لما كان التصوير الفوتوغرافي الشمسي في حرم المحاكم ممنوعاً، وينهي عنه القانون، لم يُرَ من السيد إيليتش راميريز سانشيز، المعروف بكارلوس، في محكمة باريس الجزائية طوال أسبوع مقاضاته، منذ 12 كانون الأول ديسمبر 1997، إلا رسم تقريبي بالفحم. فإذا بالشاب الفينزويلي الذي بدا قبل ثلاثة وعشرين عاماً، بمطار فيينا، ممشوق الجسم، مجتمِع الظهر والكتفين، يرمي بعين الصقر الجارح ما يشخص إليه وجهه الحاد القسمات تحت قبعة غيفارية - إذا به بدين الرأس الأصلع والرقبة والجذع، ومبسوط الجسم شأن ثرثرة ولغو لا قيد عليهما، تتدلى من نظارتيه سلسلتان معدنيتان طويلتان تقعان على الكتفين. ولعل السيد راميريز سانشيز، الموشك على تمام نصف قرن من السنين ولد في عام 1949 بكاراكاس، أشد البَرِمين بالنهي عن التصوير الشمسي، بل السينمائي على أنواعه. فهو، على ما يصفه قلم المحررين القضائيين، يتوسل بقاعة المحكمة، وبالخطابة، الى استمالة المحلفين والصحافة، توسل لاعبي السيرك بألاعيبهم الى الإضحاك والفتنة. ولا يستصغر السيد راميريز سانشيز شيئاً في سبيل بلوغ غرضه هذا، ولا يحتقر شيئاً: لا مساحيق التجميل والزينة، ولا الرياضة، ولا الثياب الثمينة والممهورة بتوقيع كبار الخياطين، ولا إدارة العينين في الحدقتين وإطباق الأهداف بعضها على بعض والتصفيق بها، ولا الكلام المعسول أو التلويح بالويل والثبور وعظائم الأمور "اغتيال القاضي ميشال في 21 تشرين الأول / أكتوبر 1981، من صنعنا نحن". ف"الثوري المحترف"، على قوله، و"المناضل الأممي"، على زعم كبير الأمميين العرب السيد وليد جنبلاط، والمؤمن "بمبادئه، بمبادئنا، التي بنيت على مكافحة إرهاب الأمبريالية والصهيونية بإرهاب مقابل هو الأكثر صدقاً ونبلاً"، على قول صديقه العربي وأستاذه الشعري السيد عاصم الجندي - لا يهوى شيئاً فوق هواه المسرح وأداء دور الأسطورة الحية والماثلة. وطوال أيام المحاكمة التي قاضته بقتل ضابطي شرطة، أعزلين، ورفيق نضال لبناني انقلب عليه، لم يفتر لسان مقاتل أو قاتل؟ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" على "الجبهة" الأوروبية ومطاراتها وسفاراتها ومقاهيها، ولم يهدأ. فهو يحسب، أو يمثِّل على الحسبان، أنه يترافع أمام التاريخ ومحكمته وقضائه، شأن أسلاف ثوريين يقلدهم تقليد المريد شيخه وإمامه. وأقرب هؤلاء الأسلاف إليه هو السيد فيديل كاسترو، غداة هجومه على ثكنة مونكادا ومحاولته الأولى، في عام 1953، الإستيلاء على الحكم. فذهب في محاكمته التي خرج منها مداناً بإدانة طفيفة، لم تمنعه من الوثوب على الحكم بعد ستة أعوام، الى أن التاريخ وحده هو القضاء الفصل في مثل العمل، الثوري، الذي نهض إليه. ومن يحتكم الى قضاء التاريخ، ويأتم بلينين والسيد إيليتش يحمل إسمه تيمناً به، ينكر على العدالة البورجوازية، أي العدالة الطبقية وعدالة "الأمبريالية والصهيونية والموساد" بحسب ثوري السيرك الكارلي نسبة الى كارلوس وبطله، الإنتسابَ الى حق أو شرع أو قانون. وعلى هذا لم يكف بطل القَصَص الثوري، وصنيعة الصحافة والخوف الأوروبيين في العقد الثامن ونصف العقد التاسع، عن الترجح بين رواية أفعاله الملحمية وبين تعمد البعث على الضحك في معرض مقاضاة بجرائم قتل عادية. وقد لا يكون التعمد هو السبب الأول في هذا الترجح، ثم في غلبة الإضحاك البائس على الملحمة المزعومة والبالية. فما لا يغالَب في هذه المحاكمة، وفي خطابة كارلوس، هو يقين بخروج الدور من جلد الرجل المتصدي، اليوم، لأدائه والمضي على هذا الأداء. فالرجل السمين والمتبرج والمتأنق، والمتخلف عن ماضٍ يحسبه مجيداً على حين لا يشك حضور المحكمة في كون هذا الماضي تافهاً ومخجلاً، هذا الرجل يشبِّه على نفسه تارةً إحياءَ ماضيه، ثم يعود فيمتثل لتبدد هذا الماضي، ويقنع من بعثه وإحيائه بخطابة مدرس التمثيل المتقاعد، تارة ثانية. وليس ضعف اشتراك الخطيب مع جمهوره في يقين واحد هو العلة في نكوص المزاج عن الإمتزاج" أو ليس ضعف الإشتراك هذا هو العلة الوحيدة. فالرجل نفسه ليس مشترَكاً، على قول ثيودور أدورنو الألماني في البطل الملحمي قبل تمكنه من أَناه الجامعة والمجتمعة. فهو، كارلوس، دون ما يروي" وروايته، أو رواياته وأخباره، دون ما يظن ويحسب" ومن يروي ويقص أخباره على مسامعهم، أكانوا جمهور المحكمة أو جمهور القراء وجمهور الشاخصين الى شاشات التلفزيون، ليسوا من يظن كارلوس أنهم هم، أو لم يبقوا من يظنهم ويحتسبهم. فما خلا نائب إيراني في مجلس الشورى، من أنصار السيد محمد خاتمي على نعت مراسل "الحياة"، والسيد وليد جنبلاط، والسيد عاصم الجندي المحتسب "مردوداً" لأولاده من "كتابه" في "كارلوس/ الوجه الآخر"، رياض الريس للكتب والنشر، كانون الثاني/ يناير 1998، وما خلا السادة عبدالإله بلقزيز والياس خوري وطلال سلمان وعصام محفوظ في قرارتهم "اللبنانية" - لم يحصحص ولم يتبلور جمهور ينتصر ل"وجه"، كارلوس، لا الأول ولا الآخر، او يُلبس "الذاكرة"، الجريح و"المثقوبة"، قسمات الرجل او اخباره ومزاعمه. وليس معنى هذا عزلة كارلوس او وحدته، العربية و"الاسلامية" والعالم ثالثية. فأحوال الرجل، واحوالنا معه، في رواياته وأخباره، اليوم وربما في الأمس، هي كحال فم الظلال. فإذا تكلم هذا الفم تلفظ بظلال الأمس والبارحة، ولم يخرج كلامه مخرج العبارة المعربة عن مقاصد وأفعال وأشياء معاصرة وحاضرة. وتَصْرف هذه الحال الكلامَ، على رغم التلفظ به الآن وفي الحال، تصرفه إلى فضاء أجوف تتردد في جنباته الأصداء غير المسبوقة بقول مستقيم" فكأن الأصداء سبقت الأصل الذي تردده وتحاكيه وتقدمت عليه زمناً وقوة ومكانة. وقد لا يكون السببَ في هذا الفرقُ بين "وقت كارلوس"، وقت الحوادث التي يطلع منها ويصدر عنها ويرويها وكأنها موقف صوفي من مواقف الوقت والزمن، وبين وقت عامة الناس، ووقت فهمهم المشترك والمقسوم بينهم، وحده. فهو، من غير ريب، يخبر عن وقت يحسبه بطولياً، ويحسب كذلك أنه لا يماري في بطوليته أحد غير "الموساد" و"الامبريالية الأميركية". ويحسب كارلوس، من وجه آخر، أن هذا الوقت مقيم في صفته، وعلى هذه الصفة، لا يغادرها ولا يتحول عنها. فلا يخطر بباله جواز انحطاط الحوادث، ووقتها، من مكانتها المزعومة، التي يزعمها هو وأصحابه لها، إلى درك الأخبار عن مغامرات "النجوم"، العاطفية والجنسية والتجارية. ولا يحدس كارلوس في النَّسب الذي يقيمه التأريخ والتذكر، أي الناس الأحياء ولو من جمهوره، بين وقائعه وأيامه وفعاله هو، وبين وقائع اليوم و"روائعه". فيبدو سادراً في حسبانه أن المعنى الوحيد الذي تنم به أفعاله إنما هو المعنى الذي ألبسه هو، كارلوس، هذه الأفعال، ومعه وديع حداد وجورج حبش وغسان كنفاني وبسام أبو شريف، ومعهم "الجيش الأحمر الياباني" و"فريق الجيش الأحمر" الألماني و"العمل المباشر" الفرنسي ،"الألوية الحمراء" الإيطالية، إلى اليوم، وإلى يوم الحساب. أما جواز نسبة أفعال "الجماعة" الجزائرية المسلحة، وهي جماعات كثيرة، ومثلها أفعال "الجماعة" المصرية و"حماس" و"الجهاد" الفلسطينيين والأجهزة الحرسية الثورية في لبنانوالعراق وإيران وأجهزة "الدول" في العراق والسودان وليبيا وغيرها... أما جواز نسبة هذه الأفعال إلى سوابق كارلية وحدّادية، فما لا يمر في ذهن السيد إيليتش راميريز سانشيز، ولا يدور في خلده وخلد أصحابه المقيمين على عهدع. وينص عهد هؤلاء، المضمر أو المعلن، على أن "ظروف الحرب"، على ما يكتب السيد عاصم الجند مردداً اعتقاد بطله واعتقاد من هم على شاكلة بطله، ربما أوقعت "ضحايا كثيرة، وبريئة، سقطت في زحمة العمليات التي قام بها كارلوس" ص 19 من "كتاب" السيد الجندي. لكنها ضحايا ضرورية تسوغ "الحرب"، أو "المقاومة"، وقوعها، أولاً. وهذه الضحايا ليست بشيء إذا وزنت في كفة الميزان التي يزن كارلوس وعاصم الجندي وجورج حبش، و"المقاومون" عموماً، في كفته الثانية، "آلاف القتلى الذين سقطوا في صبرا وشاتيلا، أيام الاجتياح الاسرائيلي للبنان، و 52 قتيلاً في قرية كفر قاسم لديَّ قصة عنها تحولت إلى فيلم سينمائي، أو قرية دير ياسين حيث سقط فيها 152 قتيلاً، منهم أطفال مدرسة بكاملها لديَّ كتاب حولها أيضاً..."، ثانياً. وحيث تقع الضرورة يرتفع الحرام. والحق أن السيد راميريز سانشيز يروي على قلم السيد الجندي "المرهف والشفاف" بعض ملابسات ارتفاع الحرام وأحكامه. ففي 15 أيلوي سبتمبر عام 1974 - وكان يابانيون من "الجيش الأحمر" العظيم اقتحموا سفارة فرنسا بلاهاي واحتجزوا السفير لقاء الافراج عن رفيق لهم اعتقلته السلطات الفرنسية بمطار أورلي في تموز يوليو، وأحجم المقاتلون عن "قتل سجنائهم واحداً بعد الآخر" على ما كان يأمل في الأمر كارلوس ص 73 - قرر وريث الاسم والمذهب اللينينيين في الساعة الثانية، أن يقوم "بعملية على الطريقة الجزائرية" ص 74. ولكي لا يشكل على القارىء، أو السامع الفهم، يشرح المتكلم والفاعل فيقول: "وذلك يعني أن ألقي بقنبلتين في مقهى عادي" الصفحة إياها. "بعد الساعة الخامسة مساءً، ألقيت ]بضمير المتكلم الحي - الكاتب[ قنبلة على مقهى دروغ ستور في سان جرمان. فقتل اثنان وجرح ثلاثون". وانتهت العملية على نحو ما تنتهي القصص المصرية السعيدة: "وانطلقوا بالطائرة إلى الشرق الأوسط، ونجحت العملية"، عوض الزواج والأولاد الكثر. وهذا، وأمثاله، هو ما ينبغي أن يحمله الجمهور، شأن كارلوس وأصحابه ورفاقه ورفاق "ذاكرته" "... أثناء أحداث لبنان كان هناك فرقة تحمل الأعلام الحمراء على بضع سيارات مجهزة برشاشات الدوشكا، وتطلق على نفسها إسم فرقة كارلوس"، ص 34 من "رواية" السيد الجندي، على "معركة مع الأعداء الصهاينة والأمبرياليين عبر الصراع الفكري والتاريخي والحضاري" ص 20، المستمر والطويل، بديهة، حليف المحاربين فيها "الإتحاد السوفياتي، حامي الشعوب الضعيفة و دول الكتلة الشرقية و أكثر من دولة عربية" ص 22. ولا يُضعف حماسة الأصحاب والرفاق و"المتذكرين" نازعُ بطلهم وحامل لواء قضيتهم الى رفع نصب لنفسه واسمه، لا يشاركه في هذا النصب أحد، على خلاف أسلافه الثوريين الذين كانوا يكنون ضغينة ما لأنفسهم. فيعتقد السيد الجندي أن صاحبه "قام برياضات نفسية طويلة ومعقدة للتأكد من ... قدرته على إلباس وجهه ذلك القناع الصخري المنحوت بدقة، فلا يعود في إمكانك أن تستشف أي شيء من خلاله" ص 64. وهو في أثناء محاكمته في القضية الأولى التي يُحاكم فيها لم يترك لبساً في شأن تأليهه نفسه، وتمتعه الخالص برواياته ووقائعها. ولعل إفراده نفسه بأكاليل الغار، ولو ذابلة، من علل إخراج السيد راميريز سانشيز من هيكل رجال التحرير الشعبيين. بل يبدو الرجل في مرآة خطبه الطويلة، وهذره، وفي مرآة "اللقاء الوحيد في حياته" عنوان "كتاب" الجندي، الثاني فاتحة انحطاط حركات "التحرير الوطنية" الى الهاوية التي انحطت إليها على يد أشباه كارلوس، مثل "الرئيس غوزمان"، قائد "الدرب المضيء" في البيرو، وقادة "الجماعيين" الذين "يتمتعون" بنساء الجزائريين، على قول عنتر الزوابري راداً على شائعات مقتله، وعلى يد قادة بعض "الدول" الرائدة في هذا المضمار. وينبغي ان تدعو ولادةُ هذا النمط من الأبطال في ربوع فلسطينية وعربية، الى النظر. فالتبعة عن تسويغ القتل بذريعة "ظروف الحرب" و"المقاومة" و"قتال الأمبريالية والصهيونية" و"التحرير" - ومثل هذا التسويغ دخل بيانات وزراء الداخلية العرب ومؤتمراتهم - هي تبعتنا. وقبول التهويل علينا بمثل هذه المعاني يستقوي بروح الجماعة وعبقريتها وتراثها. ومعانقة الروح والعبقرية هاتين حادي أعمق أحلامنا و"أروعها".