منذ انفجار الأزمة الأولى بين الولاياتالمتحدة ونظام الرئيس العراقي في تشرين الثاني نوفمبر العام الماضي، بدا أن الإدارة الأميركية تلجأ إلى اسلوب التضخيم في الحديث عن القدرات العسكرية العراقية الحالية، التقليدية وغير التقليدية، ما يعيد إلى الأذهان التقديرات المبالغ فيها حول حجم الجيش العراقي ومستوى تسليحه التي جرى تداولها في وسائل الإعلام الأميركية وعلى ألسنة المسؤولين الأميركيين خلال الفترة التي سبقت الهجوم الشامل على العراق في مطلع 1991. وتكرر استخدام الاسلوب نفسه على نحو لافت اثناء الأزمة الراهنة، مع إضافة عناصر جديدة إليه اقتضتها عملية الحشد الدولي التي تقوم بها الإدارة الأميركية على نطاق واسع. أدلى وزير الدفاع الأميركي وليم كوهين في 25 تشرين الثاني الماضي بتصريح قال فيه: "إذا صحّت توقعات الأممالمتحدة بأن العراق يملك مئتي طن من مادة x7 الكيماوية الخطيرة، فهذا يعني نظرياً القدرة على قتل كل إنسان يعيش على سطح الكرة الأرضية". وعلى رغم ان هذا التصريح اثار استغراب المراقبين ودهشتهم لما انطوى عليه من مبالغة متعمدة، إلا أن الوزير الأميركي ردد أقوالاً مماثلة لدى تجدد الأزمة الراهنة بسبب موضوع لجان التفتيش العاملة في العراق ورفض السلطات العراقية السماح لها بدخول القصور الرئاسية وبعض المواقع الأخرى التي ينظر إليها على أنها "مواقع سيادية". بيد أن اسلوب التضخيم والايحاء لم يقتصر استخدامه على المسؤولين الأميركيين وحدهم، بل شمل أيضاً فريق المفتشين الدوليين في العراق ريتشارد بتلر، الاسترالي الجنسية، الذي بدا وكأنه جزء من اوركسترا أميركية تعزف لحناً واحداً مشتركاً. وأعلن بتلر في حديث نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن العراق "يملك صواريخ مزودة شحنات جرثومية كفيلة بإبادة سكان تل أبيب". وتعرض بتلر، بسبب تصريحه هذا، لحملة تنديد دولية شاملة، حين اتهم بأنه يصبّ الزيت على النار ويحرض الاسرائيليين على تأييد الاجراءات الأميركية والبريطانية الرامية إلى توجيه ضربة عسكرية مشتركة للعراق ودفع الرأي العام العالمي لاتخاذ موقف مماثل. فضلاً عن ان حشر إسرائيل في هذا الموضوع - من خلال تسمية مدينة تل أبيب بالذات كهدف محدد للصواريخ العراقية - لا تخفى أهدافه على أحد. وفي إطار الحملة السياسية والديبلوماسية الواسعة التي تقودها واشنطن للحصول على مباركة دولية لخططها العسكرية ضد العراق، تكررت الاتهامات الأميركية واتخذت شكل حملة مركزة، في الوقت الذي ما تزال تواصل حشد قواتها في المنطقة وتجميع آلتها الحربية المتطورة. وبدا واضحاً ان الإدارة الأميركية اتخذت قرارها النهائي في شأن توجيه ضربة عسكرية شاملة للعراق تتفق تصريحات المسؤولين الأميركيين والبريطانيين على أنها ستكون أكثر من ضربة تأديبية عادية. وباستثناء الموقف البريطاني الداعم بغير حدود للعملية الأميركية المقررة، فإن مواقف الدول الأخرى المعنية، لا سيما الدول العربية والإسلامية، وبعض الدول الكبرى مثل روسيا وفرنسا على وجه الخصوص، تتسم بالتحفظ الشديد وبالرغبة في تجنب الخيار العسكري والاكتفاء بالوسائل الديبلوماسية لمعالجة الأزمة، ودائماً في إطار المؤسسات الدولية. إن هذا الموقف الاقليمي والدولي ينطلق من اعتقاد يبلغ حد الاقتناع اليقيني بأن الولاياتالمتحدة تتعمد تعقيد الأزمة وتضخيم العناصر السلبية فيها بهدف خلق ذرائع تبرر لها استخدام القوة العسكرية. ذلك ان الخيار العسكري - الاحادي، أو الثنائي بالتعاون مع بريطانيا، يؤدي إلى رفع مسؤولية الأممالمتحدة عن المشكلة ويحررها من تأثير بعض الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن كروسيا وفرنسا، حيث تهدد الأولى باستخدام حق النقض الفيتو ضد الخيار العسكري. وهذا ما يحقق للولايات المتحدة هدفاً مهماً يتمثل في إستعادة مكانتها الدولية، باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة في العالم، بعد ان تعرضت هذه المكانة لتشكيك متعدد المصادر والأسباب، كما يتيح لها فرض مصالحها الاقتصادية على نحو يعيد إلى الأذهان المرحلة التي أعقبت حرب الخليج الثانية، كذلك سيحمل مثل هذا التطور بعض الدول العربية على إعادة النظر في حساباتها، نظراً لحالات التمرد العديدة التي شهدها المسرح الاقليمي وكان من نتائجها رفض الكثير من الرغبات الاميركية، سواء ما يتعلق منها بالتطبيع مع اسرائيل والاندماج في المشاريع الاميركية - الاسرائيلية الخاصة في منطقة الشرق الاوسط، او في ما يخص الاحتواء المزدوج الذي يستهدف العراق وايران في آن معاً. وبقدر ما ينطوي عليه الموقف الاميركي الحالي من معان ودلالات بعيدة المدى، فان ردود الفعل الدولية التي برزت بازائه، اكدت وجود تناقض حاد في اساليب العمل، كما في الاهداف والمصالح، الامر الذي ادى الى ظهور تكتلات دولية متعارضة. ففي الوقت الذي وقفت بريطانيا الى جانب الولاياتالمتحدة في مخططها الرامي الى شن حملة عسكرية جديدة على العراق، تشكّل نوع من التحالف بين روسيا وفرنسا يقوم على قاعدة رفض الخيار العسكري والاكتفاء بالمحاولات الديبلوماسية لحمل الحكومة العراقية على الانصياع للقرارات الدولية من دون أية اضافات خاصة كتلك التي تحاول واشنطن ان تفرضها بدافع تأكيد دورها المهيمن. ونظراً للمدى الذي بلغه التناقض بين "التكتلين" لم يتردد الرئيس الروسي في التلويح بخطر تحول الصراع الاقليمي الناشئ عن توجيه ضربة عسكرية للعراق الى حرب عالمية، الامر الذي اعاد الى الذاكرة تلك المواقف البارزة التي ارتبطت باسم الاتحاد السوفياتي سابقاً خلال عدد من الازمات العالمية الاستثنائية، لا سيما في بعض مراحل الصراع العربي - الاسرائيلي. وعلى رغم ان الرئيس الاميركي حاول التخفيف من وقع تصريحات الرئيس الروسي والتقليل من اهميتها، غير ان مجرد الادلاء بها يشير الى الحدود التي يمكن ان يبلغها الصراع الدولي في حال اصرار قوة واحدة على فرض ارادتها ومصالحها على القوى العالمية الرئيسية الاخرى. ومن أجل المزيد من تأكيد هذا المعنى كرّر الرئيس الروسي تصريحاته "الاستثنائية" مرة اخرى، لا سيما بعد ان حاولت بعض المصادر الاميركية التعامل معها بنوع من الاستخفاف وعدم الجدية. الى جانب ذلك اتخذت معظم الدول العربية موقفاً رافضاً للخيار العسكري، على رغم مآخذها على النظام العراقي، انطلاقاً من حقيقة وجود معيارين اميركيين في التعامل مع القضايا الدولية. ففي حين تشدِّد واشنطن على ضرورة ان يلتزم العراق حرفياً كل القرارات الدولية المتعلقة به، مع تفسيراتها الاميركية، تطبِّق سياسة مغايرة تجاه اسرائيل التي تحتل الاراضي العربية وتنكّل بالشعب الفلسطيني كله وتنتهك كل القرارات الدولية من دون استثناء وصولاً الى التنكر لاتفاقات اوسلو التي وقعت في واشنطن بحضور كلينتون. ومن الواضح ان الدول العربية التي زارتها وزيرة الخارجية الاميركية في جولتها الاخيرة ركّزت على هذا التناقض الاميركي وطالبت بفرض معيار دولي واحد على مختلف القضايا والازمات والاطراف المعنية بها من دون أي تفريق أو تمييز. ويعترف كل المراقبين بأن هذه الازدواجية في موقف واشنطن تشكّل احدى نقاط الضعف التي تنطوي عليها السياسية الاميركية ازاء العراق. ذلك ان الدول العربية لا تستطيع ان توافق على ضرب العراق بسبب مخالفته قرارات دولية بينما اسرائيل تفعل ما هو اسوأ من ذلك بكثير، اذ تواصل احتلالها للاراضي العربية وترفض الاعتراف بأي وثيقة دولية، فضلاً عما تخزّنه من اسلحة دمار شامل وفي مقدمها السلاح النووي. ثمة حقيقتان اكدتهما الازمة الراهنة: - الاولى، ان الولاياتالمتحدة تحاول عن طريق القوة المسلحة فرض ارادتها على العالم في تجربة جديدة تضع فيها تفوقها العسكري قاعدة وحيدة للمعادلة الدولية. - والحقيقة الثانية، ان العالم يرفض الاحادية القطبية، سواء عبَّرت عن نفسها بالهيمنة الاقتصادية كما في قرارات فرض الحصار والمقاطعة على دول معينة، او بالهيمنة العسكرية من خلال استخدام القوة المسلحة ضد دول تتصف مواقفها بالتمرد. لذلك سيشهد العالم مزيداً من التكتلات بين الدول التي ترى بأن الهيمنة الاميركية انما تتم على حساب دورها كقوى دولية رئيسية وعلى حساب مصالحها القومية. وحتى اذا ذهبت واشنطن في قرارها باستخدام القوة ضد العراق الى النهاية، فإن العواقب الدولية التي ستنشأ عن هذه الخطوة ستوازي او تفوق النتائج "الايجابية" المباشرة التي قد تجنيها الادارة الاميركية، لا سيما على الصعيد الداخلي حيث يتعرض الرئيس الاميركي لحملة شخصية بسبب الفضائح الجنسية المنسوبة اليه، وحيث تواجه زعامته اختباراً جديداً. ... هذا اذا جاءت حسابات الحقل - الاميركية - مطابقة لحسابات البيدر، على الصعيد العسكري، وفي المجالات الاخرى المتعددة.