يمكن فهم الاحتجاجات العربية والاسلامية الواسعة النطاق على محاكمة روجيه غارودي في بلاده، بالمواقف التي يقفها هذا المفكر في مناصرته للحقوق العربية، ومناوأته للحركة الصهيونية والسياسات الاسرائيلية. ومن هذا الباب، فان الوقوف مع الرجل في محنته هي من باب رد الجميل والاعتراف بالفضل والتواصل مع المفكرين الغربيين المتفهمين ل "القضية" العربية ومنها الفلسطينية. ولا شك ان فحوى هذه الرسالة، قد وصل الى من يعنيهم الأمر في فرنسا. اذ من الطبيعي ان تقف هيئات وشخصيات عربية موقف التعاطف والاسناد مع من نذر قلمه وجهده لنصرة العدالة، وكشف زيف الدعاوى الصهيونية في تحميل العرب وزر الخطايا النازية. غير ان حملة التعاطف هذه، لا تلحظ ان المحاكمة تجري وفق قوانين فرنسية ولمواطن فرنسي، ومدارها اتهامات لا تتعلق بمواقف سياسية أو فكرية بخصوص الصراع العربي - الاسرائيلي، بل تتصل باجتهادات حول المحرقة اليهودية. ولئن كانت المحاكمة أمراً غير قابل للتسويغ بالنظر لما عرفت به بلاد فولتير ومونتسكيو من تعظيم لحرية الفكر والتعبير ولندرة مثول المفكرين امام المحاكم، غير ان هذا التحفظ المبدئي الذي يصدر عن احترام أكيد للمثال الفرنسي، لا يلغي ما يتمتع به القضاء الفرنسي من استقلال. وعليه فان الوقوف مع أفكار الرجل ومواقفه وحقه الذي لا ينازع في اعتناق ما يؤمن به، ينبغي ان لا يذهب الى حد التشكيك والقاء الظلال أو الطعن في نزاهة هذا القضاء الذي لا يتردد في محاكمة كبار المسؤولين والمتنفذين. والمقصود بالملاحظة انه من الواجب ابقاء مسافة بين مناصرة الرجل وتأييده والاعجاب به، وبين الموقف من القضاء الفرنسي الذي يحاكم مواطناً فرنسياً على اتهامات مجالها الأرض الفرنسية، خاصة وانه يُحاكم ضمن قوانين بلاده المتعلقة بالموقف من المحرقة النازية، وهي مسألة داخلية وليست ذات صلة مباشرة وحتمية بجوانب الصراع العربي - الاسرائيلي، خاصة الراهن منها، وبدليل ان الدولة الفرنسية هي من أكثر الدول الاوروبية قرباً من المواقف العربية، كما ان القضاء الفرنسي لا يحاكم اشخاصاً أو هيئات تتبنى مواقف سياسية مؤيدة الجانب العربي. واذا كان البعض يرى ان هناك رابطاً بين الموقف من المحرقة أو التوظيف السياسي الحالي لها، وبين واقع وظروف الصراع الذي ما زال دائراً في منطقتنا، فان هذا الرابط وبافتراض وجوده وبالكيفية الميكانيكية والتآمرية التي يتصورها البعض، يستلزم عدم اتخاذ مواقف تنبئ بالتشكيك بالمحرقة أو الاستهانة بها. علماً بأن المسألة هي في الاساس أوروبية، وليس من الحكمة أو المصلحة أو سداد النظر ان تزج اطراف عربية نفسها في محاكمة المحرقة واعادة تقييمها والنظر اليها. فأياً كان حجم المحرقة فان مرتكبيها هم من يتحملون المسؤولية عنها، وهي مدانة لكونها محرقة استهدفت بشراً بعينهم، وسوف تكون مدانة بالطبع لو كان الضحايا من غير اليهود، تماماً كما هي مدانة لأن المستهدفين كانوا من اليهود. والقضاء الفرنسي والمجال الفكري في ذلك البلد هما القمينان بمعالجة ومحاكمة المواقف منها ومن موقف غارودي، وليست الاطراف العربية غير ذات العلاقة والصلة بهذه المسألة، الا من زاوية الاحكام والمرتكزات الانسانية الكونية والعامة التي تناوئ أساليب الابادة العنصرية حيث وقعت. وغاية القول انه اذا كان في وعينا وتجربتنا ان هناك رابطاً لازماً بين النظر الى المحرقة، وبين الأساطير الصهيونية، فان هذا الرابط غير قائم على الأقل بالصورة ذاتها في الوعي الاوروبي ومنه الفرنسي، بدليل ان المسألة اليهودية ناشئة وقائمة قبل قيام دولة اسرائيل وقبل ان تضع الحرب الكونية الثانية أوزارها. والخشية ان يؤدي الاندفاع لاحراز مكاسب معنوية اعلامية، عبر المناصرة الكلية لغارودي، ودون وضع الاحترازات اللازمة، الى التسبب بالحاق خسائر لا تقل في حجمها وآثارها عن المكاسب المتوقعة. وذلك لا يفيد غارودي، ولا "القضية العربية" التي تشمل دائرة واسعة من المؤيدين ولا تضم غارودي وحده، وان كان صوته هو الاوضح، ونبرته هي الاعلى.