عانت المحكمة الدولية لمجرمي الحرب في مناطق يوغوسلافيا السابقة منذ مباشرة عملها بصورة فعلية منتصف 1994، من مصاعب في احضار المتهمين، ما جعلها لنحو سنتين ونصف السنة مقتنعة بمحاكمة اثنين من المتهمين الصرب وواحد كرواتي، لا أهمية لهم، لكن الحال تغيرت مع مطلع العام الماضي عندما سلم ثلاثة متهمين مسلمين أنفسهم، وتبعهم أحد عشر كرواتياً، وألقي القبض على ثلاثة مطلوبين صرب، وأخيراً 14/2/1998 سلم الصربيان ميلان سيميتش وميروسلاف تاديتش من مدينة بوسانسكي شاماتس مسقط رأس الرئيس علي عزت بيغوفيتش، حالياً في شمال الكيان الصربي نفسيهما، وعلى رغم انهما كانا مسؤولين مدنيين في المدينة أثناء الحرب، وتبدو اتهاماتهما محدودة، إلا أن استسلامهما طوعاً للقوات الدولية التي نقلتهما الى لاهاي، يمثل انجازاً كبيراً خصوصاً بتأثيره المعنوي، اذ حفز متهمين صرب آخرين، منهم القائد العسكري في بوسانسكي شاماتس أثناء الحرب سيمو زاريتش لاعلان رغبتهم بتسليم أنفسهم. ولا يزال 52 متهماً على اللوائح المعلنة هارباً، بينهم الزعيمان الصربيان السابقان: المدني رادوفان كاراجيتش والعسكري راتكو ملاديتش، اضافة الى قائد مجلس الدفاع الكرواتي قوات الكروات البوسنيين السابق ايفيتسا رايتش، وتتضارب المعلومات حول أماكن وجود هؤلاء حالياً، ويسود الاعتقاد لدى بعض المراقبين بأن كلاً منهم ذهب الى جهة آمنه خارج البوسنة في مساومة مع اطراف دولية، ويتضح من تصريحات المسؤولين في كل من بلغراد وبانيالوكا الذين أمضت رئيسة الادعاء العام لمحكمة لاهاي لويزا اريور الاسبوع الذي سبق استسلام سيميتش وتاديتش في زيارتهم والتحادث معهم "انه سيتم استخدام النفوذ لدى بعض المتهمين لتسليم أنفسهم" ما يشير الى توافر حل توفيقي لتقريب المواقف بين المحكمة والصرب. ودلت الوقائع ان الكثير من مهمات محكمة لاهاي يكتنفها الغموض، ويجري استغلالها لغايات سياسية على حساب العدالة، اذ ان القائمة المعلنة للمتهمين ليست نهائية ويتم بين وقت وآخر القاء قبض وتهديد أشخاص على أساس ان اسماءهم على اللوائح السرية، ما وفر امكانية استغلالها لابتزاز كبار المسؤولين وارغامهم على الخضوع غير المشروط، يتضح ذلك من تصريح قبل أيام لرئيسة الادعاء العام اربور التي "لا تستبعد ان تشمل الاتهامات زعماء من صربيا أو كرواتيا أو البوسنة"، وكذلك جواب رئيسة صرب البوسنة بيليانا بلافيتش على سؤال مؤخراً في شأن اذ كان كاراجيتش وملاديتش مذنبين، إذ قالت "ان الاتهامات يمكن ان توجه أيضاً الى زعماء الأطراف الأخرى". ويعود مجال هذا الاستغلال للعدالة الى ثغرات متنوعة باتفاق دايتون للسلام، ربما جرى التعمد في احداثها لاحكام السيطرة الدولية على مجرى الأمور، وتظهر أيضاً في مشكلة تداخل المناطق وعدم الحسم في خرائط تقسيم البوسنة الى كيانين، كما هو وضع ضواحي ساراييفو ومنطقة برتشكو وقرى عدة على جوانب خطوط التماس بين هيمنة الفئات العرقية، التي لطالما أدت النزاعات المتواصلة حولها الى التهديد باندلاع حرب جديدة، يصدها الوجود العسكري الدولي الرادع، بينما يتماطل المحكم الدولي الأميركي في وضع نهاية لها، باللجوء المستمر الى تأجيل قراره. ويشكل ابقاء باب الاعتقالات المتبادلة بين الكيانين من دون ضوابط، خطراً كبيراً اتضح بالضجة التي لا تزال قائمة بسبب اقدام المسلمين على اعتقال الصربي غوران فاسيتش 6/2/1998 بتهمة اغتيال نائب رئيس حكومة البوسنة عام 1993 حقي توراليتش، وما تبع ذلك من احتجاجات صربية واسعة، تطورت الى حجز العديد من المسلمين والشروع باقامة جدار بين الشطرين الصربيو المسلم من ضاحية دوبرينيا في ساراييفو، وتأجيل جلسة مجلس الوزراء المركزي 12/2/1998 التي كان مقرراً عقدها في ضاحية لوكافيتسا في القطاع الصربي من ساراييفو بسبب خشية الأعضاء المسلمين في المجلس من اعتداء الجماهير الصربية عليهم إثر اعتقال فاسيتش، على رغم الاجراءات المشددة التي كانت اتخذتها الشرطة الصربية حول مكان الاجتماع، وتطلبت هذه المشكلة حصول أول اجتماع بين رئيس حكومة صرب البوسنة المعتدل ميلوراد دوديك مع الرئيس علي عزت بيغوفيتش، دعا دوديك فيه الى اعادة فاسيتش فوراً الى سلطات الجمهورية الصربية، وعدم تكرار ما حدث محذراً بأنه "إذا كانت لدى الاتحاد الفيديرالي قائمة لمطاردة أشخاص صرب، فإن في حوزة الجمهورية الصربية أيضاً أسماء مسلمين كثيرين لملاحقتهم في المقابل، لأن كل الجنود هم متهمون بالحوادث في الواقع". ويتساءل بوسنيون من كافة الأعراق حالياً، عن جدوى ابقاء مشاكل رئيسية لبلادهم معلقة وخاضعة الى أجل غير محدود لهيمنة واهواء أطراف خارجية، من دون حل نهائي يضع الأمور في نصابها الدائم، وعفو عام عن ما سلف يوفر الأمن ويمنح الثقة ويوقف الانتقام المنظم، فهل ان ما حدث في البوسنة أكثر ارهاقاً من مخلفات الحرب العالمية الثانية وجرائم القائمين بها التي حسمت قضاياها جميعاً بعد عام واحد فقط من انتهاء المعارك؟!