العظامي، وهو مادة الهذيان، لا ينفك من نواة حقيقةٍ، ومن حيثيات إنِّيات، من إثبات ما تثبته "إن" ويوجبه استعمالها فعلية وقائمة في التجربة المشتركة، استحال إقناع العُظامي و"إفحامه" ورده إلى العالم المشترك، عالم الحس المشترك. ويثبته في يقينه، ويرسخه في هذا اليقين، استعراضُه صور تعاسته وظلاماته على الملأ، وإقامته شعائر التعاسة والظلامات هذه، وهو "الجبار" و"القوي" و"العظيم" من وجه آخر لا ينفصل من الوجه الأول والأنصبة الصدامية، والستالينية والهتلرية والخمينية والموسولينية، أمارة على الجبروت على نحو ما أنقاض مبنى العامرية أمارة على العدوان الظالم الذي أوقعه الظَلَمة في "النساء والأطفال" - وهؤلاء كناية في هذا المعرض. ويوكل إلى الشعائر تحقيقُ الهواجس التي يهجس بها القائد العظامي، وإرساؤها على صفة الوقائع وإسباغ صفة الواقعية أو نسبتها عليها. فإذا هي حقيقة مشتركة وعامة، ومن لا يُجمع عليها واهم وسادر في جنون عظمته. ويفضي تنظيم "الواقع" على هذا النحو إلى هلوسة تخال صور النفس وخيالاتها وأطيافها حقيقة ثابتة، ويُدعى الآخرون إلى الشهادة عليها وبها. فما أدخلته النفس العُظامية والهاذية في تعليل الوقائع والحوادث، وفي تصوير الوقائع والحوادث بصورة الروع والفظائع والكوارث، يستحيل عليها استرداده إلا بواسطة نظر وتمييز قادريْن على استخلاص حصة النفس من إدراكها الأشياء التي تدركها، وحصة "عملها" في الأشياء لكي تستوي الأشياء دلالات ومعاني. والنظر والتمييز هذان يشترطان على صاحبهما اقتصاداً في إلباس الحوادث والوقائع هواماته وهواجسه، وفي "تلبيسها" تلبيساً إبليسياً، على ما ذهب إليه تراث من القَصَص والتأويل انتهى إلى ابن قيم الجوزية فجمعه وأخرجه. فإذا قامت النفس بعمل الإستخلاص والإطراح هذا خسرت الوقائع والحوادث بعض "عنفها التعبيري" هوركهايمير وأدورنو، واضطرت العبارة عن النفس إلى بعض التواضع والاقتصاد. بل ترتب على الإطراح أمر لا يسع النفس العظامية القبول به إلا إذا رضيت بخلع عظاميتها وتركها. فالنفس التي تقر بقسطها من المسؤولية عن استواء الحوادث على الوجه الذي تستوي عليه وعن كون العالَم ما هو، هي نفس راشدة وناقدة وراجعة عن اتخاذ هواها إلهَها. وهذا يقطع دابر هذيانها العظامي. فإذا لم تسلمها حال الرشد والنقد إلى الرضا المرْضي، وأسلمتها إلى شقاء الشقاق والانقسام، فقد تجد بعض العزاء في خروجها من أسر نفسها الواحدة إلى عالم كثير الجهات.