من وجهة النظر الضيقة، تبدو محاكمة غارودي شأناً فرنسياً خالصاً. انه فرنسي يحاكم في فرنسا طبقاً للقانون الفرنسي. وفي افتراض اكثر تسامحاً، قد تكون المسألة امراً اوروبياً، باعتبار ان بعض أهم حيثيات القضية، كواقعة المحرقة اليهودية تصديقاً او تشكيكاً، تتعلق بأطراف أوروبية. مثل هذا الفهم يثير تساؤلات مشروعة ومفهومة للوهلة الاولى عن دواعي الانشغال العربي - وغير العربي في الحقيقة - بمسار المحاكمة ونتائجها. ولا يقلل من شرعية هذه التساؤلات، ان يكون غارودي ممن نذروا شطراً من حياتهم الفكرية المديدة لتوضيح الحقوق العربية في مجرى الصراع الصهيوني - العربي. فالأصل ان هناك كثيرين غير الرجل، انبروا قبله وبعده، للمهمة ذاتها، من دون ان تحفهم العناية العربية المتعددة المظاهر، التي لاقاها. كما انه من غير الشائع تشكيل لجان عربية مختلفة الوظائف، مالياً او فكرياً او سياسياً، لمساندة كل من تقوده خطواته للاقتراب من الموقف العربي في عوالم الآخرين في الجهات الأربع. طبعاً، سوف يكون مبعث ثقة لمساندي هذا الموقف ان يصبح الائتلاف حول غارودي عن قرب أو عن بعد سابقة تتلوها لواحق، لكن التعاطف مع القضايا العربية، يفترض انه قائم على اتساق مبدئي من اصحابه مع مُثل العدل والحق والإنصاف والاخلاق قبل اي اعتبار آخر، بما في ذلك الانحياز للعرب عن سابق إصرار. ونحسب ان هذه الملاحظة واردة تماماً في حال غارودي. نود القول بوجود وجهة نظر اكثر رحابة يمكن عبرها تفهم الاحتفاء العربي بقضية غارودي، فالقضية على فرنسيتها واوروبيتها، لها أبعاد أخرى تطاول فلسفة التعامل الحضاري الغربي مع قضايا الفكر والبحث العلمي. ويمكن الزعم بأن حيثيات هذه القضية، نكأت التناظر القديم المتجدد حول صحة او خطأ الغلو في تعميم احتضان هذه الفلسفة في غير موطنها، بين يدي ثقافات غير الثقافة الليبرالية الغربية بمنتجاتها القانونية والفكرية. بهذا المفهوم، فإنه حتى لو لم يكن غارودي مناصراً للقضية العربية او كانت محاكمته على غير صلة قوية بالمسألة الصهيونية وشواغلها، لحقّ الاهتمام العربي بهكذا محاكمة. ان اختبار حدود التعاطي الفرنسي - والغربي بالتداعي - مع قضايا الاجتهاد العلمي والبحثي، الذي تتيحه هذه المحاكمة، تثير الشهية لدى انصار المنظور الحضاري الغربي للحريات وخصومه والواقفين منه بين بين على حد سواء. تقول حيثيات قضية غارودي، إن هناك صندوقاً أسود لا يجب الاقتراب منه، يحوي ملف قضية - هي المحرقة اليهودية بزعمهم في هذا الاطار - صدرت في شأنها الكلمة النهائية وقيلت بلا معقّب. ويعني ذلك، في التحليل الاخير، وجود خطوط حُمر لحرية البحث، وان اضطلع به عَلمٌ من أعلام الفلسفة والفكر، فما بالنا بمن هم دونه قدراً وعلماً؟ وما دام الامر كذلك عند دعاة التنوير والاجتهاد بلا آفاق في معقلهم الاول في الغرب الحضاري، فمن اين جاءت جرأة محافلهم ومنتدياتهم كلها تقريباً، على الادعاء بغير هذه الخطوط بالنسبة للآخرين؟ تحدث غارودي واجتهد في مسألة، كان هو ذاته احد شهود عصرها، منذ خمسين عاماً ونيف فقط. وهو مارس في اجتهاده احد أبرز مناهج البحث، فرنسية المنبع، منهج الشك والتأمل واستخدام القرائن والارقام. وانتهى الى محصلة، يستطيع الآخرون دحضها او التأمين عليها بالادوات البحثية نفسها. ومع ذلك، أخرج المدعون عليه بالحق التاريخي أو البحثي أو القانوني - لا ندري ايها نستخدم، قانوناً ثبتت جهوزيته منذ عقود. وهذا يثير السؤال: ماذا لو أفضى جهد الرجل الى تأكيد الشائع فرنسياً اوروبياً، غربياً عن الواقعة موضع البحث؟ المتصور انه لو حدث غير ما توصل اليه غارودي عكسه بخاصة لما قامت قيامة المدعين عليه. فكأن المقصود بالحظر، ليس البحث في ما "قيلت فيه الكلمة الاخيرة"، وانما الإتيان بما يخالف الثابت جدلاً حول القضية موضوع البحث بالتحديد. وهذا عين الشطط في خصومة البحث العلمي. وقد لا يوازيه سوى الذي حدث عندما رأى البعض ان الارض كروية على خلاف المستقر منذ بضعة قرون. فتحت هذه المحاكمة، على كل حال، وبغض النظر عن مآلها الاخير، هناك باب ستلج منه دعاوى العاطفين على ضرورة وجود محظورات في قضايا البحث والاجتهاد في رحاب ثقافات كثيرة، ومنها الثقافة العربية. الامر الذي سنعلم نبأه بعد حين قريب او بعيد. ولعله يحمد لغارودي افتتاحه واقتحامه لقضية "كاشفة"، فليس الرجل بالساذج الذي اخذ على غرة من رد الفعل القائم حوله وحول مقولاته. وهو ابلغ كل من يعنيه الامر عن وجود اكثر من مكيال غربي..! حتى في ما يتصل بقضايا الفكر والبحث وحرية الرأي. واغلب الظن أن المتربصين بهذه القضايا بمحمولاتها الغربية، سوف يلتقطون طرف الخيط. ذلك ان لهم بدورهم مكاييلهم، طالما ان لحراس قلاع التنوير وحرية الرأي ما يقولونه ويقدرونه من مكاييل. وفي المناسبة، فإنه في ما يخص قضية المحرقة، بصفتها موضوع المحاكمة، يبدو ان على خصوم غارودي ومَنْ والاهُم، الاختيار بين التعامل من منطلق واحد من خيارين: فإما ان الملف مغلق بكامله، بحيث يشمل ذلك التوقف عن المتاجرة به فكرياً وسياسياً... إلخ. وإما انه ملف مفتوح - كما هو قائم منذ اكثر من خمسين عاماً - وهنا يكون من السخف حظر التدقيق في حيثياته، ويكون من الاكثر سخافة التربص بمن لديه كفاءة الاضطلاع بمهمة إعادة النظر في محتوياته.