الكتاب: "عندما وأخواتها" المؤلف: جاد الحاج نشر خاص، بيروت 1998 خمس وعشرون سنة مضت، على صدور "قطار الصدفة" المجموعة الشعرية الأولى، والكتاب الأول، لجاد الحاج. وعلى رغم أن الحاج بدأ شاعراً، واستمر وفياً للشعر، إلا أن وفاءه لم يمنعه من التجريب في كتابة أجناس أدبية أخرى: كالرواية، فقد أصدر رواية واحدة هي "الأخضر واليابس"، أو القصة، حيث أصدر أيضاً مجموعة قصصية هي "عذراء الصخور" فضلاً عن كتاب "دارج" الذي ضمنه نصوصاً وقصائد. لو سبرنا التجربة الشعرية لجاد الحاج، ورصدنا الخط البياني لها، بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى "قطار الصدفة"، مروراً بمجموعاته الأربع، التي تلتها: 26 قصيدة، الكتاب الثالث، واحد من هؤلاء، شقائق النسيان، وانتهاء بمجموعته الشعرية الجديدة "عندما وأخواتها" الصادرة أخيراً، مدققين في زمن صدور المجموعات، نجد أن الشاعر لم ينقطع يوماً عن كتابة الشعر، على رغم انخراطه التام، تقريباً، في العمل الصحافي. إلا أن هذا الأخير، لم يثنه عن كتابة الشعر، ولم يدمر فيه هاجسه، على رغم تنقله في أماكن متعددة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نرى أن الخط البياني أسلوبياً وتعبيرياً للخطاب الشعري عند الحاج، ظل عند سوية واحدة، حتى وان أصابه اهتزاز أو ارتجاج، أدى الى ارتفاعه أو انخفاضه. كأن ما يهم الشاعر هو أن يكتب وحسب. أن يستمر في الكتابة من دون أن يألو جهداً أو يشعر بأي كلل، أو تعب، يؤدي به الى الانقطاع عن الكتابة. ما يهمه رصد علاقته بذاته، وبالموضوع، بأكثر صدق ممكن، من دون تسليط السلطات المعرفية عبر القصيدة، ولا إدخال هذه القصيدة ضمن مختبرات تجريبية جافة، تجلها صنماً لا يطال بالقراءة. ولم يكن، أيضاً، يعنيه أن تصل قصيدته الى القارىء، كما قد يتوهم للوهلة الأولى يمكن النظر الى الصفحة 59 من مجموعته الجديدة كان يعنيه صوغ لحظته الداخلية الذاتية، بالقبض على كثافتها الواقعية، في حياته الشخصية. مجموعته الشعرية الجديدة "عندما وأخواتها" تنتمي الى السماء الشعرية ذاتها، التي دأب الشاعر على نسجها، فالقصائد تنفتح على القلق الجمالي والتعبيري، ولا تستقر على أسلوبية معينة، شأنها شأن الشاعر نفسه الذي هو في رحلٍّ وترحال دائمين. ونقرأ في هذه المجموعة جغرافيا ذات الشاعر، في حركته الجغرافية، والمرارة التي ترشح منها. وإذا كنا لا نقبض على عصب أسلوبي معين في الخطاب الشعري فإن ذلك لا ينفي تحول وتركز، هذه السمات الجمالية والتعبيرية القلقة، بوصفها سمات خاصة بقصيدة الحاج التي تنفتح على المغامرة الشخصية في شتى مراحلها. إن رصد العالم الخارجي حيناً، وكشفه حيناً آخر، واستبطان جزئيات الرحيل هذا ما يشكل أهم سمات شعرية القصائد. فالمظاهر التعبيرية لاستبطان الذات في علاقتها بالعالم جعلت فضاءها هو فضاء العالم نفسه، هذا العالم الذي تم تناوله بصرياً، أحياناً. أو بث إشارات كثيفة عنه، حيناً آخر، بهذا المعنى يمكن القول ان الخطاب الشعري ذو سمتين أساسيتين: فهو إما أن يشي بالعالم كما في قصائد "الأيام المعلقة"، "عندما وأخواتها"، "تصحيح"، "إسم الآتي"، "البياض الأبيض" إلخ، أو يشير اليه كما في بعض القصائد "يتجلى ذلك في القصيدة نفسها حيناً وفي القصائد مُفْرَدةً حيناً آخر". لكن العالم إذ يحضر، لا يحضر كإنخراط فوتغرافي، في تفاصيله وأشيائه، فالشاعر لا نية له في ذلك، وهو لا يسمح له أن يقيم في القصيدة، وإذا ما أقام فبوصفه ضيفاً، تستضيفه القصيدة، لتودعه في قصيدة أخرى. من دون أن يتم السماح له بالبقاء طويلاً، إن البؤرة الشعرية الأساسية التي يمكن تلمسها في القصائد هي مناخات وفضاءات الرحيل، فالقاموس الشعري في غالبيته يحيل على الرحيل والسفر والغربة: المقاهي، الحانات، المرافىء، القطارات، الغيوم، الرياح، الشراع، السندباد إلخ فالشاعر أشبه ب"غيمة تمضي نحو المجاهل / كمركب سكران" ص 14 وهو دائم الترحال والتنقل، ولا يتوقع رؤيته إلا في "الحانات الخفيضة / في مرافىء القراصنة / في قطارات المسفّرين / تحت الجسور أو فوق الروابي" ص 14 - 15". ان تنقل وسفر الشاعر المستمرين جعلا لقاءه بالآخر لقاءً عابراً، خصوصاً، المرأة، لذا نجد أن حالات حبه هي حالات سريعة، وعابرة، يعوزها الاستقرار في المكان، لتثمر طمأنينة داخلية. فغيمة الرحيل دائماً تخيم على هذه الحالات محولة الرغبة، نفسها، الى شراع "رفعت رغبتي شراعاً" ص 30. لذا ليس على الشاعر سوى أن ينتحل حباً عابراً "لأنه لا يعلم / إلا بالألم / من ينتحل حباً عابراً / كي يفلت من قبضة الوحشة / إلى قبضة السراب" ص 20 - 21. ويبدو الألم مضاعفاً حين تكون فلسفة الشاعر وما يحدد جوهر وجوده هو الحب "أحب أو لا أحب / تلك هي المسألة" ص 20. قصيدة جاد الحاج تتأسس على تصاريف حياة الغريب، المسافر، دائماً، آلامه، ومتاعبه، وحالات حبه، فضلاً عن إشارات من بعض مشاهداته. وهي ليست قصيدة تفاصيل ولا تضيء ما اصطلح على تسميته بشؤون الكائن الصغير، لكن قد يتسرب اليها شيء من هذا، وذاك، لكنها لا تجعلهما عنوانين أساسيين لها، وإذا ما رأينا سياقاً إخبارياً في الخطاب الشعري كما في قصائد "جدتي مريم، أهل الضباب، عاشق أمستردام، فإن هذا السياق الإخباري، قد تمت عملية تحريره من الإسفاف والثرثرة، فصار نقيضاً تاماً للحدث، والمناسبة، فالشاعر لا يسعى اليه ولا يكف عن تحويله حالاتٍ، ومناخاتٍ، ورؤى ملتبسة، مدمراً سياقه الأول الذي يشكله، يضيء الشاعر المكان الذي يمر فيه، كما في قصيدتي "أهل الضباب" التي تحيل على مدينة لندن، وقصيدة "عاشق أمستردام" التي تحيل على مدينة أمستردام. لكننا نلاحظ أن الشاعر كتب ذاته المتشظية، ضمن الأمكنة المتعددة، لا الأمكنة ذاتها. ومن هنا نجد أن الخطاب الشعري لم يسقط في فخ التسجيلي، حتى وإن برز عنصر السرد مشتغلاً في تحتانياته، فالسرد نفسه لم يشط ولم يغرق القصيدة في وصف بارد، بل عمل على تلحيم البؤر الشعرية: "كدت أقول كم أحبك / كدت أحدثك عن مدينة تسرق فيها السماء تحت زخات المطر / يأتزر ماؤها بالماء / وخلف الشرفات الناعسة ينمو نبات الصبار" ص 17 - 18 ان الاشتغال على القصيدة، وتغريبها بالبساطة، الموزعة على طبقات القول الشعري، لم تجعل القارىء يستهلكها بقراءة واحدة، وإذا ما انفتحت على السرد إنها توهم بتقريريته هذه التقريرية تنقذها واحات شعرية دائمة الحضور. قصائد جاد الحاج في "عندما وأخواتها" تنتمي الى السماء الشعرية الخاصة بالشاعر. تطل على ذاته المتشظية، في أمكنة متعددة، وهي لحظات مكثفة من معيشه الشخصي، لا اليومي، الذي تم تغريبه بالبساطة نحو أرض شعرية زمنية حيناً، ولا زمنية حيناً آخر.