يواصل سعدي يوسف منذ ما يقارب العقود الخمسة تجربة شعرية ذات مذاق ونكهة فريدين في اطار القصيدة العربية الحديثة. وإذا كانت هذه التجربة قد تقاطعت في بداياتها مع تجارب الرواد الآخرين كبدر شاكر السياب والبياتي وآخرين فإنها قد نحت منذ اواخر الستينات، وبخاصة منذ الاخضر بن يوسف ومشاغله، منحى شديد التميز وانحرفت نحو عالم بالغ الخصوصية والرهافة. فلقد نأى سعدي يوسف بالقصيدة بعيداً عن فخ الدعوية والخطابة والتبشير بقدر ما نأى عن الجلجلة الايقاعية والبنية الانشادية الملحمية والاطالة الفضفاضة. ومع ان شعره يستند الى خلفية ايديولوجية واضحة تذر قرنها بين حين وآخر فقد عرف، مع استثناءات قليلة، ان يجعل الايديولوجيا في خدمة الشعر، لا العكس، وأن يشي من بعيد بما يريد ان يوصله الى القارئ. فالقصيدة عنده لا تتغذى من الموضوعات الكبيرة ولا تتكئ على ما تم انجازه خارجها من حروب ومعارك وثورات وشهداء بل هي تفيد من الخارج وتستدرج عناصره نحو خفوتها الداخلي وانشغالاتها المضمرة. تقترب قصيدة سعدي بهذا المعنى من تعريف البحتري للشعر حين اعتبر ان "الشعر لمح تكفي اشارته/ وليس بالهذر طولت خطبه". وهي تبعاً لذلك قصيدة ذات بعد اشاري ايمائي لا قصيدة شروح وتفاسير واطناب فضفاض. كما انها قصيدة حوار مع الذات والعالم وتنقيب عن "القطب المخفية" بين الانسان ونفسه او بينه وبين الموجودات والاشياء والاماكن. لا شيء هنا خارج الشعر، من اصغر ورقة مرمية على رصيف او شاطئ بحر وحتى المدن والمرافئ والكواكب والمدارات، فإن شعر سعدي يجسد وحدة الوجود التي تنبثق عنها الكائنات ومن ثم يحاور بعضها بعضاً في تناغم وإلفة حميمين. ولأن الشاعر جوهرياً يكتب قصيدة واحدة، كما يقول إليوت، فإن سعدي يوسف منذ اهتدى الى موضوعه بدا في نتاجه الاخير اكثر طلاقة وغزارة من ذي قبل. كأن الشاعر باكتشافه لروح الشعر وتعريفه الخاصين راح ينسج قصائده بسهولة اكبر وافتعال اقل. فالعالم كله اصبح بما فيه من جزئيات وتفاصيل وقصاصات عيش وأماكن وحيوات مجالاً حيوياً لكتابة لا تتوقف عن المساءلة والبحث عن المعنى خارج السياق المألوف. غير ان فارقاً بيناً لا بد من الاشارة اليه بين العفوية وبين الايهام بها. فشعر سعدي الذي يبدو في احيان كثيرة بسيطاً وسهلاً ومكشوفاً على القارئ هو في حقيقته شعر صعب ومشغول بعناية. انه شعر جهد دؤوب ونمنمة وعبارة موشاة ومغالبة مع اللغة. فالشاعر يبذل جهداً بالغاً في التأليف والانشاء والصنيع لكنه يبذل جهداً موازياً في الحذف والاضمار واخفاء الصنيع لكي يظهر بمظهره العفوي والبالغ الانسياب. لكن المأخذ على سعدي قد يتمثل في جنوحه الاخير الى الغزارة في التأليف والانتاج بحيث تبدو بعض مجموعاته صدى لمجموعات سابقة وتبدو بعض قصائده كما لو انها قد كتبت من قبل. مجموعة سعدي الاخيرة "حانة القرد المفكر" تندرج في الخط الذي بدأه الشاعر منذ ربع قرن وراح يطوره ويغذيه ويقاربه من وجوه وزوايا مختلفة. فالقصائد كما في مجموعات سابقة ذات طبيعة حكائية سردية تقوم على كسر الحاجز بين الشعر والاقصوصة او بين الشعر والسرد. كل قصيدة هي مشهد او فلذة من مشهد او قصاصة من سيرة. هكذا يتحول الشعر الى تأريخ للحياة لا في وقائعها الخارجية او سطحها المكشوف بل في حركيتها المستترة ونظامها الداخلي وتحولاتها العميقة. الشاعر هنا "مؤرخ اللحظة" كما يعبر احد النقاد، غير انه لا يدخل الى التاريخ الا لينتقم من المؤرخين الذين لا يرون من الاحداث سوى نتائجها او ظواهرها المعلنة. سعدي يوسف على العكس من ذلك يعيد التاريخ الى اصله اي الى تلك الجزئيات الصغيرة والتفاصيل المنسية التي تشكل فيما لو اضيف بعضها الى بعض حقيقة الانسان الفعلية وقوام حياته وعمره. كأن شعر سعدي انقلاب على مفهوم البطولة الكلاسيكية المرتبط دائماً بالخوارق واجتراح الاعاجيب والانتصارات المزعومة. هذا المفهوم الذي اخترعه السلطان لكي يوهم بانفصاله وبعده الاسطوري ثم سرعان ما انسحب على المجتمع كله كما على الشعراء والكتّاب واللغة نفسها. البطولة عند سعدي تتحرك في مكان آخر وتتحد اتحاداً وثيقاً بالمأساة لأنها وجه من وجوه المغالبة والعناد ومنازلة الغربة والموت. انها تتمثل في البشر العاديين، في البحارة والجنود والعمال والصعاليك ونزلاء الفنادق الرخيصة وسائر الغرباء الذين يسبحون ضد التيار ويواجهون القدر في قلب ساحته. قصائد "حانة القرد المفكر" هي كمعظم نتاج سعدي الاخير مشاهد مبعثرة من حياة تم انجازها او يكاد. وهي تبعاً لذلك قصائد تفوح منها رائحة الحسرة ويكسوها شجن مقيم. لكن الحسرة عند الشاعر ليست حضوراً فجائعياً صارخاً كما لدى الكثير من الشعراء بل هي ثمرة احساس عميق بالزوال وتبدل المصائر وهروب الاشياء. ومع ان الشاعر يعرف جيداً ان القصيدة لا تستطيع ان ترد غائلة الزمن وضربته القاسية الا انه يستخدمها لتثبيت اللحظة ومنعها من الاضمحلال النهائي. تصبح القصيدة بمعنى آخر نوعاً من الصورة الفوتوغرافية التي تؤبد المشهد وتحوله فيما بعد الى نوستالجيا مزمنة للماضي الذي انصرم. وفي هذه الخانة تماماً تقع قصيدة "استقبال" التي اعتبرها احدى اجمل قصائد المجموعة والتي تستعيد داخل مناخ رامبوي نسبة الى رامبو لافت قلامات مدن ومرافئ مشبعة بروائح البشر والكائنات الاخرى. فالشاعر رحالة ابدي لا يودع محطة الا ليستقبل محطة غيرها تاركاً في كل واحدة منها بعضاً من شهواته وعرقه وقصائده وشجونه. ومع ان القصيدة تنتهي بصرخة توهم بالتفاؤل: "اهلاً بالحياة.. ومرحباً بعشيقتي الأخرى" فإنها في حقيقتها ترشح بالكثير من المرارة الناجمة عن الحاجة الى وطن او مستقر او ملاذ نهائي. قد تكون الفكرة الاخيرة، أي الحاجة الى وطن، هي في اساس هذا الشجن الذي يغلف قصائد سعدي او يخترقها من الداخل. كل شيء عابر في عالم الشاعر وهواماته. المدن عابرة والمرافئ والشهوات والنساء. لذلك فإن هذا العالم يبدو شبيهاً في حزنه المبلل بالشهوة بمناخات المدن البحرية المتوسطية التي نرى بعض وجوهها في "رباعية الاسكندرية" للورنس داريل او بعض روايات حنا مينة البحرية. هكذا هي اجواء "رباعية الميناء" التي تعبق بذكرى حياة لم يبق لها الملح والبحر سوى غنائها المرير على قوس الشيخوخة: "كم أزمان مرت وأنا في المرفأ/ كم من سفن عبرت/ كم من سفن غبرت/ كم من سفن غرقت/ وأنا في هذا المرفأ/ عيناي تغيمان لأبصر:/ أية آفاق تتماوج في البعد، وأي طيور؟/ أي عرائس سوف تغني/ لعظام البحار الضائع في الاسماك؟". في معظم القصائد الاخرى ثمة فكرة تتكرر باستمرار قطباها: المرأة المشتهاة والغريب العابر الذي يتنقل بين الفنادق المتواضعة والمقاهي الشعبية والمرافئ العابقة بروائح الشهوة او البحر. ففي قصيدة "باب البحر" نقرأ: "التفتت نحوي امرأة/ قالت: أنت تجيء هنا حين يغيب الناس/ غريب!". وفي "بنسيون في جونية" نقرأ: "في النزل أرى سيدتين تعدَّان القهوة دوماً/ وتقيمان نهاراً في البهو كراهبتين/ فإن جاء الليل اختفتا". وفي قصيدة "استقبال" نقرأ أيضاً: "لك التهليل يعلو يا فتاة الحانة البحرية.../ الغرباء عادوا". كما تتسرب من معظم القصائد الاخرى روائح نساء عابرات وشهوات ممزقة بسكين السفر والغياب وأماكن لم يعد منها سوى لمعانها الشحيح في قرارة الذاكرة. في قصائد "حانة القرد المفكر" تناوب مستمر بين الحضور والغياب، بين الكتابة والفراغ وبين الاشياء وأضدادها. الفسحات والنقاط التي تفصل بين الكلمات والسطور هي بالاضافة الى العناوين جزء لا يتجزأ من القصيدة التي يجهد الشاعر في تحميلها شعوراً ما او ايحاء بشعور يشبه الرعشة او الوخزة او الانتباه المفاجئ الى حفيف الخسران. هذا الايحاء يجند له سعدي يوسف الايقاع الذي يغلب عليه التموج البطيء حيناً والغناء العالي حيناً آخر والنثر السردي في مواضع اخرى. الايقاع عند سعدي لا يبدو عبئاً او هماً قائماً بذاته بل هو يتخفف من زوائده الانشادية ليدخل في غناء داخلي شبيه بالترانيم والترجيعات والزفرات المكتومة. ثمة مهارات اخرى تتبدى في التقطيعات الصوتية والتعبيرية التي تسهم في اثارة الاحاسيس الموازية للمعنى والتي تجعل من القصيدة لفح نسيم دائم يهب من جهة الاماكن والازمنة المفقودة. كما تتجلى تلك المهارات في استخدام الجناس والبديع والاشتغال على تشابه الحروف وتناغمها الصوتي كما في قول الشاعر: "وانظر الى الماء تلق السماء/ إلى السهم والسمِّ تلق السِّمة". او قوله: "قطارات الجنود تمرُّ مُرَّ تمرُّ مُرَّ" في تنقل مفاجئ بين فعلي المضارع والامر. ثمة وجوه للقول الشعري عند سعدي يوسف لم تتسع هذه المقالة العجلى للإحاطة بها، وثم قصائد اخرى لا يتسع المقام للوقوف على جماليتها وديناميتها الداخلية لكنها مجرد محاولة للوقوف على بعض السمات المميزة لهذه التجربة التي أَثْرَتْ الشعر العربي الحديث وأسهمت في توسيع آفاقه وتعميق مفاهيمه وتفجير طاقاته الايحائية الخلاقة.