يفصل بين عبدالرحمن بن خلدون، المتوفى في 1406 عن 74 سنة، والفيلسوف جيامباتيستا فيكو من نابولي المتوفى في 1744، البحر الأبيض المتوسط وثلاثمئة سنة من الزمن. لكن المفكرين يعرضان تشابهاً مذهلاً في منظورهما للتاريخ، المنظور الذي لا يزال يعني لنا كثيراً اليوم. لم ينشر كتاب فيكو "العلم الجديد" الا بعد سنة من موته، وبقي مغموراً الى اواخر القرن الثامن عشر عندما اكتشفه المؤرخ الفرنسي جول ميشيليه وترجمه الى الفرنسية. منذ ذلك الحين يدين عدد كبير من الشخصيات الرئيسية في الفكر الأوروبيين، من بينهم هيغل وماركس ونيتشه وكروتشه وفرويد وجيمس جويس وصموئيل بيكيت، بهذا الحد او ذاك، الى نظرة فيكو العميقة، التي ترى ان البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم، وبالتالي فهو تاريخ يمكن للبشر ادراكه علميا وحسب قوانين السياق والتطور والفهم. من هنا فمن الخطأ، كما قال فيكو، الحكم على عالم هومير البدائي من منظور عالم ارسطو العقلاني الأرقى. ذلك ان النوع البشري يبدأ من مرحلة الهمجية ليتقدم نحو الحياة الاجتماعية كما تمثلها العائلة ثم يتوصل الى اللحمة الاجتماعية، ما اسماه ابن خلدون، الذي يعدد المراحل نفسها، "العصبية". النقطة الجوهرية للرجلين هي ان عالم البشر مختلف عن عالم الطبيعة من جهة، وعن المجال الروحاني من الجهة الثانية، بل هو عالم التاريخ، اي ذلك الحيز الدنيوي الذي يمكن فهمه عقلانياً كنتيجة للتحولات والاستدامات والهزات التي تحكمها قوانين وافعال انسانية قابلة للإدراك. الفهم التاريخي هو استيعاب ما يعمله البشر وما لا يمكنهم عمله. في مقطع شهير يسخر ابن خلدون من المسعودي وفكرته المغرقة في الخيال في ان اسكندر المقدوني نزل الى البحر المتوسط لإخافة وحوش بحرية خرافية بما يمكنه من بناء مدينة الاسكندرية. بكلمة اخرى، على التدوين التاريخي أن يتوخى المعقولية، وان يضع الاحداث في سياقها ويخلو من المبالغة والانحياز، وان يركز على ما فعله البشر الخ... واذا كان هذا الطرح المختصر يجعل من السهل القبول بآراء هذين المفكرين العظيمين، فالواقع هو اننا لا نزال نواجه نتائج نظرتهما العميقة هذه، خصوصاً في العالم العربي - لكن أيضاً في مناطق اخرى. ان افكار "المؤامرة" و"التدخل الالهي" وشخصيات الأبطال تعيق قدرتنا على ان نفهم ان التاريخ يأتي من الجهد البشري، وليس من السحر او القوى الغامضة التي تعمل سراً. واذا كان هذا يبدو أمراً لا يقبل النقاش فلا يمكن وصف بعض التفاسير المتداولة اليوم عن قضايا مثل السلوك الاسرائيلي والأميركي إلا بأنها أبعد ما تكون عن العقلانية والعلمية والقابلية على التصديق. تتحكم بالولاياتالمتحدة في تعاملها مع العالم العربي ضغوط ومصالح معينة، وليس مجرد مؤامرة صهيونية، أو التجاهل اللا أخلاقي لحقوق الفلسطينيين، على رغم ان هذا أيضاً ما نجد امامنا بالفعل. وكما قلت مراراً في السابق في هذه المقالات فإن ترك القادة العرب انفسهم لرحمة الولاياتالمتحدة، بسبب قوتها ولغة الاخلاق التي تتشدق بها، مسلك أبعد ما يكون عن العقلانية. انه في رأيي مثال على الفكر السحري، أي افتراض ان زعيماً في مكان ما سيقلب منطق المصالح والضغوط ويقفز من السياق التاريخي ليحتضن العرب. وتؤرخ دراسة اخيرة من عالم سياسي عربي مرموق هذا التاريخ المؤسف من الانحياز الأميركي، والمبالغ الهائلة من المال والسلاح التي حصلت عليها اسرائيل الخ... ويقول ان أوسلو جاءت نتيجة ميزان القوى، وكأن ميزان القوى واقع ثابت لا يقبل الرد، مثلما هذه الشجرة او ذاك الجبل حين نتكلم عن الطبيعة. ولا نجد في اي مكان تفسيراً لجملة من الأوضاع، بالدرجة الأولى كيف صاغت اسرائيل تلك الصورة لنفسها التي مكّنتها من الحصول على مساعدة الولاياتالمتحدة. كما لا نجد اي جهد لاكتشاف ما يمكن عمله حالياً ازاء هذا الوضع. عندما يطرح "ميزان القوى" بهذا الشكل فهو يأتي من دون بعد تاريخي: اي انه نوع من التفكير التسحيري الذي يجعلنا نميل الى ان نأخذ الأمور وكأنها تحصيل حاصل وليس هناك ما يمكن عمله من اجل التغيير. العنصر المفقود هنا هو دور الارادة في السيطرة على شؤون الانسان، وهو ما فهمه جيداً ابن خلدون وفيكو. تعمل الارادة في الشكلين الهجومي والدفاعي. ويبين الباحث زيف ستيرنهيل في الكتاب الذي اصدره اخيرا بالانكليزية "الأساطير المؤسسة لاسرائيل: القومية، الاشتراكية، وتكوين الدولة اليهودية" ان الفكرة الجوهرية للصهيونية هي الاحتلال. وهو ما يتضح من خطاب بن غوريون. كما يتضح من لغة بيرل كاتسنيلسون، من المنظرين الرئيسيين للصهيونية العمالية، الذي قال بصراحة في 1929 أن "المشروع الصهيوني هو مشروع احتلال". وأضاف: "ليس من قبيل المصادفة ان استعمل تعبيراً عسكرياً عندما اتحدث عن الاستيطان". لتحقيق هذا الهدف سعت الحركة الصهيونية دوماً الى القوة ورسختها واستعملتها، وهو ما حصل بالفعل في فلسطين قبل 1948، ثم بعد اقامة الدولة عندما تبين أن اسرائيل بحاجة الى مساعدة دائمة من الخارج، خصوصاً من الولاياتالمتحدة. علينا التركيز على ان ارادة القوة والسيطرة هذه عمل بنائي واعٍ ومنظم قام به رجال ونساء نذروا انفسهم للحفاظ على الارض التي احتلوا. أي أن القضية أبعد ما تكون عن الحظ او الصدفة او المؤامرة بل كانت - ولا تزال - تطرح على انها الهدف من جاننب كل زعيم اسرائيلي، من اليمين او اليسار. ومن هذا المنظور فإن بنيامين نتانياهو ليس سوى نسخة فجة لا تختلف في جوهرها عن بن غوريون أو رابين. لم يكن الجهل بميزان القوى من بين نواقص المفاوضين الفلسطينيين في اوسلو، بل الجهل بتفاصيل احتلال اسرائيل العسكري للضفة الغربية وغزة والجولان والقدس. ولو عرفوا تلك التفاصيل لرأوا بوضوح ان هدف اوسلو كان الحصول على قبول الفلسطينيين بإدامة تلك الأوضاع وادخالها الى قلب الاتفاق الرسمي للسلام بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ان كل ما نعرفه عن الذي حصل في اوسلو يشير الى ان القيادة الفلسطينية اعتقدت انها كانت ستحصل على دولة، فيما كان الاسرائيليون يخططون للعكس تماماً. وفي ظل هذه الظروف لعبت الارادة والجهد الواعي والاستعداد والتنسيق دورها المتوقع، فيما ادى غياب كل هذا من الطرف الآخر الى الوضع الذي نراه الآن، إذ لم تتنازل اسرائيل سوى عن ثلاثة في المئة من أراضي الضفة الغربية من دون سيادة فلسطينية عليها وتعلن انها ستضم معظم ما بقي. النقطة هنا هي ان اسرائيل والولاياتالمتحدة خططتا في شكل واعٍ لاستعمال القوة والارادة لإدامة الظلم على الفلسطينيين. والسؤال هنا هو: اذا كان الوضع من صنع البشر وليس مفروضا من السماء او من الطبيعة، هل من سبيل للتعامل معه في شكل لا يؤدي الى استمرار الظلم؟ اعتقد ان الجواب هو نعم، لكن بوسائل واعية عقلانية، اي ترفض الاكتفاء بانتظار معجزة أو قائد عظيم أو تدخل غير متوقع، وهي كلها مستبعدة تماماً عن عالم الأمم، العالم الدنيوي، كما درسه ابن خلدون وفيكو، الذي يحكمه الجهد الانساني القابل للتحليل والفهم العقلاني والتاريخي. وكان الناقد الثقافي البريطاني المرموق ريموند وليامز قال مرة ان ليس هناك من نظام اجتماعي، مهما كان كابحاً، يستطيع اخماد كل البدائل الاجتماعية التي يمكن ان تناقضه او تقاومه. الشيء نفسه يصح على الولاياتالمتحدة. ذلك ان هناك، على رغم قوة اللوبي الاسرائيلي وتوافقه مع الاهداف الاستراتيجية الأميركية كما ترسمها دوائر الاقتصاد والدفاع، قطاعاً مهماً من السكان يشعر بالحيرة والغضب من تمكن اسرائيل من ارتكاب كل هذه الانتهاكات للسياسة الأميركية المعلنة في مجالات حقوق الانسان وانتشار اسلحة الدمار الشامل والضم غير القانوني للاراضي الخ... علينا ان نسأل انفسنا لماذا لم يخاطب العرب والفلسطينيون هذا القطاع في شكل منظم. لماذا آمن قادتنا دوماً، وأيضاً مثقفونا المشهورون وعلماؤنا السياسيون، بتوجيه الاهتمام الى "صانعي السياسة" و"كبار المسؤولين" واهمال الباقين؟ انهم لم يعيشوا في الغرب أو في بلد ديموقراطي لكي يفهموا طريقة التوصل الى صوت مسموع في مجال السياسة، أي اسلوب نشر الافكار، والتفاعل بين الأفكار والمصالح، وبين المؤسسات والقيم. وكما قلت في مقالة سابقة فإن الصهاينة أدركوا ما للرأي واذاعته من أهمية في عالم اليوم، وحاولوا التأثير على العدد الأكبر من السكان في الغرب عن طريق اغراق وسائل النشر والاعلام بصورة اسرائيل كدولة ديموقراطية رائدة، اقيمت على أرض مهملة خالية من السكان، يحيطها العرب الذين لا يعرفون سوى العنف ويريدون القاء اليهود في البحر. ولا يعرف تسعون في المئة من الناخبين في الغرب ان هناك في اسرائيل قانون العودة الذي يقتصر على اليهود من دون سواهم، وان اسرائيل اقيمت على حطام المجتمع الفلسطيني، وان الانتفاع بمؤسسات الدولة يقتصر على اليهود ويأتي على حساب السكان الأصليين، خصوصاً لجهة ملكية الأرض. نعم، للحفاظ على أرضنا أهمية حاسمة، لكن ما لا يقل عن ذلك أهمية الحاجة الى التحدي الأخلاقي للاحتلال العسكري المستمر منذ نحو 32 سنة، الذي يعارضه الكثير من الاسرائيليين وأنصار اسرائيل في الغرب. هذه كانت المهمة التي قام بها اعداء نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا عندما شنّوا حملاتهم المتواصلة في الجامعات والكنائس ولدى الشركات الكبرى وفي وسائل الاعلام، واصبح التمييز العنصري في جنوب أفريقيا نتيجة ذلك قضية اخلاقية مطروحة على الرأي العام. اما نحن فلم نحاول ابداً تنظيم حملات مشابهة على الصعيد الشعبي. ويعود ذلك في جزء منه الى اننا لم ندرك بعد أهمية عمل كهذا، وايضاً الى ان الكثيرين منا لا يزالون يرفضون رؤية العلاقة بين القوة والارادة والظلم، ويرفضون تبعاً لذلك ان يروا الوجه الآخر للمعادلة، وهي امكان استعمال القوة والارادة لمصلحة العدالة. ليس هناك شيء غير هذا على الأفق - الأفق الذي يبدو اكثر اظلاماً من أي مرحلة سابقة من تاريخنا. ان قوانا تضعف، ويتركنا الآخرون خلفهم لنغرق شيئا فشيئاً في النسيان. وها هي اصواتنا تخفت تدريجاً، لتنضم الى الصمت المحبط الذي تلزمه الاقوام الأصلية الأخرى المقهورة. لكن قراءة صحيحة للتاريخ ترينا ان ميزان القوى مهما مال لمصلحة الخصم، فقد يمكن للأضعف الانتصار على الأقوى بسبب العنصر الانساني في المعادلة، أي ارادة المقاومة وايجاد سبل جديدة ذكية لمحاربة الظلم، والتفاني في بذل الجهد والتمسك بالأمل. ولنا أن نجد السند في أننا، رغم سنين القمع والاستلاب، نستمر في وجودنا كشعب وأن صوتنا لا يزال مسموعاً، وهو ما يجب ان يشجعنا على مواصلة الطريق بروح انتقادية واعية وخلاقة. فوق كل ذلك علينا أن نحرص دوماً على قراءة التاريخ باعتبار انه سجل لما فعله البشر وما لم يفعلوه. الفشل، مثل النجاح، هو ما يصنعه الانسان، وليس شيئا تلقائيا: الفشل هو ما يركّبه الانسان لنفسه، ما يعمل عليه الى ان يصبح عادة والتزاماً. انه ليس شيئاً في "الجينات" أو "مصيراً محتوماً". بالمقابل يمكننا ان نلتزم تغيير اوضاعنا، ليس بقوة السلاح، لأنها لا تتوفر لنا ولن تتوفر بالقدر الكافي على المستقبل المنظور، بل بحركة شعبية يقوم بها اناس عقدوا العزم على الكفاح سياسياً وأخلاقياً، بوسائل لا تشمل العنف، لمنع تعرضنا للمزيد من التهميش والضياع . هناك مئات الألوف من الفلسطينيين في كل مكان مستعدون مبدئياً لرفع مطالبهم الى كل من يسمع ويهمه ان يفهم. ان فلسطين، لأهميتها التاريخية والدينية والثقافية، رمز مفتوح دوماً على امكان التنوع والتعددية والتوازن الخلاق. لكن توقع نهوض الصهيوينة لتلبية هذا التحدي الذي تطرحه فلسطين أخلاقياً وسياسياً ينطوي على مثالية مغرقة، وربما حتى السذاجة والبله. مع ذلك، أستمر في اقتناعي بأن في امكاننا الانتصار اذا أوضحنا كفلسطينيين استعدادنا، مع يهود اسرائيل والشعب العربي في المناطق المحيطة، لصنع تاريخ من نوع جديد يقوم على سياسات التكامل والقبول بالجميع. انه بلا شك عمل بطيء وصعب، لكنه ممكن وواعد. ان الاقتناع بأقل منه يشكل خطأ بشعاً نرى نتائجه واضحة حولنا.