يقول الحاج مرزوق: العالم فسيح، هذا أمر ممكن. ولكن هل هو أخوي؟ هل بحثاً عن الحب يتغرّب المرء؟ مرّت لحظة بل لحظات والحاج مرزوق يقول: العالم فسيح من دون شك. نحن يكفينا ان نكون في ديارنا. قطعة الخبز التي آكلها في مكان آخر ستصير قطعة من الغمّ وشربة الماء التي اشربها ستكون جرعة من المرارة. أقول هذا لنفسي، ولكن ماذا يسعني ان أقول عنهم، أولئك الذين رحلوا، ما الذي سأجيز لنفسي ان تقوله؟ وضعهم، نحن لا نعرفه، لا نعرف عنه شيئاً، فهم لم يرسلوا أبداً أدنى خبر عن احوالهم وراحت المسافة تنحفر بيننا مثلها مثل هذا القبر الذي ترقد فيه الآن اختي. مثل هذا القبر. الا انهم ارسلوا الينا الشاب يمران، هذا صحيح، وأنا اشكرهم على ذلك. سوى انه في اليوم الاول من وصوله، أحدث لديّ وقع المنبعث حيّاً من بين الاموات. حتى اسمه، قبل ان يلفظه امامنا، كان غريباً علينا. وأكثر غرابة ايضاً، اشقاؤه وشقيقاته الذين خلفهم وراءه. لا شك في ان الاهل كانت لديهم اسبابهم كي يرحلوا. ولكن هم، الاولاد، هل سألهم أحد اذا ما كانت لديهم اسبابهم؟ الحاج مرزوق يقول: لا بدّ ان يمران طرح على نفسه السؤال، وإذ طرحه على نفسه، فإنه ما عاد يفكر إلا في العودة الينا. مبارك هذا الالهام الذي دفعه نحو بلده، وعتبتنا مباركة ان كان قد جازها كي يبقى طويلاً. قلبي يتلجلج من ذي قبل بالقلق ويستنفر خشية ان يستسلم هذا الولد لنزوة فانتازية تجعله يعقد سترته ثانية ثم يدير ظهره لنا. لا، لن يفعل هذا. والذي سقى شجرات التين التي تخصّه في ليالي الراعي، يضمن بالتأكيد ان يجد نفسه مع منشر ممتلئ. ليس بثمار التين امتلأ منشري، قبل أوانه، بل بولد يافع، يكاد يكون رجلاً. التينة، هذه الشجرة ذات الثمار التي تشبه اليشب، وقلب من جمر، التينة ذات الفروع الطرية المرصعة بدموع سكّرية تخبل الطيور، والويل إذا لم نقطفها في أوانها: محتشدة، ستأتي الخطاطيف وطيور اخرى تعدّ بالآلاف راغبة فيها، في المزيد منها. أيتها التينة التي حليبها اللاذع يشفينا من التآليل، أيتها التينة الموشحة بالضوء وبهذه الرائحة من البذار الذكوري عندما تصرفين نفسك في الحركات والاهتزازات، فيما الريح تعصف بالاوراق. يا شجرة الحبورات كلها، أيتها الشجرة - الشابة في صباك الابدي الذي يبهج النظر والروح، انت ضامنة الشموس كلها، الاسئلة كلها وأجوبتها، عندما تهبين بسخاء ثمارك، اننا نولد من أمّنا ومن مخيلتنا، ايتها الشجرة - الحارسة. لديك، من مخيلتنا، الشكل والقوة معاً أيتها الشجرة - الحارسة. يقول الحاج مرزوق ايضاً ويظل يقول: هل من جديد؟ لا نرى في هذه الاوقات غير هذا. نرى الكثير منه وأزيد. ولكن، هناك جديد وجديد، وفي بعض الحالات، يمكن لنا طوعاً ان لا نأبه بذلك، فليأخذني الشيطان، ومعي سكان قرية تادارت، ان كنت استطيع ان أقنع نفسي مثلاً بأن كلب السبع او السباع قد عاد من رحلته! الكلب الذي لم نكن نحسب بأننا سنراه ثانية، والذي ظهر ثانية، هو نفسه تماماً. انه عائد! كنت أنظر اليه ولا أصدق عيني، ولا أثق بما أرى. وباستثناء هاشمي صاحب الكلب، لم يكن الامر مختلفاً لدى الآخرين، لدينا كلنا. حصل ذلك منذ بضعة أيام، كان يمران قد وصل لتوه عندما خرج الحيوان كما من أعماق الارض. ولم يكن ذلك، على ما يبدو، كي يستعيد مرابعه لدى هاشمي، أو لكي يقوم بحركاته اللطيفة، بقدر ما كان اذعاناً لشيء فوق نفسه، فوق ارادته، لنوع من القوة: شيء يعصى على الفهم في كل الاحوال. ومهما ذهبنا بعيداً في مساءلتنا لحوليات قرية تادارت، فان شيئاً مثل هذا لم يحصل من قبل ابداً. سقوط السماء على رأسنا كان من شأنه ان يولّد فينا الانطباع ذاته. ذلك اننا عرفناه في صورة قطعية، كان هو نفسه، بالرغم من تبدل سيمائه ومن دون الوشاح الاحمر الذي كان يزيّن رقبته لحظة ذهابه. ماذا صنع به؟ لم يكن ذلك خسارة كبيرة، انها خرقة. وان يحترس من دخول القرية على هذا النحو، ومن تجاوز حدودها، ألم يكن الامر مثيراً للفضول؟ منتصباً، لا بمفرده مكتفياً بذاته، بل بصحبة انثى وثلاثة جراء، تحت السنديانة الكبيرة التي تلتصق، على اطراف تادارت، بكومة من الصخور، كان يترك لسانه يتدلى، ويُخرج دخاناً وسط البرد العائد هكذا كما لو انه من قبيل المصادفة، برد أزرق جهنمي. متسمّراً في مكانه، يثبت عليّ، علينا كلّنا، النظرة المبهمة للوحش الذي يرقد داخل كل حيوان - وأحياناً داخل الانسان، ولولا اختلاجات خاصراتها، لكان جائزاً القول بأنها حيوانات مسحوبة، ومقدودة كلها، من الحجر. وأعمتني الحقيقة. فعلى العكس من كلابنا، لم يكن لدى هذه الكلاب اي شيء انساني: لا الأب حالياً، مع انه كان من ديارنا، ولا عشيرته كذلك. حيوانات لا تتمتع بأي شيء انساني؟ ما هذا الهراء! كيف امكن لهذا الابتكار الغريب ان يتوالد في دماغي؟ كلاب تأخذ عن الانسان. ولماذا لا يكون الامر دائراً على بشر يأخذون عن الكلب؟ كان البرد يقتلع الدموع من عيوننا، والبلد الذي كان البرد يعتصره ويلفّه كانت عليه سيماء الهزال وبقينا، بقي الناس كلهم يتشوقون الى معرفة ما سيحصل. ويقول الحاج مرزوق: في النهاية، لم يحصل شيء، ان لم يكن ما سبّبه لي هذا الاستعراض من ضيق وانزعاج. يا لهذا اللامعنى! من المؤكد ان هاشمي كان صاحب الكلب. لكن الامر لم يعد كذلك الآن، لقد انتهى، في هذه الحالة، ما الجدوى من محادثته، من ترشيده: - وأنا احدثك عن الماضي، واذكرك كيف ربيتك، واطعمتك، وعن تفاصيل راح يتوسع في ذكرها، مسلّماً القيد لنفسه، وذلك من دون حياء، فقط كي يأتي كلب هجين ويأخذ مكانه ثانية عندكم - كان ذلك فعلاً قوياً بعض الشيء. وكان هاشمي يفعل ذلك قطعاً، مع ذلك لم يكن يقترب منه. الكلب، هو، وكما لو انه كان ينصت اليه، وهذا ما لم انجح في تصديقه بالطبع، كان يفتح فمه الذي يتدلى منه دائماً اللهب المتقد الذي كان يستخدمه بوصفه لساناً ... لم يكن يخفى على احد ان الحيوان ما كان يرفض وما كان يقبل التعرّف ثانية عليه على صاحبه. كان يجهله. غير ان هاشمي بقي يصرّ على اخراج معزوفاته، على قرع رأسه بالقول بأنه كان سعيداً بعودته وبأنه لو يتبعه الى البيت، هو وحاشيته معاً، فإنه سيكون سعيداً أكثر. كان يصرف جهده سدى. كان يضيع وقته. فالحيوان، وكان هذا جلياً، لم يكن يفهم لغتنا بعد. ولم تكن نظرته تعكس سوى الفراغ، واللامبالاة، ولم يعد فيها أية علامة على هذا التعبير الانساني الذي نجده بالمناسبة في عيون امثالنا. اما باقي المجموعة، فلا حاجة للحديث عنها: رأس مرفوع، ولسان يطفو، وتُظهر هدوءاً مشبوهاً، عجرفة اقرب الى العداوة منها الى الثقة، عجرفة التوحّش. ويقول: أفكار غريبة تحوم حولي منذ ذلك اليوم. أحاول دفعها، التخلّص منها. ولكنها، مثل ذباب الخريف، بقدر ما اندفع الى طردها، بقدر ما تروح تهاجمني وتضايقني. وعندما احسب انني تخلّصت منها، اذ بها تبدأ ثانية: "يا مرزوق، وليكن الكلام بيننا، هذه البندقية العائدة الى زمن قديم، هذه البندقية التي بواسطتها خضت حرب الاستقلال، قد لا يكون امراً سيئاً ان تفكّر في اخراجها من مخبئها، ان تخرجها ثانية، ان تتحقق منها. اذا ما كانت صالحة بعد. من يدري؟ ثمة شيء لا يعجبك آخذ في الحصول، وهذا الشيء... من الافضل له ان يبقى حيث هو، ان لا يحصل...". هل جنون هاشمي هو الذي، بعد ان القى صبغته عليّ، يجعلني اتكلّم على هذا النحو؟ عن الفرنسية: حسن الشامي