قلّ أن وهب شاعر نفسه وحياته برمتها للشعر كما هي حال سعدي يوسف. فمنذ بواكيره الأولى وحتى مجموعاته الأخيرة، تتلاحق أعمال صاحب «الأخضر بن يوسف ومشاغله» دون انقطاع، متحلقة حول معين لا ينضب من الأخيلة والرؤى والمكاشفات. على أن الأبرز في هذه التجربة هو التحامها بالحياة المعيشة في وجوهها وتلويناتها وتمظهراتها المختلفة، وابتعادها عن التأليف المتعسف والحذلقة البلاغية. وسعدي لا يأنس بأي وجه الى الكليات والأفكار المجردة ولا يطل على التاريخ من مكان مرتفع، بل يرمي نفسه في مجرى الزمن ويحاول ما استطاع أن يوقف زحفه المتسارع نحو المصب. ثمة في هذه التجربة محاولة مضنية للقبض على روح الجمال الكوني، أو على ما سبق للشاعر أن سماه «جنة المنسيات» التي تمنعها الكتابة من الاندثار والتلاشي ويساعدها في الإفلات من قبضة العدم. وهو ما لم يكن ليتحقق لولا التعلق الشهواني بالحياة وتدريب الحواس على التقاط كل ما يهب على الشاعر من قصاصات وروائح ونزوات ووجوه وذكريات. ولم تكن قصائد سعدي لتحتشد بكل تلك الأعداد الهائلة من أسماء المدن والقرى والفنادق والمقاهي والسجون والحانات والبشر والنباتات والشوارع والأصدقاء والنساء، لولا خوف صاحبها من الوقوع في براثن النسيان وفقدان الاتصال بلحظات حياته السابقة. هكذا يصبح الشعر عند سعدي محاولة مضنية لإعادة تركيب الحياة وتجميع قطع اللعبة التي حملها الزمن على التبعثر والانفراط. ولعل افتتان سعدي بالشعر الجاهلي مرده الى قدرة هذا الشعر على التفاعل مع أرضه الأم وتعبيره عن وحدة الكائنات التي تتحرك فوقها، والتقاطه نبض الأماكن، وردمه المسافات الفاصلة بين الحسي والماورائي، تماماً كما حاول هو نفسه أن يفعل. قد يرى بعضهم تشابهاً واضحاً بين قصائد الشاعر التي تمتح من المناخات ذاتها في بعض الأحيان وتكرر الأسلوب إياه والمفاتيح التعبيرية عينها في أحيان أخرى. وقد يأخذ البعض على الشاعر غزارته المفرطة التي تمكنه من إصدار عمل أو أكثر في العام الواحد، بحيث تربو إصداراته الشعرية على السبعين. وقد تذهب فئة ثالثة الى نعت لغة الشاعر بالبساطة والتلقائية الزائدة. ورغم أن بعض هذه الملاحظات لا تبتعد عن الحقيقة، إلا أن أحداً لا ينكر على صاحب «قصائد الحديقة العامة» كونه أحد شعراء الحداثة القلائل الذين امتلكوا لغتهم الخاصة وابتكروا نهجاً في الكتابة يقلده الكثيرون ويأنسون الى ظلاله. فالشعر هنا يطال كل ما عده الكثيرون من سقط الموضوعات والأفكار وينفذ الى أضيق الجحور والهواجس، واللغة لشدة بداهتها تلامس الشفوي والدارج، ولا تتجنب التضمين المفتوح على ما تتداوله الألسن من مصطلحات يومية أو أجنبية. وهي تجمع بين الواقعية الصادمة في حسيتها وبين الترجيعات الرومنسية الراعشة التي تهبّ من جهة الماضي. ورغم أنها تشي أحياناً بحياد ظاهري ورؤية «موضوعية» الى الأشياء والوقائع، إلا أنها سرعان ما تخلي أماكنها لنوع من الحسرات الجارحة أو الشجن المكتوم. في مجموعته الأخيرة «محاولات في العلاقة» يواصل سعدي يوسف ما دأب عليه من تحميل الشعر مهمة البحث عن سبل ملائمة للتخفف من وطأة المنفى، بمعنييه الجغرافي والوجودي، وجعل الأرض مكاناً صالحاً للإقامة. وما اختياره لعنوان مجموعته سوى تأكيد جديد على اقتراف الكتابة كمحاولة رمزية للتواصل مع الذات والعالم، علماً أن العنوان نفسه ليس جديداً على الشاعر الذي سبق له أن أصدر مجموعة سابقة بعنوان «محاولات». وإذا كان لا بد أن نطلق على سعدي نعتاً ما يختزل حياته وشعره فيمكن أن ننعته بالشاعر الرحالة الذي يجوب الأرض للعثور على متكأ مناسب لروحه المثخنة بالقلق. إنه عوليس الجديد الذي يصنع أوذيسته من أعقاب المدن والبحار والأماكن التي يجوبها. ولعل قصيدته «كم من أمواه» هي المعبّر الأمثل عن تنقله الدائم من لجة الى لجة ومن ميناء الى ميناء: «ما كنت أحسب أن البحر أسود/ حتى رحت أقصد أوديسا/ لقد بعدتْ عني النخيلات/ لا حمدان مترفة اللبلاب تبدو/ ولا تحت القميص المندّى جسرها الخشبُ/ تحت السفينة كان الماء يضطربُ/ والريح تسودُّ... كاد الكون ينتحبُ». وعلى امتداد المجموعة، يحتفي الشاعر كعادته بالكثير من المدن والموانئ التي زارها، من عدن واللاذقية وبرشلونة وشيراز وأمستردام وتوسكانة وبافوس ولندن وطنجة وغيرها. ليس ثمة في شعر سعدي وقوف على مكان ثابت أو زمن قابل للرسوخ، بل تبدو العناصر كلها قابلة للزوال والتلاشي. ولعل هذه الحقيقة هي ما يفسر العلاقة الوثيقة بين هذا الشعر وبين فن التصوير السينمائي والفوتوغرافي، إذ إن هدف الصورة في الحالين تثبيت اللحظة الهاربة ومنعها من الزوال الكامل. فالاحتفاظ بالذكريات المتقطعة والموزعة بين المطارات والفنادق والحانات والحدائق العامة والشوارع والمقاهي هو السبيل الوحيد للتأكد من ملموسية الحياة وحقيقة المرور فيها، بعد أن تؤول الشمس الى الغروب والذاكرة الى خيانة صاحبها، وبعد أن يؤول الجمال الغض الى التغضن. وهو ما تعكسه بجلاء قصيدة «انطباع بعد ليلة في فندق صغير» حيث كل إقامة في فندق تحيل الشاعر الى مثيلاتها في زمن الصبا الآفل: «بعد أن يبعد العهد خمسين عاماً وأكثر/ ننصت دوماً الى الصمت/ ننظر، لكن الى جنة لم تكن/ قد تعود المشاهد/ لكنْ نفضل ألا نراها/ الصبية، تلك التي كنت أحببتها/ أمسة الجدةَ... البنت، تلك النحيلة كالخيزران/ غدت قبةً/ والفتاة التي كنت تغمزها بالبدانة/ صارت أرقّ من العود/ تمشي مرنّحةً بالعصا». ليس ثمة من ضجيج أو أصوات عالية في شعر سعدي يوسف. ورغم أن معظم قصائده تحافظ على الأوزان، تاركة للقوافي أن تحضر تارة وتغيب تارة أخرى، فإن الإيقاع يتقدم خافتاً وانسيابياً الى ساحة الكتابة، لا ليعيق المعنى ويضلله بل ليساعده في تظهير لغة المساررة والهمس التي وحدها تليق بنوستالجيا الشاعر وحنينه الى أيامه وأماكنه المفقودة. كأن الأشياء والحيوات لا تحضر في هذا الشعر إلا بوصفها ظلالاً وترجيعات لأشياء الماضي وكائناته. لذلك، فإن احتفاء الشاعر بالصمت هو احتفاء بالحاضنة الإلزامية للتذكر والتأمل في مآل المصائر وتنازح الكائنات. هكذا تجسد قصائد سعدي ما يمكن لنا أن نسميه شعر الحالة الذي تبدو فيه الظواهر والمرئيات انعكاساً لأحوال الداخل وتهيؤاته الملتبسة. وقد يكون ضباب لندن هو الخلفية الملائمة لتشوش الذكريات وتداخلها، حيث تتشابك صور الطفولة والكهولة ويختلط ماضي العراق القاتم بحاضره الأشد قتامة: «البيوت مشوشة بالضباب/ السياج الذي يفصل الدغل عن منزلي غاب/ والطير غابْ/ وقد تبزغ الشمس/ قد يرجع الكون نحو طبيعته/ غير أن الضباب الذي تتشربه النفسُ لن يتبددَ/ حتى وإن بزغتْ ألف شمس/ وشاب الغرابْ».