سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حسن خريشة ، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني، يقوم مسيرته خلال عامين : ندافع عن الديموقراطية في مواجهة السلطة والأمن والفساد ولو كان في مستطاع عرفات حل المجلس لفعل!
مطلع 1996 انتخب فلسطينيو مناطق الحكم الذاتي أول برلمان في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث. وخلال عامين غدا "المجلس التشريعي" بمثابة عنوان سياسي مهم للشعب الفلسطيني والمؤسسة الأهم في مواجهة السلطة، خصوصاً في ما يتعلق بالدفاع عن حقوق الانسان والديموقراطية ومكافحة الفساد واحتمالات حدوث فراغ في القيادة. الحديث التالي مع الدكتور حسن خريشة، مقرر لجنة الرقابة العامة والحريات وحقوق الانسان وعضو اللجنة السياسية وعضو لجنة التحقيق في الفساد، يقوّم عمل المجلس خلال العامين الماضيين، ويعرض لتجربته الديموقراطية والسياسية. يذكر ان خريشة خاض الانتخابات مستقلاً عن أي حزب، وهو أحد عدد قليل من النواب المستقلين داخل المجلس. مر حوالى عامين على تأسيس "المجلس التشريعي" الفلسطيني بالانتخاب الحر في مناطق الحكم الذاتي، ما هي انجازاته؟ وما تقويمك لتجربته؟ - أولاً، يجب ان نلاحظ ان وجود المجلس في حد ذاته يعد انجازاً مهماً على الصعيد الفلسطيني، لأنه للمرة الأولى توجد لدينا مؤسسة منتخبة تمثل الارادة الشعبية، حتى ولو كانت الجماهير التي انتخبته ليست سوى جزء من اجمالي الشعب الفلسطيني. اما بالنسبة الى انجازات المجلس وتجربته، فقد حاولنا خلق "مؤسسة" داخل المجلس التشريعي وذلك من خلال سن تشريعات فلسطينية متناسبة وملائمة لواقعنا الحالي، لأن التشريعات التي كانت تطبق حتى انتخاب المجلس، خليط من تشريعات قديمة عثمانية وانكليزية وأردنية ومصرية. وقد نجحنا في وضع قوانين جديدة منسجمة مع نظرتنا كفلسطينيين الى الأمور. ما هي أهم هذه القوانين؟ وما مشكلة "القانون الأساسي"؟ - أقر المجلس القانون الأساسي الذي يعد بمثابة الدستور الفلسطيني، وأقر قانون انتخاب الحكم المحلي، وقانون سلطة النقد، وسيقر قريباً قانون الأحزاب، وقانون السجون، وغيرها… اما بالنسبة الى القانون الأساسي، فقد كان المجلس أقره بعد القراءة الثالثة، وأحاله الى الرئيس للمصادقة عليه، الا انه رفض التوقيع عليه آخذاً بوجهة النظر القائلة ان الدستور يجب ان يوضع ويقر من جانب منظمة التحرير لا المجلس التشريعي لئلا يكون بمثابة التفاف حولها. وهناك وجهة نظر اخرى ترى ان الدستور بديل من الميثاق الوطني، وأخرى ترى عكس ذلك… وفي كل حال، هناك بند في القانون نفسه ينص على ان القانون يصبح نافذاً حتى لو لم يوقع عليه الرئيس في مهلة شهر واحد من تاريخ رفعه اليه. وعلى هذا فنحن نرى ان القانون الأساسي أو الدستور أصبح نافذاً من دون توقيع الرئيس عرفات. هل هناك انجازات أو ايجابيات اخرى للمجلس؟ - نعم، هناك انجازات وايجابيات سياسية كثيرة، فللمرة الأولى صار لشعبنا عنوان سياسي عندما تسد الأبواب في وجهه. ولعلمكم نحن نتلقى شكاوى من المواطنين بكثرة ونحيلها للتحقيق فيها مهما تكن اختصاصاتها وموضوعاتها. وهكذا فالمجلس ينقل نبض الشارع بشكل سليم وأمين. وقد قطعنا شوطاً كبيراً في تكريس الديموقراطية ونسير - كمجلس - في طريق صحيح لبناء دولة فيها قانون ومؤسسات… والمواطنون يحترمون المجلس ويثقون بتوجهاته، ويدركون في الوقت نفسه ان الأخطاء والثغرات موجودة في السلطة التنفيذية لا في المجلس، وهم أيضاً يعذروننا لأنهم يتحسسون مدى عدم تجاوب السلطة مع توصيات المجلس وقراراته. اذن، هناك هوة تفصل بين المجلس والسلطة، أو بين المؤسستين والشعب… الى أي حد؟ - هذه الهوة كبيرة الى حد ان المجلس أصدر 130 توصية أو قراراً لم ينفذ منها شيء بسبب عدم تعاون السلطة التنفيذية وعدم احترامها دور المجلس وصلاحياته. فالسلطة تترك النواب يقولون ما يريدون، وهي تفعل ما تريد… وهي لا تسمح للمجلس بفرض دوره وتأثيره بل تحاول الحد منها، بما في ذلك منعها وسائل الاعلام من نقل أي شيء عن نشاطاته ولعلكم تذكرون ما حدث للصحافي داود كتاب لأنه تجرأ ونقل نشاط المجلس. اذن، ثمة "صراع" بين المجلس والسلطة عموماً، أو بينه وبين الرئيس خصوصاً. فهل تعتقد ان الرئيس يمكن ان يحل المجلس؟ - كما قلت نحن قطعنا شوطاً مهماً على طريق الديموقراطية، والرئيس نفسه لا يحق له حل المجلس ولو كان يستطيع لفعل ذلك في اعتقادي. ما هي صلاحية المجلس بالنسبة الى المفاوضات مع اسرائيل، حول الانسحابات وقضايا عملية السلام؟ ولماذا لا تفرضون آراءكم على اداء السلطة التفاوضي؟ - للأسف، ليست للمجلس التشريعي صلاحية للتدخل في أمور المفاوضات وشؤونها لا من قريب ولا من بعيد، لأن المجلس نفسه انتخب ووجد نتيجة لاتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير واسرائيل، وقد كرست السلطة واسرائيل مسألة ان لا دور للمجلس ولا حق له في الاشراف على المفاوضات. وعندما وقعت السلطة اتفاق الخليل مع حكومة نتانياهو في مطلع 1997، جاء الرئيس عرفات الى المجلس وبدأ يتحدث عنه محاولاً الحصول على مباركة المجلس عليه، فرفضنا الأسلوب وقلنا ان المجلس لن يكون له موقف بخصوص الاتفاق الا بعد ان يطلع على نصه الكامل ويناقشه جملة وتفصيلاً… ولم يقبل الرئيس بالطبع! دور المجلس في حماية حقوق الانسان ما هي فاعلية المجلس بخصوص الرقابة على سلوك الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتعدياتها على الحريات وحقوق الانسان؟ - واجهنا في هذا الشأن مصاعب وتعقيدات واحباطات أكثر من ان تحصى، ولا تزال هذه تعترض عملنا. لم نتوقع ان تكون لدينا بعد انسحاب اسرائيل من مناطقنا معتقلات وسجون فلسطينية، كنا نتوقع ان نودع هذه الأماكن مع انسحاب الاحتلال، وان لا يبقى منا معتقل واحد، غير ان الواقع كان غير ذلك، للأسف، حتى ان مناطق الحكم الذاتي تحولت سجناً كبيراً لأصحاب الرأي والقوى السياسية والوطنية المختلفة. الى هذا الحد؟ - نعم، الى هذا الحد تعمقت مشكلة الاعتقال وضرب الحريات وحقوق الانسان. اذ بمجرد ان تضغط أميركا أو اسرائيل على السلطة حتى تقوم هذه بشن حملة عشوائية. واذا أخطأ فرد ينتمي الى "حماس" أو "الجبهة الشعبية" تقوم السلطة باعتقال كل من تستطيع اعتقاله من أعضاء التنظيم الذي ينتمي اليه المتهم. وفي كثير من الأحيان يصبح اعتقال هؤلاء المعارضين وسيلة للضغط على التنظيم أو للتفاوض معه وفرض تنازلات سياسية. في بداية تشكيل السلطة، كانت الشرطة تستبيح الحياة اليومية لشعبنا، بكل اجهزتها العديدة، من استخبارات عسكرية وأمن وقائي وشرطة وغير ذلك. اما الآن فخفت هذه الممارسات الى حد ما نتيجة للدور الذي قمنا به كمجلس تشريعي، اضافة الى الضغوط الشعبية والدولية على السلطة. ما هي الأسباب في تقديركم؟ - الأسباب عديدة تتداخل بين تعقيدات التركيبة الفلسطينية، وبين التأثيرات الخارجية. وأظن ان الولاياتالمتحدة تتحمل مسؤولية كبيرة ومباشرة عن انتهاكات السلطة الفلسطينية لحقوق الانسان. وقد واجهنا ذات مرة مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق روبرت بلليترو بهذا الاتهام وقلنا له: انكم تجعلون من بلادكم رقيبة على العالم في مجال حقوق الانسان ثم تضغطون على السلطة الفلسطينية لتكون انتهاكات حقوق الانسان سياسة رسمية وقاعدة ثابتة. فرفض الاتهام ونفى مسؤولية بلاده عن ذلك، وقال ان الانتهاكات الفلسطينية سياسة داخلية ونحن لا نضغط على أحد بهذا الاتجاه. وما هي الأسباب الأخرى؟ - تركيبة السلطة الفلسطينية التي تتألف عملياً من شخص واحد فقط لا يقبل مشاركته في صنع القرار من أي كان. ان العقلية التي تقود "الدولة" عقلية الفرد الثوري الذي يحتكر كل السلطات والصلاحيات. ولو حاول أحد تغيير الأمر أو فرض شراكة عليه، ووجه بحرب أو بالقوة. وكذلك تجب الاشارة الى طريقة تركيب وتكوين الأجهزة الأمنية وآليات عملها وكلها تمت على أساس المحسوبية والولاءات الشخصية. ألم يحقق المجلس في انتهاكات حقوق الانسان، خصوصاً الفضائح الكبيرة التي اقترفتها اجهزة الأمن؟ - نعم، حقق المجلس في كل هذه الانتهاكات والمخالفات الخطيرة، بما فيها موت أحد عشر فلسطينياً في المعتقلات، وكذلك الذين قتلوا "خطأ" في الشارع برصاص الشرطة. لقد شكلنا لجان تحقيق لمساءلة المسؤولين عن هذه الحوادث والمسؤولين عن اجهزة الأمن، وطريقة العمل بما في ذلك اصدار تقارير الطب الشرعي ثم رفعنا الحصيلة الى المجلس للمحاسبة. وفي الغالب كانت لتدخلاتنا وتحقيقاتنا نتائج ولكن محدودة، وكذلك كان للغضب الشعبي أثره في دفع السلطة للتعامل بجدية وحزم مع المسؤولين في هذه القضايا. وعلى سبيل المثال فإن الذين قتلوا محمود جميل سرعان ما أفرج عنهم، وكذلك الذين قتلوا البابا حكومة بسنة واحدة فقط، وعندما احتج الناس عادوا وحاكموهم من جديد وحكموا عليهم بسبع سنوات سجن، ونحن نعرف انهم لن ينفذوها كاملة. لماذا تعتقد ذلك؟ - قياساً على أمثلة سابقة مشابهة. والرئيس عرفات يشرف شخصياً على هذه الاجراءات ويكرر في كل مناسبة "العسكر بتوعي"، أي ان رجال الأمن هم خاصته ولا يسمح بأن يطالهم أحد، حتى القانون. وتشمل هذه الرعاية الخاصة كل شيء، بما فيها المخصصات المالية والمزايا الاجتماعية. اذن، ليس هناك أمل في تصحيح الأوضاع؟ - لا… لا، ليس الى هذا الحد هناك أمل على المدى البعيد. ولا خيار للمجلس سوى الاستمرار في الدفاع عن القانون وأسس الدولة الديموقراطية. وهناك ايجابيات ولو قليلة. لقد استطعنا ان نكرس بعض القيم والقواعد الديموقراطية المهمة كمبدأ محاسبة الوزراء وسحب الثقة منهم، والمطالبة بمحاكمة المتورطين في الفساد. هذه أمور مهمة قياساً بالفترة القصيرة التي مرت على تأسيس المجلس. لماذا استقال الدكتور حيدر عبدالشافي من عضوية المجلس وقال انه لا فائدة ترجى منه؟ - حيدر عبدالشافي ضمير للشعب الفلسطيني وممارسته السياسية الطويلة كانت دائماً تعكس وطنيته الأصيلة ونزاهته، قبل مؤتمر مدريد وبعده. اما بالنسبة الى استقالته فجاءت نتيجة الاحباط من اخفاق المجلس في تصحيح الأوضاع الداخلية. وكان باستمرار يوجه مذكرات ورسائل الى السلطة والقيادة حول الفساد واستباحة الحريات والحقوق وحول الاداء السيئ لأجهزة السلطة مطالباً بالتصحيح، الا انه لم يجد اهتماماً أو حتى صدى لمذكراته. وكان يرى المساوئ والسلبيات تتراكم وتتزايد. ولذلك قدم استقالته لا لأنه يئس أو تعب من النضال وانما لكي يكون لاستقالته اثر منبه عند المواطنين وأثر تحذيري عند السلطة. وهو أصدر بياناً قال فيه ان السلطة ترفض الانصياع لارادة المجلس التشريعي. وهذا هو الخلل الرئيسي في البناء السياسي الوطني. وقد حاولنا، نحن اصدقاؤه ورفاقه، ثنيه عن الاستقالة ولكننا فشلنا لأنه اعتبر العضوية بمثابة مهمة أو امانة كلفه بها الناخبون، وعليه ان يقوم بها كما يريدون أو ان يعيدها اليهم موضحاً السبب لعجزه عن الوفاء بها. من أنتم الذين حاولتم ثنيه عن الاستقالة؟ - نحن مجموعة نواب حوالى عشرة، شكلنا تكتلاً في بداية عمل المجلس، ولم نعلن عنه، وكنا ننسق في عملنا داخل البرلمان، وكلنا من المستقلين عن التنظيمات والأحزاب المعروفة. ألم تفكروا في الاستقالة مثله احتجاجاً على الأوضاع؟ - بصرف النظر عن القناعات بجدوى عمل المجلس، كان هناك تفكير لدى بعضنا في الاستقالة، ولو في بعض اللحظات… الا اننا لم نمض الى النهاية في هذا التفكير، لأننا نفتقر لشهرة ومكانة حيدر عبدالشافي، ولن يكون لاستقالتنا أي أثر أو صدى. وأنا أعتقد اننا لو استقلنا لكنا الآن في السجن، أو على الأقل سنعاقب ونحارب بوسائل شتى. فأنا كطبيب سأمنع من مزاولة مهنتي لأن الطبيب - لعلمك - أو المهندس أو المحامي أو أي مهني آخر لا يستطيع ممارسة عمله الا بعد الحصول على اذن من المخابرات… في أي حال انا أرى ضرورة لأن نستمر في عملنا داخل المجلس مهما كانت الظروف. وعندما تحين الدورة الانتخابية المقبلة سنقدم كشف حساب الى المواطنين الذين انتخبونا ونوضح ما حققنا وما لم نحقق ولماذا. كم هو عدد المعتقلين الآن عرفياً من دون أوامر أو أحكام قضائية أو تهم محددة؟ - هناك حالياً عدد يراوح بين مئة ومئة وخمسين معتقلاً. وهذا العدد بسيط مقارنة بما وصل اليه قبل حوالى سنة أو سنتين حين بلغ ألف معتقل. ونصف العدد المذكور من غزة ونصفه الثاني من الضفة الغربية. بعضهم متهم بالتعامل مع العدو، ولكن الغالبية منهم من حركة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية". الفساد واقالة الحكومة لماذا لم يستجب الرئيس عرفات لانذاركم له باقالة الحكومة ومحاسبة المتورطين في الفساد؟ ألم تعطوه مهلة أولى في الصيف الماضي؟ وماذا كان رد فعله على انذاركم؟ - عمل الرئيس عرفات كل ما في وسعه وفي صلاحياته لتمييع القضية والقفز فوقها بادعاء ان الأولوية هي لمواجهة استحقاقات عملية، السلام والمفاوضات مع اسرائيل، وبحجة انه لا وقت الآن لتغيير الحكومة. في مطلع تشرين الأول اكتوبر، أي بعدما انتهى وقت الانذار الذي وجهناه لاقالة الحكومة ومحاسبة المهتمين بالفساد، جاء الرئيس عرفات الى المجلس وعقدت جلسة سرية وتحدث فيها عن عوامل صمود "القلعة الفلسطينية" وكان حسب رأيه لفلفة ملفات الفساد في مقدم عوامل صمود هذه القلعة. لكنه لم يقنع أحداً من المجلس، بما في ذلك أعضاء "فتح". وهناك تصميم على متابعة القضية الى نهايتها والضغط عليه لاقالة الوزراء الفاسدين ومحاسبتهم مهما تكن النتائج. هل شاركت في اللجنة التي شكلها المجلس للتحقيق في الفساد؟ - نعم، وأنا مطلع على دقائق ملفات الفساد بالتفصيل نتيجة مشاركتي في هذه اللجنة الخاصة، اضافة الى عضويتي الدائمة في اللجنة السياسية للمجلس، وكوني مقرراً للجنة الرقابة العامة والحريات وحقوق الانسان. ما هي حقيقة وحجم استشراء الفساد في الوزارات؟ - لنعد الى البداية. فعندما صدر قرار الهيئة المركزية للتفتيش وأشار الى وجود هدر في المال العام وفساد أثار ضجة كبيرة في الداخل والخارج، مع ان التقرير لم يكن يقصد اتهام أحد من المسؤولين بل على العكس كان للأسف يتهم وبشيء من المغالطة المواطنين عوضاً عن السلطة بالتبذير وهدر المال العام. ومع ذلك كان للصدى الذي أحدثه اثر ايجابي، وأمسكنا نحن في المجلس بالكرة تلقائياً وشكلنا لجنة للتحقيق في المشكلة التي طرحها التقرير، وسميناها "اللجنة الخاصة لمتابعة تقرير هيئة الرقابة المركزية". وكان الرئيس عرفات شكل لجنة للغرض نفسه برئاسة الطيب عبدالرحيم. ومع ان هذه كانت لديها تسهيلات عملية أكبر مما لدى لجنتنا فقد جاءت نتائج تحقيقاتها هزيلة، وبقيت الحقائق التي توصلت اليها سرية بين اللجنة والرئيس، ولم تسفر عن شيء ملموس لمكافحة الفساد ومعالجة الثغرات. اما لجنتنا فاختير اعضاؤها بالاقتراع داخل المجلس من أعضاء لجنتي الرقابة العامة والموازنة وضمت ثمانية أشخاص من اللجنتين وكنت واحداً منهم. وقد توجهنا الى درس التقرير درساً مفصلاً ثم اتفقنا على آلية عمل، وكنا نواجه كل مسؤول متهم بالفساد بالمعلومات والمعطيات المتوفرة حوله وحول اداء الأجهزة التابعة له ولوزارته ثم نمنحه فرصة أسبوع للرد عليها وتوضيحها. والغريب ان عدداً من الوزراء لم يرد بتاتاً على أسئلتنا محتقراً اللجنة مستهتراً بصلاحياتها. ومع ذلك واصلنا عملنا وركزنا على الوزارات التي كانت الشبهات والاتهامات تتركز عليها أكثر من سواها، وهي الصحة والمواصلات والتخطيط والمعونات الدولية والثقافة والاعلام والشؤون المدنية. وأحضرنا منها الملفات والوثائق المتعلقة بالاتهامات، ودرسنا كل هذه الوثائق وأعددنا تقريرنا النهائي في ضوئها، وما أثبتناه فيه يعد حقائق موثقة بنسبة مئة في المئة، لأننا استبعدنا منه كل ما هو غير مؤكد بالوثائق الرسمية وشطبنا الكثير من المعلومات التي تنقصها الأدلة ولو بنسبة قليلة فقط. وأعتقد جازماً اننا قبضنا على معظم الحقائق بالنسبة الى قضايا الفساد المثارة ولم نظلم أحداً بل اننا تساهلنا كثيراً بلا أي شك في ذلك. وبعد ان فرغنا من عملنا قدمنا التقرير الى المجلس، وأصررنا على عرضه وتلاوة محتوياته في جلسة علنية، متغلبين على اقتراحات البعض بأن يقرأ في جلسة سرية. وقد حضر الجلسة صحافيون كثيرون، ووصلت المعلومات الى جميع الناس. وبعد مناقشته انتهينا الى توصيات قليلة ومحددة هي: حجب الثقة عن الحكومة، والمطالبة بتقديم من ثبتت ادانته الى القضاء، ثم دعونا الرئيس لتشكيل حكومة تكنوقراطية مصغرة. كيف كان رد فعل الوزراء والسلطة؟ - أحب ان أشير أولاً الى ان الجميع فوجئ بقوة موقف أعضاء المجلس مستقلين و"فتحاويين" حتى ان رئيس المجلس أحمد قريع دعا الى تخفيف لهجة التوصية مقترحاً ان كون الطلب الى الرئيس حل الوزارة وتشكيل وزارة بديلة في غضون فترة لا تزيد عن نهاية أيلول سبتمبر 1997. وفي الجلسة نفسها جاء الوزراء المعنيون وتحدثوا مدافعين عن انفسهم، فاستمعنا اليهم لاعطائهم الفرصة الأخيرة، حتى ان أحدهم بكى أمام المجلس وقال "هذا الزمان ليس زماني ولا المكان مكاني"! وبعدها بيوم واحد فقط قدم الوزراء استقالات جماعية مكتوبة باستثناء السادة ياسر عبدربه وجميل الطريفي ونبيل عمرو. ولكن الرئيس عرفات ألم يتجاوب مع انذار المجلس ومطالبته بخصوص اقالة الوزارة؟ فماذ جرى؟ - نعم بقيت الأمور على حالها الى ان دخل تشرين الأول اكتوبر وجاء الرئيس عرفات وتحدث عن ضرورة تدعيم "صمود القلعة الفلسطينية من الداخل". وفي هذه الجلسة السرية تحدث كل من نبيل عمرو وجميل الطريفي والقواسمة واقترحوا اعادة تشكيل لجنة التحقيق في الفساد ومعاودة التحقيق. وأمسك عرفات بالاقتراح وعرض تشكيل لجنة استماع للوزراء. واعترضت انا على ذلك لأن اللجنة الأصلية موجودة ولم يشكك أحد بصحة أدائها، ولا حاجة لاعادة التحقيق، فتدخل رئيس المجلس وأيد تشكيل لجنة خاصة جديدة مفصلة على "القياس" المطلوب! اذ استبعد منها كل من كمال شرافي وحسن خريشة وحاتم عبدالقادر وجمال الشافي، وشكلت لجنة جديدة من شخصيات تميل الى تخفيف الانتقادات والاتهامات، وفرض هذا الأمر على رغم النقاشات والاعتراضات الكثيرة. ما هو تقييمك لأسباب استشراء الفساد بهذا الحجم في السلطة على رغم حداثة عهدها؟ - الفساد الفلسطيني في تقديري نتيجة لعوامل تاريخية كثيرة تفاعلت داخل مسيرة منظمة التحرير. ان السلطة الفلسطينية نفسها كانت أشبه ما تكون بمشروع اقتصادي لا سياسي وطني. فمعظم الوزراء والمسؤولين الكبار يمكن وصفهم بپ"لصوص" يختبئون وراء شعارات وطنية… واستطيع لو طلب مني التفصيل والتحديد والتسمية بالوقائع والأرقام، ان أدلل على دقة الوصف الذي اختاره لهم. ان ما نعتبره نحن وعامة الشعب الفلسطيني مشروعاً وطنياً يعتبرونه هم مشروعاً اقتصادياً والمرحلة الحالية مرحلة اقتسام غنائم بين ثوار الأمس والقادة التاريخيين. وما هو دور الرئيس عرفات في هذا المشهد الكئيب؟ - الرئيس عرفات يعرف فضائح الفساد وهو مطلع على الأسرار لكنه مع ذلك يسكت لأن له مصلحة في هذا الوضع، وهو يشجع أحياناً على الفساد لكي يسهل عليه السيطرة على وزرائه ومعاونيه… وكيف ذلك؟ - ان المجلس التشريعي منذ انتخابه يعرف الموارد المالية بالأرقام الدقيقة، وهو يناقش الميزانية سنوياً ويراقب كيف تأتي الأموال وكيف تنفق بالتفصيل. واجمالي الموازنة السنوية يقدر بپ840 مليون دولار، ولكن الى جانب هذه الأموال هناك 500 مليون دولار تأتي من تجارة المواد التي تحتكرها السلطة. وهي البترول والتبغ والاسمنت وهذه لا تدخل في نطاق الخزينة الوطنية ابداً، بل تذهب الى مكتب الرئاسة فقط، ويتصرف بها الرئيس بمشيئته المطلقة، ومن خلال ما توصلنا اليه في اللجنة الخاصة، فإن الرئيس يوزعها على رجاله ومحاسبيه، ولو دخلت هذه الأموال الى الخزينة الوطنية لكانت ميزانيتنا السنوية أكبر من ميزانية المملكة الأردنية التي تبلغ بليون دولار فقط. هل تورط أحد من نواب المجلس التشريعي بفضائح الفساد؟ - لا يخلو الأمر من أمثلة، ولأن العديد من زملائنا، للأسف، يتقرب من الرئيس عرفات ويتزلف له لكي يحصل على بعض المكاسب له أو لاقربائه. وهكذا يتم اجبار الكثيرين على التورط في الفساد. ما تقويمك لدور رئيس المجلس السيد أحمد قريع؟ - السيد قريع كشخص محسوب على الرئيس عرفات، ولذلك ففي بعض الأحيان يميل الى جانب السلطة وأحياناً أخرى يميل الى نواب المجلس ضد السلطة. أحياناً يكون دوره سلبياً وأحياناً يكون ايجابياً. الا انه والحق يقال أقدر من يقود المجلس وأكفأ من يحافظ على التوازن وإمساك العصا من الوسط. وهو في الفترة الأخيرة شديد القرب من الرئيس عرفات والسلطة. هل نجحت "فتح" في التحول الى حزب للسلطة؟ - كل التنظيمات الوطنية القديمة، بما فيها "فتح" لم تعد تصلح لمواجهة الظروف والمرحلة الجديدة. والسلطة الفلسطينية نفسها تعرف ذلك وتبحث عن وسيلة لتغيير الأطر التنظيمية السابقة التي عملت بها منظمة التحرير. وعلينا ان نلاحظ ان جميع التنظيمات "سقطت" في انتخابات المجلس التشريعي، وفاز المستقلون. أما "الفتحاويون" الذين نجحوا فنجحوا اعتماداً على عشائرهم وعائلاتهم لا على تنظيمهم. هل تتصور ان حركة "حماس" قد تشكل بديلاً عن "فتح" وغيرها من المنظمات السابقة؟ - حركة "حماس" ليست بديلاً أبداً عن "فتح" أو السلطة، وهي لا تختلف عن تلك في أسلوب عملها، ولها أيضاً أزماتها الداخلية الخاصة، وان كانت غير مكشوفة للرأي العام حالياً. ماذا لو غاب الرئيس عرفات عن السلطة في أي ظرف؟ - سيكون بمقدور المجلس اختيار رئيس بديل في غضون شهرين كما يحدد القانون الأساسي، ولن يستطيع أحد اغتصاب السلطة بالوسائل الانقلابية وغير الشرعية أبداً. والشعب الفلسطيني لن يقبل بأي زعيم "انقلابي"، وسيدعم دور المجلس وحقه في الاشراف على انتخاب رئيس من الشعب انتخاباً حراً مباشراً. يتحدث البعض عن احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة ما رأيك؟ - الانتفاضة السابقة لا يمكن تكرارها أبداً لأن الظروف اختفلت كلياً، وقد تخلص الاسرائيليون من التجمعات السكانية الكثيفة والكبيرة. اما اذا حدثت مواجهات بين الفلسطينيين والاسرائيليين فلن تكون أدواتها الحجارة بل البنادق وهذا ما يجعلها قليلة الاحتمالات. وهل صحيح ان اسرائيل يمكن ان تعيد احتلال المدن الفلسطينية؟ - هذا غير وارد في تقديري، وتطرحه اسرائيل للتخويف فقط. ولو حدث ذلك فستخسر اسرائيل آلاف القتلى والجرحى… ثم ان الانسحاب من المدن كان هدفاً لهم فلماذا يتراجعون عنه، وهم مستفيدون منه؟! هل صحة الرئيس عرفات في خطر؟ - حسب معلوماتي وتقديري ان صحة الرئيس عرفات ليست في خطر… وما يشاع عنها بين حين وآخر هدفه الضغط علىه لتقديم تنازلات اضافية!