واجه ابن رشد صعوبات كثيرة في تلخيص ارسطو وشرحه، أولاها عدم معرفته اللغة اليونانية فاضطر الى استخدام تضلعه بالفقه والتفسير للتحقق من الترجمات ومقارنتها لضبط الصحيح من الخطأ. واعتمد في ذلك اسلوب مقاربة النصوص وترجيح نص على آخر وتقوية نص وتضعيف آخر وهو الأسلوب الذي أسسه علماء الحديث في جمع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه. استفاد ابن رشد كثيراً من مهنته كقاضٍ في قرطبة وإشبيلية ومن علومه القرآنية ودروسه السابقة في تعلم طرق المتكلمة في المناظرة والمحاججة وتنظيم أفكارهم وترتيب مقالاتهم. كذلك استفاد من صلات صاحبه ابن طفيل بأمير الموحدين الذي كان يرعى العلم ويحب الفلسفة الأمر الذي أتاح له التفرغ لمهنته القضاء ومهمته شرح فلسفة ارسطو. ومنذ العام 564 هجرية بدأت شهرة ابن رشد تنتقل من حقل الطب الى حقل الفلسفة فقام خلال فترة عمله كقاض في اشبيلية في تلخيص كتاب "الحيوان" لأرسطو. بعدها احتاجه أمير الموحدين لتولي القضاء في قرطبة ليأخذ مكان والده فانتقل في العام 566 هجرية الى مسقط رأس اسرته وأجداده وتولى قضاء قرطبة لمدة عشر سنوات شرح خلالها كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو وغيره من المصنفات اليونانية راجع نصري نادر، مقدمة كتاب فصل المقال. تدافعت في الفترة المذكورة الحوادث في المغرب والمشرق ولاحظ المؤرخ ابن الأثير تلك العلاقة بين المنطقتين حين كان الفرنجة يردون على خسائرهم في المشرق بهجمات مضادة في المغرب لإرباك دولة الموحدين ومنعها من ارسال تعزيزات تدعم قوات نورالدين في بلاد الشام. ويؤرخ ابن خلدون معارك ابن عبدالمؤمن ضد الفرنجة في الاندلس من سنة 564 الى سنة 567 هجرية وهي السنوات التي دخل فيها صلاح الدين الايوبي مصر وأخذ يعيد تنظيم أمورها ويرتب أوضاعها تمهيداً "لإعلان نهاية دولة الفاطميين وعودة مصر الى مظلة الخلافة العباسية" وهو أمر تحقق في سنة 567 هجرية. وبعودة مصر الى الخلافة العباسية توحدت بلاد الكنانة مع الشام في دولة نورالدين التابعة للمركز في بغداد، وفي الآن ازدادت هجمات الفرنجة في الاندلس الأمر الذي دفع يوسف بن عبدالمؤمن الى تركيز جهوده لوقف الهجمات والتصدي للغزوات التي كانت تربكه. وسجل ابن عبدالمؤمن انتصارات عسكرية ضد حملات الفرنجة في الاندلس التي استمرت خمس سنوات ونجح فيها الموحدون في كسر شوكتهم وضم مرسية وبلنسيه الى دولتهم في العام 567 هجرية اعقبها قيام ابن عبدالمؤمن بهجوم معاكس وصل الى مدينة رندة ومحاصرة طليطلة من الشرق، لكنه تراجع عن اقتحامها بسبب صعوبات التموين والامداد فعاد الى اشبيلية في سنة 568 هجرية بعد ان اطمئن الى أوضاع دولته وعجز الفرنجة عن مواصلة مهاجمته. واستغل فترة الهدوء وبدأ بتحصين القلاع وترتيب أمور الدولة لمواجهة ما يحضره الفرنجة من هجمات في المستقبل. وفي وقت كان عبدالمؤمن يعزز القلاع والحصون في الاندلس، حصلت انتفاضة في قفصه فاضطر الى العودة الى مراكش واستبقى ابن رشد في مركزه في قرطبة كقاض للمدينة، واستمر الى جانب وظيفته في اخراج أفكار ارسطو وغيره من بطون الترجمات العربية المتعددة والمتناقضة. آنذاك حصل تطور مهم في المشرق وهو وفاة نورالدين محمود زنكي في سنة 569 هجرية بعد خلافات على الاستراتيجية العسكرية مع صلاح الدين الأيوبي اثرت نسبياً على المواجهة مع ممالك الافرنج. وبرحيل نورالدين حصلت مناوشات بين صلاح الدين ورجال دولة قائده السابق تطورت في أحيان كثيرة الى معارك حامية للسيطرة على دمشق وحلب. واضطر صلاح الدين الى خوض حربين في الآن: واحدة ضد أولاد نورالدين واخوته في حلب والجزيرة، وأخرى ضد المواقع الافرنجية فأغار على مخافرهم الأمامية في حوران والكرك واسترد شقيف وحاصر بيروت على الساحل. واستمر التجاذب العسكري في المشرق على جبهتين داخلية مع الدولة الزنكية وخارجية مع ممالك الفرنجة وهو أمر عطل على صلاح الدين تنظيم هجومه الكبير الى فترة قصيرة نظراً الى صعوبات تتعلق بترتيب وضع مصر وتحصينها الى مشاكل بحرية بناء اسطول وفنية وحاجته الملحة الى قوات بشرية لتعزيز قواته. ولم يختلف وضع المغرب عن المشرق اذ واجه عبدالمؤمن بدوره صعوبات داخلية اثرت على قدراته التنظيمية حين كان في أمس الحاجة اليها لوقف التمدد الافرنجي في الاندلس. انتهى ابن عبدالمؤمن أبو يعقوب من تطويق انتفاضة قفصه في العام 577 هجرية وما كاد يستقر وضعه الداخلي حتى جاءت الاخبار من الاندلس حاملة معها معلومات عن حشود للرد على الغزوات التي قام بها أمير الموحدين في اشبيلية وانزاله بهم هزيمة بحرية كبيرة. أمام هذه التحولات اضطر خليفة الموحدين الى معاودة الجهاد فاستنفر الهمم لصد الغارات على قرطبة ومالقة ورندة وغرناطة. وترافق مع اعادة تنظيم ولايات الاندلس وتوزيع حوا ضرها. فعقد لواء اشبيلية لأبنه أبي اسحق، ولواء قرطبة لابنه أبي يحيى، ولواء غرناطة لأبنه أبي زيد، ولواء مرسية لأبنه أبي عبدالله. واستدعى ابن رشد الى مراكش وجعله طبيبه الخاص واستبقاه على وظيفته في قرطبة، وتعزز موقعه وبات الرجل الثاني في بلاط الدولة بعد ابن طفيل. بعد توزيع الألوية والمواقع وتثبيت مكانة ابن رشد اتجه الخليفة أبو يعقوب في سنة 579 هجرية على رأس حشود ضخمة الى ما وراء اشبيلية فوصل حصن غامق وحصلت مواجهة عنيفة انتصر فيها الموحدون وسقط الخليفة شهيداً "يقال من سهم أصابه في حومة القتال" ابن خلدون، صفحة 286. بمقتل الخليفة الثاني تولى ابنه يعقوب إمارة الموحدين في سنة 580 هجرية فأعاد تنظيم القوات وشن هجمات مضادة بمساعدة شقيقه امير قرطبة أبو يحيى وانزل بالفرنجة خسائر فادحة و"مضى الى مراكش فقطع المناكر وبسط العدل وباشر الاحكام" كما يذكر ابن خلدون صفحة 286. توفي ابن طفيل في السنة التالية 581 هجرية فارتفعت مكانة ابن رشد وبات الرجل الأول في بلاط الموحدين فانفرد بصلاته الخاصة مع الخليفة الثالث، الذي لقب بالمنصور، فكرّمه واعتنى به ووفر له سبل المعاش لاستكمال مهمته شرح أرسطو وتلخيصه واستبقاه على وظيفته كقاض ومستشار قانوني. الى إبقاء ابن رشد في مقامه وحظوته، بدأ المنصور يقدمه على كبار شيوخ دولة الموحدين. فقاضي قرطبة طبيب والده الخاص وأحد كبار المقربين من جده الخليفة الأول وهو أمر جعل من ابن رشد الرجل الأول في البلاط خصوصاً بعد رحيل الفيلسوف ابن طفيل. يعتبر الخليفة المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن من الشخصيات الغريبة الاطوار، اذ اتصف بخصال حميدة، فهو الى صلابته وعزمه على جهاد الافرنج كان مزاجه العقائدي كثير التقلب. ويصفه المؤرخ ابن الاثير الذي عاصر فترته بأنه حسن السيرة و"كان يتظاهر بمذهب الظاهرية، واعرض عن مذهب مالك، فعظم أمر الظاهرية في أيامه. وكان بالمغرب منهم خلق كثير يقال لهم الحزمية منسوبون الى ابن محمد بن حزم، رئيس الظاهرية، الا انهم مغمورون بالمالكية. ففي أيامه ظهروا وانتشروا، ثم في آخر أيامه استقضى الشافعية على بعض البلاد ومال اليهم" المجلد 12 صفحة 146. وكرر ابن كثير، الذي أرخ للفترة نفسها بعد قرنين، سيرته بشكل مشابه فهو كثير الجهاد و"يؤم الناس في الصلوات الخمس" وكان "قريباً الى المرأة والضعيف" وحسن السيرة وصحيح السريرة و"كان مالكي المذهب، ثم صار ظاهرياً حزمياً، ثم مال الى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة" المجلد 13، صفحة 25. وكان بسبب تقلّبه المذهبي بين المالكية والظاهرية والشافعية يطيح بأعوانه وشيوخه وقضاته ويستبدلهم ثم يعيدهم ثم يبعدهم الامر الذي زعزع قواعد الدولة واضعف مكانتها في عهود من خلفه. مع ذلك اتصف المنصور الى المزاج المتقلب والشك بأعوانه، بالامانة والورع وشدة البأس مع الخصوم وكثرة جهاده ضد الفرنجة. واهم سمة من سمات عهد المنصور انه عاصر فترة صلاح الدين في المشرق العربي وعايش أخبار الفتوحات الكبرى التي سجلها الايوبيون ضد ممالكة الافرنجة في سنة 583 هجرية. ففي تلك السنة قام صلاح الدين بمحاصرة الكرك والاغارة على عكا وفتح طبرية وهزم الفرنجة في معركة حطين، ثم عاد وفتح عكا ويافا وتبنين وصيدا وجبيل وبيروت، وحاصر صور وفتح عسقلان وما يحيط بها من حصون وقلاع، وتوجه الى القدس وفتحها وشدد الحصار على صور وصفد وفتح حصن هونين واعاد تطويق صور في وقت بدأت اوروبا تستعد لتوجيه الحملة الثالثة وهي الاعنف في تاريخ الحروب الصليبية. كانت نقطة ضعف صلاح الدين القوات البحرية وعجزه عن وقف الامدادات من البحر لتغذية بقايا مواقع الافرنج في مدينة صور التي شكلت ثغرة عسكرية في خطوطه الدفاعية وكادت ان تقلب التوازن الذي احدثه في معاركه الاولى. حاول صلاح الدين سدّ الثغرات العسكرية خصوصاً البحرية بتعزيز اسطوله فوجّه نداءات الى مختلف الامراء المسلمين غرباً وشرقاً لارسال الامدادات وحشد الطاقات لوقف الموجات المتدفقة من اوروبا. وحاول الناصر صلاح الدين تشكيل جبهة دفاعية تقوم على عقد من التحالفات الاسلامية وتستظل الخلافة العباسية في بغداد. وكانت الثغرة الاساسية القوات البحرية لذلك ركّز انتباهه على كسب امراء المغرب والاندلس، اصحاب الخبرة والباع الطويل في الحروب البحرية. كذلك حاول الاستفادة من اساطيلهم لقطع الطريق على امدادات اوروبا لبقايا الافرنج عن طريق البحر ونجاحهم في منع مدينة صور من السقوط ثم توسيع الثغرة نحو عكا وبدء تنظيم هجوم معاكس ضد قوات صلاح الدين التي باتت في موقع حرج عسكرياً في سنة 585 هجرية. وصلت استغاثات صلاح الدين الى الخليفة المنصور في ظرف غير مناسب فهو بدوره كان في حال صراع مع الفرنجة في الاندلس، وهو أمر رصده ابن الاثير في تاريخه ورصد تلك العلاقة بين اشتداد حروب الفرنجة في المشرق وزيادة الغارات على الحواضر المسلمة في الاندلس. فالتحالف الاوروبي آنذاك ادرك، كما ادرك صلاح الدين، نقاط ضعف جيوش المسلمين البحر كذلك التقط احتمال التعاون العسكري بين الطرفين فلجأ الى الهاء جيوش خليفة دولة الموحدين في الاندلس براً وبحراً حتى لا يرسل التعزيزات لتدعيم مواقع الناصر صلاح الدين في المشرق. استمر حصار عكا مدة سنتين تقريباً 585 و587 هجرية وصلت خلالها مساعدات كثيرة وساهم الاسطول المصري الايوبي في صدّ الكثير من الهجمات البحرية الا انه عجز عن تطوير الدفاع الى هجوم مضاد فقرر صلاح الدين ارسال مندوب من قبله للاتصال بالخليفة المنصور في مراكش طالباً منه ارسال تعزيزات بحرية لوقف الموجات الاوروبية وعزلها عن الساحل. يصف ابن خلدون توفي 808 هجرية تلك اللحظات في تاريخه ويذكر ان مبعوث صلاح الدين وصل سنة 585 هجرية وطلب اعانته لمنازلة عكا وصور وطرابلس و"وصل الى المغرب، ووجد المنصور بالاندلس فانتظره بفاس الى حين وصوله، فلقيه وادى اليه الرسالة فاعتذر له عن الاسطول وانصرف". ويردف صاحب "تاريخ العبر" خبره برواية يبدو انه يشك بصحتها تقول "ويقال انه جهّز له بعد ذلك ماية وثمانين اسطولاً" ومنع الفرنجة من سواحل الشام المجلد السادس، ص 291. اختلف المؤرخون على تحديد سبب واضح لتردد الخليفة المنصور في ارسال النجدة وتمحورت التأويلات على مسألة شخصية تقول ان المنصور انزعج من رسالة الناصر صلاح الدين لأنه لم يخاطبه بلقب "امير المؤمنين". يفترض ان العامل المذكور ليس اساسياً ويرجح ان يكون السبب الرئيسي تعرض قوات المنصور الى هجمات عنيفة لمنعه من ارسال التعزيزات الى المشرق وهذا ما تؤكده اخبار كتب التاريخ. ففي الوقت الذي كانت قوات الفرنجة تحاصر عكا وتستعد لاقتحامها كانت الحملات في الاندلس تزداد شراسة لقطع الاتصالات ومنع التواصل بين الجبهتين. وبلغ الخليفة المنصور ان الفرنجة تغلبت على قاعدة شُلُّب واوقعت بعساكر اشبيليه الكثير من الخسائر واحتلت العديد من حصونها فاستنفر "الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين الى قصر مصمودة … وخفّ الى حصن طُرَّش فافتتحه ورجع الى اشبيليه، ثم رجع الى منازلة شُلب سنة سبع وثمانين فافتتحه" ابن خلدون، ص 290. ففي الفترة التي كان الفرنجة يحاصرون عكا 585 - 587 هجرية كان الخليفة المنصور في صراع آخر مع الفرنجة في الاندلس. وهو أمر منعه من تلبية طلب صلاح الدين ثم عاد وراجع نفسه فارسل تعزيزات بحرية بعد فوات الاوان فسقطت عكا واضطر صلاح الدين الى توقيع معاهدة صلح مع ريكاردوس قلب الاسد. ولم يمض كثير وقت حتى توفي الناصر صلاح الدين في سنة 589 هجرية بينما كان خليفة الموحدين يستكمل استعداداته لمواجهات كبرى خارجية وداخلية، تمثلت في اضطراب علاقاته مع اخيه امير قرطبة ابو يحيى بعد ان كتب العهد لابنه الناصر بخلافته في العام 587 هجرية. كذلك اضطراب جبهته العسكرية على خطوط التماس مع الفرنجة وازدياد الضغوط على قواته بعد نشوء نوع من التحالف بين الامارات والممالك الافرنجية. حصلت في تلك الفترة الحساسة الكثير من التقلبات منها اضطراب علاقة الخليفة مع ابن رشد الذي كان ما يزال الرجل المقدم على غيره من شيوخ وقضاة الى شهرته كشارح لفلسفة ارسطو. وفي وقت كان المؤرخ ابن الاثير يوثق اخبار المرحلة ويلاحق رجال عصره لتدوين المعلومات من الاندلس الى الهند كان ابن رشد يغربل الترجمات العربية لكتابات ارسطو وافلاطون وغيرهما ويعيد تنظيمها في كتب ومحفوظات عديدة ويساجل في أمور قدم العالم وحدوثه والسبب والمسبّب والعلة والمعلول والصورة والمادة والوجود الاول والعدم وغيرها من القضايا الذهنية المجرّدة. فابن الاثير كان يعيش زمانه بينما كان ابن رشد يحلق خارج الزمان والمكان في فترة كانت قوات الفرنجة تدقّ ابواب قرطبة مسقط رأس اسرته وكان هو ما يزال يتولى فيها وظيفة القضاء تحت اشراف اميرها ابو يحيى شقيق الخليفة المنصور.