في النهار يجوبون الشوارع بحثاً عن عمل يوفر لهم بضع ليرات بالكاد تكفيهم لسد رمقهم، وفي المساء يسترهم سقف جسر الكولا في بيروت فهو يوفر لهم منامة واستراحة من دون مقابل. وجوههم التي تبدو كأنها غسلت قبل زمن بعيد، تحمل على محياها ارهاقاً وهماً. وعيونهم التعبة تصف حكاية دفينة في اعماقهم اختلطت بنظرات ملأى بالحيرة والضياع. وشعر معظمهم الاشعث يغزوه شيب عايش ويلات في زمن بات من الصعب التكيف معه. هم مشردون بثياب ممزقة وسخة ونعال مهترئة، يضيعون وسط زحام منطقة الكولا التي تضج بسائقي الباصات وسيارات الاجرة والحمّالين والعمال وطلاب الجامعة العربية، حتى يخيل الى الناس انهم اشخاص عاديون على رغم مظهرهم البائس. لكن حلول الظلام يكشف عدم امتلاكهم مأوى حين يتسللون الى اسفل الجسر الذي تفوح منه رائحة الرطوبة والنتانة، ليتخذ كل واحد منهم او كل مجموعة زاوية هي بمثابة منزل يخلو من الاثاث. فالارضية تراب وأمتعتهم بضعة اغطية بالكاد تقيهم برد الليل، وأكياس فيها كسرات خبز وملابس قليلة وقناني مياه. ومن يمر ليلاً من هناك يرَ عشرات الاجساد ممددة تغط في النوم. "الحياة" دخلت عالمهم لتتعرف الى حكايتهم على رغم امتناع كثيرين منهم عن الكلام. عائلة حسن شحادة افترشت مكاناً على التراب حيث جلست الزوجة التعبة وحولها اطفالها الصغار الستة الذين يبلغ اكبرهم ثماني سنوات، بينما وقف الزوج حسن 44 عاماً صارخاً: "دعوني وشأني، لا اريد الكلام. فأنا ادركت فوراً انكم صحافيون. ماذا تريدون منا؟ هل ترغبون في لفت رجال الدرك الينا ليأخذوا منا السقف الوحيد الذي يحمينا؟". وبعد محاولات واصرار قال بصوت مضطرب، والانكسار بادٍ على وجهه والدموع في عينيه: "انا لست مشرداً. لجأت الى هنا بعد ان سُدت الابواب جميعاً في وجهي. هل تصدقون اني ولدت وفي فمي ملعقة من ذهب؟ والدي كان تاجر دخان وعلّمني في افضل مدارس لبنان وعندما كبرت ورثت عنه المهنة الا ان ظروف الحرب افلستني. حتى منزلي الذي كنت املكه في منطقة الاسواق التجارية اخذته مني الدولة قبل عامين بعدما دفعت لي خمسة ملايين ليرة لبنانية. ومذ ذاك وعائلتي تنتقل من منزل الى آخر حتى دفعت كل ما معي ايجارات للمنازل". وقال ان عمله غير ثابت "فمرة اعمل سائقاً وتارة حمّالاً. كل يوم في حال. ولا املك دخلاً ثابتاً او حتى ثمن استئجار منزل ما دفعني انا وزوجتي وأولادي الى جسر الكولا قبل اسبوع ليسترنا". وأضاف: "انا من منطقة المدوّر، ولدي تسعة اولاد. ابنتاي تزوجتا وابني الشاب يعيش مع جدته والستة الباقون معي". ألا يساعدكم احد من اهلكم؟ قال ضارباً كفاً بكف: "ما حدا لحدا! تخيلوا ان والدتي اكتفت بأخذ ابني حسين ليعيش معها في منزلها الكبير بينما ابت استقبالنا بحجة اننا دون المستوى. وأنا لن اطلب من احد ان يأوينا او يساعدنا فالله يتكفل بنا". وأضاف: "اولادي الصغار لا استطيع ادخالهم مدارس وأحاول دائماً توفير المياه والحفاضات لهم". وأشار الى ان "الدولة لا تلتفت اليهم، واذا حاولت المراجعة يُؤَجل طلبي"، سائلاً: "ماذا افعل، هل ابيع اولادي؟". فاطمة امرأة في الخامسة والاربعين من عمرها كانت بنت لنفسها غرفة من كرتون تحت جسر الكولا، وبعد مدة اختفت. "الحياة" بحثت عنها فوجدتها افترشت لنفسها مكاناً في ساحة خالية قرب الجسر. قالت: "انا مصرية تزوجت من موظف لبناني، وعندما توفي قبل اربعة اعوام، تعب اولادي الثلاثة من مصاريفي بحجة ان دخلهم بالكاد يكفي عائلاتهم ما اضطرهم الى ادخالي دار العجزة وأنا في الرابعة والاربعين من عمري!". وأضافت: "لم استطع تحمل هذا الوضع فتركت الدار وهمت على وجهي الى ان وجدت زاوية تحت جسر الكولا. لكن اولاد الحرام طردوني ورموا امتعتي. لا ادري اين اذهب ولا استطيع العودة الى مصر". وهي تعمل احياناً خادمة في بعض المنازل "بأجرة يومية زهيدة لا تكفيني. وبعض الطلاب يتصدقون عليّ بالطعام والمياه وفي المساء اجلس مع صديقي الحاج علي على قارعة الطريق نحتسي القهوة ونتحدث عن همومنا ونتقاسم ما جنيناه وهو لا يتعدى ثلاثة آلاف ليرة في اليوم، ثم اخلد الى النوم في العراء لأبدأ يوماً ثانياً مشابهاً". يوسف كامل، لبناني 52 سنة لا يملك في هذه الدنيا سوى سقف جسر الكولا وكرسي متحرك. يحمل جسده الواهن الذي قطعت رجلاه. يقضي النهار اما بالتأمل واما بالتجول على كرسيه للترويح. قال: "انا من الشريط الحدودي المحتل، افراد عائلتي ماتوا اثناء الحرب وكنت الناجي الوحيد. قصدت بيروت علّي اجد فيها فرصة افضل للعيش. انا مشرد منذ عشرين عاماً وظروف شبابي السيئة منعتني من الزواج خصوصاً عندما فقدت رجليّ في الحرب. وأسأل احياناً، ماذا لو كان لدي زوجة وأولاد؟ كيف سأطعمهم وآويهم؟ البعض يظنني شحاذاً فيتصدق عليّ، لكني لست كذلك". ووصف الحياة بأنها "قاسية ولا رحمة فيها"، موضحاً "انه يعيش كل يوم بيومه، ويتمنى الموت، كل ليلة، علّه يرتاح". محمد الملا اشعث الشعر اطلق لحيته من دون ترتيب، وجهه يفيض اسى وعيناه حمراوان. يجوب الشوارع كل يوم مع طلوع الصباح بحثاً عن عمل وضيع حاملاً حقيبة من القماش المهترئ ليعود ليلاً الى جسر الكولا منهكاً. قال: "كل من يراني في مظهري هذا يرفض تشغيلي فأعود مكرهاً الى جسر الكولا الوسخ لأنام جائعاً في معظم الاحيان، الا من بعض الايام التي يتصدق فيها عليّ افراد من الجيش السوري بأكياس خبز او مما يجنيه صديقي علي الذي يعمل حمّالاً في محطة الكولا وبالكاد يكسب ألفي ليرة في اليوم". وأوضح ان زوجته هجرته وأخذت اولادهما الاربعة، وهو لا يدري اين هي. وقال: "هذا افضل لأنها بالتأكيد ستوفر لهم حياة افضل، على رغم اشتياقي الدائم اليهم. ولكن هذا لمصلحتهم". وبعض المارة اوضح لپ"الحياة" ان جسر الكولا يستقبل ويودع كل يوم متشردين الا ان بعضهم ثابت لا يرحل على امل ان تفرِّج الدنيا عن كربه.