الذين يؤمنون بالمقولة الشائعة "ما أشبه الليلة بالبارحة"! سيجدون في الموقف الراهن في منطقة الخليج بعض ما يؤيد منطقهم وبعض ما يخالفه في الوقت نفسه، إذ تظهر مقارنة الوضع السائد إبان كارثة 90/91 بالوضع السائد الآن أوجه شبه وأوجه اختلاف بين الوضعين. فهما متشابهان في كون طرفي الأزمة الرئيسيين في الحالتين هما الولاياتالمتحدةوالعراق، وكون الأمور تسير بطريقة منهجية - حتى الآن - نحو استخدام العنف. غير أن الوضعين يختلفان، إذ أن الوضع الراهن باستثناء ما سبق من تشابه يبدو مقلوب الوضع إبان كارثة 90/91 أو على الأقل مختلفاً عنه إلى حد بعيد. ففي 90/91 كان الجميع ضد الغزو العراقي للكويت، وحتى أولئك الذين بيّنت مواقفهم أنهم كانوا يؤيدون العراق، لم يجرؤ أي منهم على القول انه مع الغزو وإنما كانوا عادة يقولون إنهم يختلفون مع الطريقة التي أديرت الأزمة بها، أو يفضلون الحل العربي... الى غير ذلك من الصياغات التي يذكرها كل من عاش تلك الأيام المظلمة، ولهذا - أي لهذا الرفض الإجماعي ولو على المستوى اللفظي للسلوك العراقي تجاه الكويت - أمكن تكوين تحالف دولي واقليمي وعربي واسع ضد العراق كان له بعد عسكري، أي أنه تضمن مشاركة أطراف التحالف - بما فيها الاطراف العربية - بقوات عسكرية وبدرجة أو بأخرى في العمليات الحربية ضد القوات العراقية. أما الآن فليس الجميع مؤيداً لضربة عسكرية جديدة ضد العراق. صحيح أن الولاياتالمتحدة الأميركية نجحت في حشد تأييد دولي لا بأس به لضربتها العسكرية المتوقعة، ولكن قوى دولية مهمة كروسيا وفرنسا والى حد ما الصين تقف ضد هذه الضربة، وعلى المستوى العربي فإن ثمة إجماعاً على تفضيل الحل السلمي، وثمة ما يشبه الإجماع على رفض أية ضربة عسكرية للعراق، وحتى الذين يؤيدون الولاياتالمتحدة في قرارة أنفسهم لأسباب خاصة بهم لا يجرؤون - كنظرائهم المؤيدين لغزو الكويت في 1990 - على الجهر بذلك. لذلك تستعد الولاياتالمتحدة لضرب العراق بتحالف دولي مبتور ومشاركة عربية غائبة تماماً قوات وتسهيلات. وإذا كانت المقارنة السابقة صحيحة، فمعنى هذا أن المنطقة تتجه الى كارثة جديدة مع اختلاف في عناصر المعادلة الراهنة عن معادلة 90/91، فهل هذا صحيح؟ أي هل من المحتم أن تكون المنطقة في سبيلها الى كارثة تنطوي على استخدام هائل للعنف ضد العراق؟ على المستوى الموضوعي لا تبدو المسألة في حاجة أصلاً الى أي درجة من درجات العنف، فثمة اختلاف حول منهج عمل لجنة التفتيش على اسلحة الدمار الشامل التي يُزعم أن العراق يمتلكها. ويرى الجانب العراقي ان استمرار عمل اللجنة بطريقتها الراهنة التي لا تنطوي على حدود زمنية، وتشكيلها الحالي المنحاز للسياسة الأميركية ناهيك عن الإصرار على تفتيش المواقع السيادية التي يفترض أن تجري فيها ولو من حين لآخر انشطة تمس العصب الحساس للدولة العراقية - كلها أمور تؤدي في التحليل الأخير الى حصار بلا نهاية وارتهان كامل للدولة العراقية وأمنها، ولذلك فهم يطالبون بآلية دولية أيضاً، ولكنها مختلفة من حيث تركيبها، لعملية التفتيش التي يجب أن ترتبط بآجال زمنية محددة. أما الأميركيون فيعلنون أن هذا الموقف ليس سوى مماطلة لإخفاء عملية استعادة العراق قدراته على بناء اسلحة الدمار الشامل، ويبالغون في تقدير هذه القدرات الى حد الزعم حيناً بأن العراق قادر على إفناء العالم بغاز الأعصاب الذي ينتجه أو أن اسلحته - في السقطة المشهورة للرئيس الحالي للجنة التفتيش - قادرة على تدمير تل أبيب، ولا بأس من استعدادات محمومة في إسرائيل لتوقي الضربة العراقية وإضفاء صدقية على المبالغات التي يُعجب بها للأسف بعض العرب باعتبار أنها تظهرهم في موقع القدرة بينما هي تهيئهم للاغتيال. والحقيقة التي لا بد أن الأميركيين يعرفونها، بعد سبع سنوات تقريباً من عملية التصفية المنهجية للقدرات العسكرية العراقية، أن ما سبق لا يعدو أن يكون مبالغات سخيفة. فالأميركيون لهم عيون رأوا بها نتيجة عملية التصفية هذه، فضلاً عن أن لهم عقولاً يستطيعون أن يدركوا ببساطة بها أنه لو كان الجانب العراقي يماطل حالياً لإخفاء قدراته "الهائلة" على إنتاج اسلحة الدمار الشامل لما قدم مقترحه الحالي والقاضي بقبول التفتيش الدولي على كل المواقع، ولكن بآلية مختلفة وتركيبة مختلفة لفرق التفتيش وأمد زمني محدد. المسألة، إذن، لا يمكن أن تناقش على مستوى موضوعي من حيث احتمالات تطور الأزمة. وينقلنا هذا الى مستوى آخر للتحليل هو المستوى "السياسي" والأهداف السياسية للأطراف. ولما كانت الولاياتالمتحدة الأميركية هي التي تملك قرار استخدام العنف من عدمه فإن التحليل ينبغي أن يتجه الى أهدافها. خرجت الولاياتالمتحدة الأميركية من عقد الثمانينات قوة أولى وعظمى وحيدة في العالم ولو إلى حين، برؤية واضحة لقيادة العالم - ولو لم يشأ - تحقيقاً للمصالح الأميركية، ولا يزال هذا الإدراك للدور القيادي الأميركي مستمراً. وفي هذا السياق لا يمكن السماح لطرف ما في اللعبة الدولية بأن يتحدى الإرادة الأميركية. صحيح أن هذا التحدي يتم أحياناً وبنجاح، ولكن ذلك يكون عادة بمناسبة مصالح ثانوية، أو في سياق استراتيجي يتضمن مصالح مشتركة بالإضافة الى المصالح المتضاربة. الأمر الذي لا يدفع الى الصدام في هذه الحالات. أما في حالتنا هذه فإن المصالح الاميركية في المنطقة حيوية، والقبول بالتحدي العراقي مهما كان جزئياً ينذر بخلل قد يتفاقم في المعادلة الراهنة في الخليج، ولذلك فلا يمكن الولاياتالمتحدة الاميركية أن تقبل راضية بالمطالب العراقية، بل لعل هذه المطالب تكون فرصة جديدة لتوجيه ضربات مدمرة للقدرات العراقية بالمعنى الواسع تضمن استمرار بقاء العراق خارج المعادلة لفترة زمنية تالية. وسيكون لهذه الضربات عدد من الوظائف الثانوية، مثل تأكيد أهمية استمرار الدور الأميركي في الخليج، وتدعيم الوضع الداخلي المهتز للرئيس الاميركي، والتشويش على مسؤولية الحكومة الإسرائيلية الراهنة في تعثر عملية التسوية السلمية للصراع العربي - الإسرائيلي، وزيادة عدم الاستقرار في المنطقة. وفي ضوء التحليل السابق، فإن أغلب الظن أن الضربة العسكرية الأميركية قادمة، أي ان التهديدات الراهنة لا تهدف الى الردع والتخويف وإنما هي أداة لكسب الوقت من أجل مزيد من الحشد العسكري والديبلوماسي من خلف الموقف الاميركي حتى يأتي التوقيت الأمثل للضربة المتوقعة. وأسوأ ما في هذا السيناريو أنه يدمر تدميراً هائلاً، وقد يثير القلاقل لكنه لا يقدم حلولاَ جذرية لمعضلة الأمن في الخليج، بل سيزيد من تعقيدها بالتداعيات المتوقعة للضربة إقليمياً وعالمياً، ومن ثم يدخل المنطقة في حلقة مفرغة من العنف وعدم الاستقرار، إذ ستترتب على الضربة بالتأكيد درجة عالية من التدمير للقدرات العراقية. وأغلب الظن، في ضوء المعطيات الخاصة بالميزان العسكري الأميركي - العراقي وطبيعة الضربة المتوقعة من الناحية التكنولوجية، أن القدرة العراقية على الرد ستكون محدودة، ونرجو ألا تطول بأي حال أطرافاً عربية مهما كان موقفها في الأزمة الراهنة حتى لا يزداد الموقف العربي تعقيداً. وأغلب الظن أيضاً أن النظام العراقي سيبقى، ذلك أن تدمير قدرات دولة شيء وتغيير نظام حكمها شيء آخر، وهو بالمناسبة ليس كما يصور البعض عملية جراحية سهلة يجريها جراح ماهر أو مغامرة من مغامرات الأفلام الأميركية. وقد تثور بعد الضربة قلاقل لكن الاحتمال الأكبر أن تبقى تحت السيطرة، وإذا حدث هذا كله فإن النظام العراقي بعد الضربة لن يكون لديه أي دافع لإلتزام قرارات مجلس الأمن الراهنة ما لم يجبر على هذا بحرب برية لا تفكر الولاياتالمتحدة الأميركية في خوضها لأسباب واضحة. وهكذا تدخل المنطقة في دوامة أعنف وحلقة مفرغة أكثر اكتمالاً من العنف وعدم الاستقرار ومن ثم عدم الأمن. والسؤال الآن: هل السيناريو السابق حتمي؟ بعبارة أخرى: هل أصبحت الضربة العسكرية الأميركية للعراق وتداعياتها حتمية؟ يرى البعض ذلك استناداً الى تحليلات ومعلومات، بمعنى أنه حتى لو تراجع الجانب العراقي على نحو غير مشروط فإن الضربة ستحصل، وهو تحليل صعب الاتفاق معه، أو على الأقل صعب الاتفاق معه بالكامل. إذ لا شك أن ثمة مصالح حيوية أميركية تتحقق من خلال هذه الضربة كما سبقت الإشارة، ولكن لا شك أيضاً أن الحسابات الرشيدة تظهر أنه ستكون للضربة كلفتها بالنسبة الى الجانب الأميركي أيضاً. وعلى رغم أن الكلفة المادية سواء تلك المتعلقة بتمويل الضربة أو خسائرها المحتملة ستكون في حدها الأدنى لأسباب معروفة إلا أن المفاجآت واردة، خصوصاً أن الخسارة مسألة نسبية من المنظور السياسي الداخلي الأميركي. كذلك فإن الكلفة السياسية ستكون واضحة هذه المرة، وقد تكون عالية خصوصاً أن أياً من الدول العربية لن تشترك مباشرة في توجيه الضربة، كما أن التأييد الدولي تنقصه أطراف مهمة. لذلك فإن التراجع الأميركي عن توجيه ضربة وارد، إذا تراجع الجانب العراقي عن موقفه وقبل بما تطلبه منه الولاياتالمتحدة الأميركية. فهل يكون المخرج من المأزق الحالي شديد الخطورة بمناشدة الجانب العراقي أو حتى الضغط عليه لكي يتراجع كلياً عن مواقفه ويسمح بالتفتيش المطلوب أميركياً من دون قيد أو شرط لكي يتم تفويت الفرصة على الضربة الأميركية؟ يبدو أن هذا هو المخرج الذي تفضله السياسات العربية المعلنة الراهنة، ولكن عيبه الأساسي هو أنه يعني هزيمة سياسية كاملة يرى الجانب العراقي أن نتائجها بالنسبة الى الدولة والنظام العراقيين أخطر من نتائج الضربة العسكرية. ولذلك أتصور أن المطلوب هو مخرج يجمع بين تفويت الفرصة على توجيه الضربة العسكرية وبين الاستجابة للشكوى العراقية من تركيب لجنة التفتيش وأسلوب عملها. لقد استخدم الأميركيون تعبيراً بدا هزلياً في حينه عند محاولتهم تحريك عملية التسوية المتعثرة بفضل الحكومة الإسرائيلية، وهو تعبير "الوقت المستقطع" Time Out الذي يستخدم كثيراً في المباريات الرياضية حين يتوقف اللعب وتعود الأطراف المتبارية للتشاور داخلياً قبل اللحظات الحاسمة، وكان المقصود في ذلك السياق هو أن تتوقف عملية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية لفترة محدودة يمكن دفع عملية التسوية اثناءها، وما أتصوره الآن هو أننا بحاجة وفقاً لهذا المصطلح الأميركي الى وقت مستقطع تتوقف فيه مباراة "حافة الهاوية" الحالية يعود خلاله الجانب العراقي لقبول عملية التفتيش وفقاً للنموذج السابق مع شرط وحيد لا أتصور أن الولاياتالمتحدة يمكن أن ترفضه من دون كلفة سياسية عالية، هو أن يتزامن مع عودة العراق لقبول التفتيش وفق ما هو مطلوب منه اجتماع لمجلس الأمن ينظر في شكوى عراقية موثقة من التركيب الحالي للجنة التفتيش واسلوب عملها، تطالب - أي الشكوى - في إطار قبولها قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بإعادة النظر في هذا كله، أي في التركيب واسلوب العمل معاً حتى يصبح من الممكن وضع جدول زمني لانتهاء اللجنة من عملها ويرفع بعد إتمامه الحصار على العراق، ولن يستغرق نظر المجلس لهذه الشكوى أكثر من 30 - 45 يوماً على سبيل المثال. ويستطيع الجانب العراقي إذا رأى أن ثمة مماطلة اكثر من هذا أو إذا احبطته نتائج نظر مجلس الأمن في شكواه أن يعود لممارسة ما يشاء من سياسات، فإذا أقدمت الولاياتالمتحدة الأميركية على ضرب العراق حتى لو قبل هذا الاقتراح أي العودة للتفتيش وفق المطلوب مع شرط وحيد هو اجتماع مجلس الأمن لإعادة النظر في العملية برمتها خلال فترة زمنية محدودة فإن الكلفة السياسية بالنسبة اليها ستكون أعلى بالتأكيد، وسيكسب العراق تأييداً اقليميا ودولياً أوسع، ولن يخسر أكثر مما كان سيخسره مادياً لو لم يقم بهذا التحرك. والسؤال الآن: هل يساوي انقاذ القدرات العراقية وشعب العراق ومنطقة الخليج والأمة بأسرها أن تحاول كل الأطراف العربية المعنية، وفي مقدمها العراق، النظر في هذا المقترح أو أي مقترح شبيه، أم أنه كتب على هذه الأمة أن يستمر استنزاف مواردها وتعويق تقدمها الى ما لا نهاية؟