فن جديد اسمه "المسرح الصوتي"، فيه غناء ليس غناء لألحان، وفيه تمثيل ليس تمثيلاً لرواية، وفيه رقص ليس رقصاً حقاً، بل فيه كل هذا بصيغة جديدة، لذا سمي اسماً جديداً هو "المسرح الصوتي". وقد ادّته فرقة "الترنيمة" المصرية، في اخراج وتأليف للفنان انتصار عبدالفتاح. يدخل الجمهور المسرح لاخذ أماكنه، فيجد الفرقة على المسرح: في صدر الخشبة صفان، الأمامي فيه ست فتيات متربعات، وفي الخلفي سبعة شبان متربعين ايضاً، وخلفهم جميعاً سيدة جالسة. وعلى الجانب الأيمن طبول تام تام يجلس خلفها فنان سوداني وبجانبه متربعاً فنان شاب. وعلى الجانب الايسر، فنانة سودانية وبجانبها فنانة مصرية شابة. وفي وسط الخشبة "جثة" مغطاة بنقاب أبيض، تركع حيالها فتاة. تبدأ الفنانة السودانية ستونة المجروس في الغناء بصوت يقرب من المؤثرات الصوتية، لا الغناء المعهود، وبألفاظ إفريقية، ومعها سهير حسين وهي مغنية فردية في الفرقة القومية العربية، في دار الأوبرا، القاهرة، فيما يعزف انتصار عبدالفتاح، الجالس في وسط الشبان في الصف الثاني، على آلة ذات وتر وحيد تشبه الربابة المغربية. بينما ينزل من خلف المتفرجين راقصة وراقص وهما يعزفان على صاجات وأخشاب إيقاعية كلاكيت، لمرافقة الخشخاشة المستطيلة التي يعزف بها الفنان السوداني برتابة. بعدئذ نسمع زلاغيط مصرية نادبة، ثم أصواتاً بشرية تشبه صوت البحر، ثم همهمة مستترة. كل هذه صادرة عن صفي الفتيات والفتيان، الذين تجهزوا كلٌ بآلة ايقاعية مختلفة. فمنهم الدربكة، أو الدفوف أو الرق، ومنهم الاخشاب الايقاعية والخلاخيل والصنوج النحاسية والمثلثات المعدنية والاجراس والطشت. ليست موسيقى العرض موسيقى معهودة، بل بوليفونيا إيقاعات وأصوات بشرية، مقامية في كثير من الاحيان، تخالطها حركة أجساد في تعبير متكامل موحّد. لم يدّخر شيء لاغناء الايقاعات: لا في الآلات، اذ استعملت حتى القباقيب والهاون وارض المسرح لدق الايقاعات، ولا في التأليف الايقاعي المتراوح بين الرتابة والانقلاب الايقاعي والنشاط. وحين تبدأ الراوية، الجالسة خلف الصفين الفنانة القديرة كوثر مصطفى في الكلام بلهجة بدوية مغربية - مصرية، تُميل لفظ الألف، على طريقة اللفظ اللبناني والتونسي، في كلمات مثل الاولاد الأوليد والأيام الأييم، تأخذ الجثة في الحركة ببطء، فتكشفها الراقصة الراكعة أمامها، فاذا بشاب يقوم من موته ويبدأ رقصة حب مع الفتاة، فيما يبدأ جوق الفتيات والفتيان في الغناء، من غير آلات موسيقية منغِّمة عود أو كمان، بل مع آلات ايقاعية فقط ويسمّى هذا النوع من الغناء في أوروبا أكابيلا، في غناء متلاحق، يبدؤه مغن، فيلحقه آخر بعد برهة، ثم ثالث في اللحن نفسه ليشكلوا مع همهمات الآخرين بوليفونيا مقامية عربية مؤثرة جداً. ويتبيّن ان المغني الجالس على اليمين خالد عبد الغفار، وهو ايضاً من المغنين المنفردين البارزين في الفرقة القومية العربية التي يقودها سليم سحّاب في دار الأوبرا المصرية هو صاحب الدور الرئيسي في غناء الرجال، فيما تتقاسم ستونة وسهير الدور الغنائي النسائي. ذلك على رغم ان العرض ليس عرضاً غنائياً معهوداً، بل هو تصويت تعبيري جماعي مختلط من اصوات بشرية وايقاعية وهمهمات منغمة ومقامية في كثير من الاحيان. كلام الراوية رمزي جداً. لكنه يتناول الموت والحياة، وكيف ان الموت هو المنتصر على كل قوي. اما الجانب الراقص في العرض، فينطلق من الموت حين يقوم الميت الى عرسه مع حبيبته، قبل ان يعود الى الموت ثانية، وكأن العرض تمثيل لاحتفال الفراعنة القدماء بموت أوزيريس وبعثه الى الحياة، على وتيرة فيضان النيل السنوي. ولم يقتصر تنويع الايقاعات في العرض على تنويع الآلات الى حد الغنى الفاحش، بل تنوّعت الايقاعات نفسها، من المصمودي الكبير وغيره من الايقاعات العربية المعروفة على الخصوص في الأذكار إيقاع: الله حي مثلاً، الى تشكيلة واسعة من الايقاعات الافريقية الصرف، التام تام، بثرائها المدهش من يدي الفنان السوداني المبدع عبدالله علي آدم شقيق ستونة، الذي تبدلت بين يديه آلات الايقاع الافريقي المختلفة. كذلك تنوّع الغناء من نوع الغناء الريفي المصري، الى الغناء البدوي في بلاد مصر والمغرب العربي، الى الغناء النوبي والسوداني والافريقي الصريح، في عرض صوتي إيقاعي تمثيلي راقص وساحر مضت فيه الدقائق بسرعة، ولم يَشُبها الملل لحظة. واختتم العرض بانتقاب صف الفتيات الست بالنقاب الابيض حداداً على الشاب الذي عاد الى الموت، فيما ارتفع صوت سهير وخالد في بوليفونيا عربية على مقام الهزام، مؤثرة للغاية، زادها تعدداً وغنى وتأثيراً همهمة صفي الفتيات والفتيان، في ما يشبه النواح. مع انتصار عبدالفتاح عرض جميل وفن خلاق جديد استمتع به جمهور السهرات الرمضانية في مسرح بيروت. اذا شئنا تسمية سهلة، أمكننا تسميته "باليه مودرن" عربي. اما صاحب العرض المخرج والمؤلف انتصار عبدالفتاح فيفضل تسمية المسرح الصوتي. ويقول ان هذا المسرح يعتمد على الاصوات ولغة الجسد بتوظيف عناصر مركبة ولغوية وموسيقية من الموروث الشعبي، والتركيز على الصوت بجميع مصادره وأشكاله وأنواعه. لذلك كان لا بد لانتصار عبدالفتاح من ان يكون موسيقياً ايضاً، اي مستمعاً ممتازاً للموسيقى والايقاعات، يعرف التفرقة بين صوت وصوت، بين ايقاع وايقاع، ويحس وقع كل منها في النفس البشرية، لان تأليفه ليس تأليفاً مسرحياً مثل معهود التأليف المسرحي، بل انه يؤسس حركته المسرحية على سياق هيكله العظمي، وهو تشكيل صوتي منوع ومركب من كل العناصر التي ذكرنا وغيرها. اما القصة والرقص والغناء فهي جميعاً اللحم والجلد اللذان يكسوان هذا الهيكل العظمي. ولذا يتكون من جميع عناصر العرض كائن حي مؤثر، لا يمكن للمشاهد - المستمع ان يحضره ثم ينساه. تأسست فرقة المسرح الصوتي ضمن اطار مسرح الطليعة في وزارة الثقافة المصرية. وقد كتب هذا العرض، "الترنيمة"، ونفّذ سنة 1997. يقول انتصار عبدالفتاح: "الصوت يشكل الحركة، وهو متحد اتحاداً عضوياً مع حركة الجسد. وهذا ما أسميه مسرحاً شاملاً، لانه امتزاج عضوي بين فنون الموسيقى والتشكيل والتمثيل". لكن هذا هو بالضبط تكوين فن الأوبرا الذي يضم الصوت والرقص والتمثيل. غير ان انتصار عبدالفتاح يصحح قائلاً: "في الأوبرا الشعر والرواية هما الاساس، وتتكون على هيكلهما الموسيقى والتمثيل والغناء. اما المسرح الصوتي فأساسه الصوت اولاً. فهو الذي يشكل الحركة وبقية العرض المسرحي. ولا يفترض هذا مؤلفاً من نوع خاص فقط، بل على المؤدين والممثلين ايضاً ان يجمعوا الغناء بالتمثيل وبالرقص. انه المسرح الشامل. في الأوبرا الشاعر شاعر فقط والموسيقي يضع الموسيقى ليغنيها المغني، ويرقص الراقص على ايقاعها، ولكل عمله المتخصص. في المسرح الصوتي المسرح شامل، والمهارات يجب ان تكون شاملة. والمنهج المتبع قائم على التقاط لحظة حسية خاصة معينة، وتحويلها الى المسرح. لذا فالممثل في المسرح الصوتي هو ممثل "بوليفوني"، فهو في اللحظة ذاتها يتكلم، ويتحرك عكس كلامه، ويغني في اتجاه ثالث، لان الحياة متناقضات واتجاهات عديدة ومتعارضة". وصلة غناء لم يكن الجمهور بحاجة الى ترضية بعد الترنيمة. لكن طول العرض 45 دقيقة اقتضى اضافة وصلة غنائية، حتى يخرج جمهور مسرح المدينة الى السحور في ساعة معقولة. فغنت ستونة المجروس بخفة دم وصوت افريقي متفوق. وهي مغنية معروفة جداً في أوروبا، اذ ان اسطواناتها احتلت في السنة الماضية 1997 المرتبة الثالثة عشرة توزيعاً. ورافقها على الايقاع شقيقها عبدالله علي آدم، وعلى العود زوجها احمد عبدالكريم. فغنت "يا ساعي البريد" و"إزّيكم، كيف انكم"، وهي أغنية سودانية شهيرة. وغنى وعزف على العود الفنان المصري محمد عزت، وهو من اعضاء فرقة المسرح الصوتي. فغنى من شعر الزجال المصري الكبير فؤاد حداد، وألحانه هو: ستّي يا ستوت باللهجة اللبنانية. وكان حداد لبنانياً فتمصّر وصار من عمالقة الزجل المصري مع بيرم التونسي وصلاح جاهين. وتميّز لحن الاغنية بانتمائه الى مزاج الراحل الكبير فلمون وهبي. كذلك غنّى محمد عزت من ألحانه وأزجال حداد: يا العروسة اللي بتغسل، وهي من نوع الأهازيج الشعبية، ثم غنى من زجل بيرم التونسي وألحان زكريا احمد: يا حلاوة الدنيا. وعزف مصاحباً على الدف انتصار عبدالفتاح، وانفرد في وصلة تام تام رائعة الفنان السوداني عبدالله آدم. انتصار عبدالفتاح ولد في 11 تموز يوليو 1953. وهو مخرج موسيقي في البيت الفني للمسرح مسرح الطليعة التابع لوزارة الثقافة المصرية. ومن أهم أعماله: الدربكة 1989 والترنيمة - واحد 1991 وسفر المطرودين 1992 وكونشيرتو 1994 وهو استعراض لوحات ونحت وموسيقى معاً، وسوناتا 1995 وسمفونية لير 1996 والاخيران على غرار عرض الكونشيرتو. اسس فرقة المسرح الصوتي، وفرقة الطبول النوبية، وفرقة مسرح العربة الشعبية، وهذه فرقة تنتقل بعربة اشبه بعربات بياعي الكوشَري لتقديم عروضها في القرى والارياف. وقد حصل على جوائز تقدير من عدد من المهرجانات، ومثل مصر في أوروبا والهند وباكستان وبلدان اخرى.