حدثت النقلة النوعية في العلاقة بين الأممالمتحدةوالعراق نتيجة نجاح زيارة الأمين العام، كوفي انان، الى بغداد وتوصل الطرفين الى اتفاق. وبدأت أولى خطوات اعادة العراق الى الاسرة الدولية بما سينعكس على استعادته موقعه الطبيعي عربياً اذا تبيّن ان القيادة في بغداد استقرت حقاً على منهج وفكر وسياسة جديدة في علاقاتها بالمحيطين العربي والدولي. ففي طيات المواقف والقرارات الاميركية حيال العراق في الآونة الاخيرة استعداد للتعايش مع النظام في العراق، ليس بالضرورة بقرار مدروس، وانما كافراز واقعي وعملي للقرارات. هذا الاستعداد يبقى مرهوناً بنمط التصرفات العراقية، وتعتمد احتمالات بلورته مستقبلاً الى سياسة ثابتة على ما اذا كانت النقلة النوعية حدثت في الفكر السياسي للقيادة على صعيد تقديرها لواقع ومتطلبات استعادة الثقة بها محلياً ودولياً. أولى محطات هذه النقلة تتطلب وقف الخطاب السياسي التقليدي، بما فيه من مكابرة وتضليل وتهديد وتضخيم. فانجاز الاتفاق لا يشكل انتصاراً للرئيس العراقي صدام حسين، ولا هو هزيمة للولايات المتحدة. أُنجز الاتفاق لأن الادارة الاميركية سمحت بانجازه، ولأن الحكومة العراقية ادركت ان انجازه في مصلحتها. عناصر عديدة ساهمت في توصل بغدادوواشنطن الى قراراتهما. على الصعيد الاميركي، نظراً الى استبعادها كلياً قرار ارسال قوات اميركية برية الى العراق، الأمر الضروري لتحقيق هدفي القضاء على اسلحة الدمار الشامل واطاحة النظام. ادركت ايضاً ان الرأي العام الاميركي منقسم وان التورط عسكرياً في العراق سيفجّر تظاهرات في جامعات اميركا وشوارعها. وجدت ان الدول العربية لم تكن مستعدة لدعم الضربة العسكرية، ليس فقط خوفاً من تفجر الشارع العربي ضد الولاياتالمتحدة والحكومات العربية التي تدعمها، وانما ايضاً لأن الادارة الاميركية اعلنت ان لديها نصف اهداف وليس اهداف واضحة ومتماسكة. على رغم هذا، بقيت الادارة الاميركية على أهبة الاستعداد لتوجيه الضربة العسكرية في حال فشل مهمة كوفي انان. وعلى رغم ما اعلنته من ان هدف العملية ليس الاطاحة بالنظام في بغداد، فان الترتيبات العسكرية التي تم وضعها استهدفت النظام لاستنزافه تدريجياً عبر تدمير بنيته التحتية السياسية والعسكرية وابلاغ الدائرة المحيطة بالرئاسة انها مُستهدفة. وهذه الترتيبات ستبقى قائمة الى حين اثبات القيادة في بغداد ان تعهداتها صادقة وليست مجرد مناورة لتفادي الضربة العسكرية ثم تكرار التحدي وفرض الشروط. فهذه المرة ليست لدى الولاياتالمتحدة نفسها ذريعة لتجنب الضربة العسكرية، حتى لو تمنت الادارة تجنبها، في حال نكوص العراق وتراجعه عن الالتزامات والتعهدات. حتى روسياوفرنسا لن تتمكنا من معارضة ضربة عسكرية في حال النكوص بالتعهدات. فجزء من الصفقة الديبلوماسية التي سمحت بزيارة الأمين العام الى بغداد موافقة فرنساوروسيا على لغة في قرار لمجلس الامن يثبّت الاتفاق بين الأمين العام والحكومة العراقية، ويعتبر اي نكوص فيها خرقاً مادياً لقرار وقف النار. وهذا يعني ان مجلس الأمن يعطي تلقائياً الصلاحية القانونية لاستخدام القوة العسكرية اذا اخلّت الحكومة العراقية بالاتفاق. وبهذا تحافظ الولايات التحدة على اجماع الحلفاء ودعم مجلس الأمن لاجراءاتها. مواقف روسياوفرنسا والصين، كذلك مساهمة مصر والمملكة العربية السعودية وقطر والأردن وغيرها من الدول العربية، لعبت دوراً في قرار الادارة الاميركية اعطاء الديبلوماسية فرصة حقيقية. هذا الى جانب وطأة ردة فعل الندوة التلفزيونية في اوهايو حين تعرض اقطاب الادارة الى استنطاق عنيف لسياستهم نحو العراق وازدواجية سياساتهم الدولية. فالمعارضة للخيار العسكري جاءت من الاصدقاء والحلفاء على الصعيد الحكومي ومن الجامعات على الصعيد الشعبي. لكل هذه الاسباب قررت الادارة الاميركية دعم مهمة كوفي انان وافساح مجال لإنجاحها. ما ينطوي عليه قرارها، في نهاية المطاف، انها اختارت لنفسها تغليب الحل الديبلوماسي على الحل العسكري. اختارت ضمناً التعايش مع النظام في العراق بدلاً من عملية عسكرية تؤدي الى انهياره. كوفي انان اثبت الكفاءة والقدرة الديبلوماسية الفائقة عند قراءة المواقف الاميركية والعراقية وترجمتها. وتفهم تماماً الخطوط الحمر التي وضعتها واشنطن، وادرك ايضاً اهمية مخاطبة العراقيين بلغة التقدير والاحترام. استفاد من خبرة زعماء المنطقة ومستشاره الخاص السفير الاخضر الابراهيمي وتبنى ثلاثة اسس رئيسية في مداولاته وهي، الشجاعة والحكمة والمرونة، فتمكن من النجاح. ما انجزه كوفي انان يشكل نافذة مهمة للعراق على تحقيق اهداف عدة، ابرزها رفع العقوبات. فالأمين العام راعى اعتبارات السيادة والكرامة والأمن القومي ووافق على اجراءات تفتيش المواقع الرئاسية بما يجعله طرفاً مباشراً فيها لضمان حسن سلوك المفتشين الدوليين. تحدث عن الرئيس العراقي كرجل دولة "مطلع" ووضعه موضع ثقة، ناسفاً بذلك قاعدة التعامل العام مع صدام حسين من منظار "الرجل الخارج عن القانون" و"الجاهل" للعالم. وبمثل هذا الاسلوب، فإن ما فعله كوفي انان هو عبارة عن استثمار في القيادة العراقية لتثبت انها فعلاً حققت النقلة النوعية في فكرها ونهجها. كوفي انان ليس رجلاً متهوراً ولا هو في صدد اجتذاب العداء مع الولاياتالمتحدة من اجل صدام حسين. وما كان انان ليدخل في مفاوضات مع الرئيس العراقي ويلحق ذلك ثناء عليه لو لم يكن قد لمس لدى الادارة الاميركية استعدادها لإعطاء فرصة للنظام العراقي لإثبات نياته السلمية، وموافقتها ضمناً على التعايش مع النظام اذا اثبت ان نقلة نوعية حدثت في فكره ونهجه. عناصر اثبات بغداد عزمها على تنفيذ تعهداتها تشمل أولاً، التعاون التام مع اللجنة الخاصة المكلفة ازالة الاسلحة المحظورة اونسكو ورئيسها ريتشارد بتلر. فمن المهم جداً ألا تتصرف بغداد على اساس ان الاتفاق مع الأمين العام يشكل تجاوزاً للجنة الخاصة وصلاحياتها وحقوقها. كما من مصلحتها الا تتعامل مع ريتشارد بتلر كأنه المهزوم في الجولة الاخيرة من المواجهة بينها وبينه. فعلى رغم هفواته، يبقى بتلر أكثر وضوحاً من سلفه السفير رالف اكيوس، وصراحته مفيدة للعراق اذا صدقت بغداد في التعامل معه. اسلوب بتلر عنيف وجلف ويفتقد الحساسية، لكن له موقفاً قد يفاجئ الحكومة العراقية اذ يعتقد ان من مصلحة الجميع ان تصدر الادارة الاميركية موقفاً واضحاً ينص على ان رفع الحظر النفطي مرتبط بتقديم اونسكوم تقريراً يفيد بامتثال العراق كلياً لمتطلباتها، من دون اقحام شروط اخرى على الفقرة 22 من القرار 687. هذا موقف مهم يمكن الاستفادة منه عبر الاستثمار في الصدق وحسن النية واثبات العزم على الكشف التام عن البرامج والوثائق والاسلحة المحظورة. فمن الضروري جداً كسب ثقة اونسكوم واقناعها، بالافعال، ان برامج المراقبة البعيدة المدى ستستمر بفعالية بعد رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق. فرفع هذه العقوبات هو في ايدي هذه اللجنة. ثانياً، ان زخم الحديث عن ضرورة رفع العقوبات يتطلب مبادرة عراقية لاثبات الصدق وحسن النية كما يتطلب موقفاً عربياً متماسكاً في هذا الشأن. الأزمة الاخيرة فتحت الابواب على علاقة جديدة بين بعض الدول العربية والعراق. فزيارة وزير خارجية قطر، الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، الى بغداد مهمة ليس فقط لأنها اول زيارة لوزير خليجي الى العراق منذ حرب الخليج، وانما ايضاً لأنها مؤشر الى فتح قنوات عربية للاتصال مع القيادة العراقية بشخص صدام حسين، ولأنها ايضاً ساهمت، كما ساهمت اتصالات الرئيس المصري حسني مبارك مع الرئيس العراقي، في انجاح مهمة الامين العام. حان الوقت لوضع سياسة عربية لتحقيق رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق. حتى الكويت قد تكون مستعدة لتكون جزءاً من مثل هذه السياسة اذا اثبتت بغداد، بالافعال، حسن نياتها باجراءات على نسق اطلاق سراح جميع الاسرى، والتعاون في الاطلاع على مصير المفقودين، واعادة جميع الممتلكات والوثائق الكويتية. فمزيج من الاجراءات العملية مع تغيير جذري في الخطاب السياسي من شأنه ان يساهم كثيراً في استعادة العراق موقعه الطبيعي. وقد يكون الوقت مناسباً لاجراءات على الصعيد الداخلي في العراق، بما يفيد حقاً في نقلة نوعية في فكر القيادة ونسجها، مثل تفعيل الوعود بدستور جديد يفسح المجال للمعارضة ويضع اسس الديموقراطية في العراق. فالشجاعة والحكمة والمرونة ليست جرعة استثنائية للتخدير وانما هي نمط يتطلب سلسلة مبادرات. ما انجزه الامين العام فرصة تاريخية للعراق والمنطقة، واستعادة المنظمة الدولية وزنها مفيد في اكثر من قضية من مسألة انضمام اسرائيل الى معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية الى قضية المستوطنات. "الشارع" العربي، كما يُطلَق على الرأي العام في البلاد العربية، ساهم في بلورة مواقف الحكومات وان بمقدار اقل مما ساهم الرأي العام الاميركي في التأثير في حكومته بسبب العلاقة التقليدية بين حكومات المنطقة وشعوبها. ولربما وجدت هذه الحكومات ان اساليب الترفع عن الاخذ باعتبارات تأثير الرأي العام باتت بالية، وان الوقت حان لاعتبار الرأي العام العربي جزءاً اساسياً في استراتيجياتها التفاوضية. فأقطاب الادارة الاميركية اضافوا الاهانة الى الجرح في تلميحاتهم الى ان الحكومات العربية قالت علناً شيئاً وسراً نقيضه. وبلغ استهتار اقطاب الادارة بالرأي العام العربي درجة فادحة من خلال رفضهم مخاطبته عبر الصحافة العربية، فيما كانت الادارة من وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت الى السفير لدى الاممالمتحدة بيل ريتشاردسون، تُغرِق الاعلام الاميركي بأحاديث ومقابلات. وجاءت مواقفهم لتكشف العنصرية والتحقير للرأي العام العربي وزيف ادعاءات الحرص على الشعب العراقي وحماية الشعوب العربية من اسلحة صدام. أقل ما هو مطلوب من الادارة الاميركية في هذه المرحلة هو بعض الوضوح في سياساتها نحو العراق. فلتقل لنا اذا قررت التعايش فعلاً مع النظام او انها لا تزال تعمل على اطاحته. ولتقل اذا كان لا يزال في ذهنها ابقاء النظام والعقوبات معاً في العراق.