هل يليق بالقضايا المصيرية أن نزج بها في مجال التجريب، المقطوع الصلة بالعقل، والبعيد عن المنهج العلمي، مقتحمين باب "جرب حظك"، فإما أن تصيب وإما أن تخيب؟ لقد تورط السيد عبدالحميد البكوش في شيء من هذا القبيل، في مقاله المنشور في صفحة "أفكار" في 4 شباط فبراير الجاري تحت عنوان "للخروج من نمط واحد للحل: رؤية جديدة لفكرة حكومة مشتركة فلسطينو.. اسرائيلية"، وإن رأى البكوش، محقاً، إمكان فتح نافذة مختلفة، "يمكن الإطلال منها على قضية فلسطين، إطلالة تتسم بالابتكار"، مضيفاً "وأنا ممن يرون أن الوقت حان لنجرب التعامل مع تلك القضية المزمنة برؤية جديدة، وبأسلوب يختلف عما تعودناه". وحمَّل البكوش أساليب الأنظمة العربية مسؤولية ما ضاع "من الأرض لمصلحة اليهود". لكن البكوش بدل أن يبحث في صفوفنا عن أسباب إخفاقنا - وفي مقدمه غياب الديموقراطية - نراه يؤكد "أن لا طريق لمعالجة القضية سوى السلام". بينما ثمة بدهية تؤكد أن من لا يملك مفتاح الحرب لا يملك مفتاح السلام، وفي غياب المفتاح الأول يغدو السلام استسلاماً لإرادة العدو، رغم كل محاولات تزييف وعي أمتنا في هذا الصدد. يتوغل البكوش في التورط، فيرى "أننا نحن العرب، ومعنا على ما يبدو أغلب الفلسطينيين، قبلنا - أخيراً - بحق اليهود في البقاء ضمن دولة لها حدود آمنة، ووقع بعضنا معها معاهدات السلام والتعاون، كما مضت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقي أوسلو الشهيرين". أولاً، بكل المقاييس، لا حق لليهود في ذرة تراب واحدة في فلسطين. ولا أدري من أين للبكوش بهذا الحكم. صحيح أن ثمة عرباً انكسرت إرادة القتال لديهم، فاستسلموا لشروط أعدائهم، لكن إرادة الأمة العربية لا تزال على مضائها، رغم كل ما اقترف بحقها وكل ما جلبته الأنظمة - بأدائها السياسي وبقمعها لشعوبها - من هزائم. إن واحداً لم يعد يرى في "معاهدات السلام والتعاون" إلا اتفاقات إذعان، كما اطّلع الجميع على ملابسات "فبركة" اتفاق اوسلو، في ليل، وبإطلاع أشخاص لا يتعدون اصابع اليد الواحدة من المسؤولين السياسيين الفلسطينيين، ومن وراء ظهر الشعب الفلسطيني، ومؤسسات منظمة التحرير. بل إن المجلس الوطني الفلسطيني البرلمان و90 في المئة من عضويته معينة من قبل متنفذ واحد في قيادة منظمة التحرير - فوجئ بنفسه أمام الأمر الواقع، إذ جرت تعديلات في عضويته، عشية الإدلاء برأيه في "اتفاق اوسلو"، بعد سنتين ونصف السنة من توقيعه، وزهاء سنتين من وضعه موضع التطبيق، وهكذا وجد المجلس نفسه أمام الأمر المقضي. إلى ذلك، يعترف البكوش بانه رغم كل التنازلات العربية "لم نوفق في ما نسعى اليه ونرضاه"، ويردف، مؤكداً "جرى تقديم الكثير من التنازلات، وإن في وقت متأخر، لكن شيئاً لم يتحقق من الطموحات الفلسطينية"، ولم يشر البكوش إلى أن هذه التنازلات تم إهدارها، فحق عليها وصف "تنازلات مجانية". ينتقل البكوش الى دعوتنا لإضاعة مزيد من الوقت، والجهد، والعمل على تعزيز فشلنا. ولأن البكوش مولع بالتجريب، نراه يحثنا كي "نجرب طرح حلول جديدة للقضية برمتها، من قبيل إقامة كيانين متداخلين على كل أرض فلسطين، احدهما فلسطيني، والثاني إسرائيلي، ولكن بحكومة مركزية واحدة. وبعبارة أخرى، اقامة حكومة واحدة لدولتين. وليس دولة واحدة لحكومتين". ويستفيض البكوش في تفاصيل لا تعنينا، ما دمنا نرى الخلل في الجوهر، وفي الخطوط العريضة. فإذا كانت موازين القوة العربية - الإسرائيلية لم تمنح أهل اوسلو مجرد حكم إداري ذاتي محدود، فكيف لهذه الموازين أن توفر لهم دولة، تقف كتفاً الى كتف مع دولة إسرائيل، تتحدان معاً في حكومة مركزية؟! ربما كان الجدير بالبكوش - ما دام السلام خياره الاستراتيجي - أن يهبط بمطالبه الى ما دون الحكم الذاتي، لا أن يرفع سقف هذه المطالب الى هذا الحد. هذا رغم الملاحظات على فكرة حكومة مشتركة فلسطينية - إسرائيلية، أصلاً. كما كان حرياً بمن دخل "اتفاق اوسلو"، من باب التجريب، أن يرتد عن طريق مهاودة الأعداء العقيمة، كي ينظم صفوفه، ويعزز تحالفاته، ويجترح برنامجه السياسي، في سبيل تعديل ميزان القوة إياه، وان يتهيأ للمواجهة، ما دام طريق المهاودة لم يعد يُرضي أعداء الأمة، بل لم يأت لنا إلا بمردودات سلبية. يرى البكوش أن فكرة حكومة واحدة لدولتين "ليست جديدة على الفلسطينيين". مؤكداً أن "فتح" نادت، "منذ تأسيسها، سنة 1958، بدولة علمانية ديموقراطية للعرب واليهود، كما تحدث الميثاق الوطني الفلسطيني عن شيء من هذا القبيل". حنانيك يا سيدي!، أولاً لم تتأسس حركة "فتح" في 1958، فأحد أهم مؤسسيها وأكثرهم دقة، المرحوم خالد الحسن، أكد - في غير مناسبة - أن هذا التاريخ 1958 قد يكون للفكرة حين طرأت، وليس للحركة نفسها حين بدأت. مشيراً بأنه لا يمكن التأريخ لحركة "فتح" قبل تشرين الأول اكتوبر 1963، زمان انعقاد أول اجتماع لقيادة الحركة، وفيه تم وضع أسس العمل، واعتماد تفريغ أول شخصين في الحركة، هما خليل الوزير أبو جهاد ومحمد أبو ميزر أبو حاتم. هذا في حين لا يؤرخ البعض لبداية "فتح" إلا منذ اشتباكها العسكري الأول مع العدو الصهيوني، الذي اختارت له يوم 1/1/1965. أما تأسيس "فتح" فقد غدا معروفاًَ لكل المطلعين على تفاصيل التاريخ السياسي الفلسطيني المعاصر، وقصته أن خليل الوزير تقدم الى فرع "الإخوان المسلمين" في قطاع غزة، حيث كان ينتمي، بمذكرة سرية، في صيف 1957، اقترح فيها أن يستبدل الفرع بيافطته يافطة وطنية عامة، بعد ان اشتد الحصار على "الإخوان المسلمين" من أجهزة الأمن الناصرية، في أعقاب صدام خريف 1954 الدامي بين عبدالناصر و"الإخوان". وأغلب الظن أن الوزير، وعدداً غير قليل من "الإخوان" في قطاع غزة دلفوا الى "الإخوان" من البوابة الوطنية، هالهم أن تنغمس الجماعة، تماماً، في حربها الثأرية مع عبدالناصر، مسقطة قضايا الأمة من حسابها. بمذكرة الوزير انقسم فرع "الإخوان" في القطاع الى مؤيد ومعارض للمذكرة، لكن قيادة "الإخوان" في الخارج باركت هذه المذكرة. وبدأت خمس حلقات مقطوعة الصلة ببعضها البعض، تعمل على خلفية أن "فلسطين بلادنا/ احتلها الصهاينة/ لا بد من تحريرها/ ولا يحررها إلا الكفاح المسلح. وخلال نضالهم التحضيري، نجح اصحاب الفكرة في اقناع المناضل اللبناني المتدين المتنور، توفيق حوري، في اصدار مجلة شهرية، من بيروت، تحمل اسم "فلسطيننا" واظبت على الصدور حتى 1963. وعند قيامها لم تكن "فتح" ترضى عن تحرير فلسطين بديلاً، ولم تتطرق الى الدولة العلمانية الديموقراطية من قريب أو بعيد، الأمر الذي توضحه وثائق الحركة نفسها. على أن شعار "الدولة الديموقراطية" طُرح في بيان، مطلع سنة 1969، على يد مسؤول "فتح" في فرنسا، آنذاك، محمد ابو ميزر، الذي بدأ بإقناع قيادة "فتح" بضرورة مثل هذا البيان، فتبنته تلك القيادة، وباركت خطوات أبو ميزر من أجل إصداره. وسرعان ما أقنع أبو ميزر مجموعة من المفكرين العرب والأجانب بالفكرة، وعلى رأسهم المفكر التقدمي الفرنسي المرموق، مكسيم رودنسون، ومن ثم تبنى أولئك المفكرون البيان. وفي وقت ما أرسلت نسخة من البيان الى القاهرة، وأمام اجتماع للتضامن مع الدول العربية من أجل إزالة آثار العدوان، نظمته حركة "السلام العالمية" قرأه شاب فلسطيني، انضم لتوه الى "فتح" هو الدكتور نبيل شعث. أما الميثاق الذي يقصده البكوش، فلا أدري إن كان "الميثاق القومي" الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الأولى، صيف 1964، وظل يعمل به حتى الدورة الخامسة للمجلس، ربيع 1969، عندما أدخلت عليه بعض التعديلات الطفيفة وسمي ب"الميثاق الوطني". الميثاق الأول رأى في مادته الرابعة، أن "شعب فلسطين يقرر مصيره، بعد أن يتم تحرير وطنه، وفق مشيئته، وبمحض إرادته، واختياره". إذن "الميثاق القومي" كان مع تحرير فلسطين، وإن سمحت المادة السادسة منه لليهود ذوي الأصل الفلسطيني بالبقاء في فلسطين المحررة، "إذا كانوا راغبين"، ولم يفعل "الميثاق الوطني" إلا أن أبقى المادتين على حالهما. فأين هي تلك الحكومة الواحدة لدولتي التي أشار اليها البكوش؟ وبالمناسبة، فإن الميثاقين لم يأتيا بجديد في هذا الصدد، حيث ان "الميثاق الوطني"، الذي سبق للمؤتمر الوطني الفلسطيني الخامس أن اعتمده، رحّب ببقاء اليهود في فلسطين، بعد استقلالها، وبأن يمثلوا في شتى مؤسسات الحكم، بنسبتهم العددية في البلاد. يبقى السؤال الأهم، نوجهه الى البكوش: تُرى، إذا كانت موازين القوة سنة 1969 لم تحقق الدولة الديموقراطية، فمن أين للموازين الحالية، المائلة أكثر لمصلحة عدونا، أن تحقق مثل هذه الدولة؟ وبعد، فإذا كان "تحرير فلسطين" اتُخذ ذريعة للانقلابات العسكرية في أقطارنا العربية، فالعيب ليس في الشعار، بل في من تذرع به، وتجاهله بعد أن نال مرامه. هنا مثال نموذجي للحق الذي يراد به باطل.