مرة اخرى يصل نظام الرئيس الاندونيسي محمد سوهارتو الى حافة الانهيار، لكن من دون ان يصدر عنه أدنى اشارة الى نيته في الرحيل طواعية أو حتى احداث تغيير ما يضع البلاد في مصاف بعض جاراتها لجهة الشفافية السياسية والاقتصادية وينقذها بالتالي من الاحتقان والكبوات المتتالية. بل على العكس من ذلك فهو ماضٍ على ما يبدو نحو اعادة تثبيت الرئيس في منصبه لولاية سابعة تنتهي في العام 2003، وذلك في أحدث دليل على مدى تعلق الديكتاتوريات بالسلطة حتى الرمق الأخير واستعدادها للمجازفة بأي شيء كثمن للبقاء في الحكم من دون أدنى اعتبار لدروس التاريخ وعبره التي كان آخرها في زائير موبوتو. عبدالله المدني يحلل: على مدى 32 عاماً من الحكم الفردي المدعوم بقوة العسكر واجهت سوهارتو أزمات كثيرة كان يتغلب عليها بمزيج من البطش واستخدام المسكنات الوقتية، مع القاء المسؤولية في كل الأحوال على الخارج أو "الجماعات الشريرة" في الداخل. الا ان الأزمة الاقتصادية الأخيرة كشفت عورات النظام بمثل ما لم تكشفه أي أزمة سابقة، خاصة وانها جاءت في أعقاب سلسلة من الفضائح والتطورات المحرجة بدأت بتدخلاته الفاضحة في عام 1996 في الانتخابات الداخلية للأحزاب السياسية المرخص لها، ثم قيامه بالتصدي الوحشي لاحتجاجات الشارع المؤيدة لزعيمة المعارضة ميغاواتي سوكارنوبوتري، ثم توالت عبر فضيحة صراع أبناء الرئيس وبناته على مناجم الذهب المزعومة في غرب البلاد، وحريق الغابات المدبر الذي تسبب في كارثة بيئية لا مثيل لها في عموم المنطقة نتيجة للتمادي في الجشع وسوء التخطيط والادارة. وهكذا فإن الأزمة الأخيرة ساهمت في اتساع رقعة السخط الشعبي المتنامي أصلاً وايصاله الى درجة من الاجماع العريض لم يكن متوافراً من قبل على ضرورة تنحي سوهارتو عن الحكم. فحتى وقت قريب كانت المناداة العلنية برحيل الرجل ونظامه مقتصرة على ميغاواتي وأنصارها وبعض رموز المنظمات الطالبية، أما اليوم فقد بات الأمر مطلباً شعبياً ينادي به أيضاً قدامى العسكر وزعماء التنظيمات السياسية والدينية التي ينتسب اليها عشرات الملايين من الاندونيسيين المسلمين وعلى رأسها جماعة "المحمدية" و"نهضة العلماء" اضافة الى عدد كبير من المفكرين والكتاب ورجال الصحافة. وبطبيعة الحال فإن ردود الأفعال وما طرأ عليها من تطور مفهومة وتستمد مبرراتها من الحال التي وصلت اليها البلاد على أيدي سوهارتو ورجاله. وهي حال ما كان ليصل اليها بلد كأندونيسيا يقبع فوق ثروات نفطية وطبيعية هائلة، ويسكنه شعب حي لا تنقصه المواهب الخلاقة، لولا امعان نظامه في النهب المنظم المصحوب بالقهر المسلح. وبعبارة أخرى لولا التخفي وراء واجهة اقتصادية براقة تستعير أدوات النظم الاقتصادية الغربية فيما جوهرها متخم بكافة أمراض النظم المتخلفة كالفساد وسوء الادارة والمحسوبية والسماح للعائلة والأصهار والمقربين بتجاوز القانون. ومنذ بدء موجة الأزمة المالية التي ضربت عموم دول شرق آسيا في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم، والتشققات في هذه المواجهة البراقة تتسع حتى وصلت خلال الأسبوع الأول من الشهر الجاري الى مرحلة حرجة مع وقوف أكثر من مئتي مؤسسة من أصل 288 مؤسسة كبرى مدرجة في سوق الأوراق المالية على أبواب الافلاس التام، وفقدان أكثر من مليوني اندونيسي - بحسب المصادر الرسمية - وظائفهم، وانخفاض القوة الشرائية لملايين الأسر ووصولها الى مستويات دنيا لم تصلها من قبل بسبب استمرار تدهور قيمة العملة الوطنية الروبية بالنسبة للدولار. وكعادته، لجأ نظام سوهارتو الى سلسلة من الاجرءات المتخبطة ليس بهدف معالجة الأوضاع التي تسبب فيها وانما للحيلولة دون وقوع الانفجار الشعبي أو على الأقل تأخيره الى ما بعد موعد الانتخابات الرئاسية المقرر لها شهر آذار مارس المقبل فآخر ما يحتاجه وهو على أبواب التجديد لزعيمه العجوز 76 عاماً ان تحدث حال من الفوضى والشغب يضطر معها الى استخدام عصا الجيش الغليظة. ولما كان هذا هو الهدف الأساس فقد تضمنت الاجراءات عنصر المحافظة على سعر ثابت ومعتدل لبعض السلع الأساسية وتوفيرها في الأسواق. وتجلى ذلك في قيام الحكومة بزيادة الدعم المقدم للوقود والمحروقات الى ثلاثة أضعاف ما كان عليه سابقاً محملة الخزينة العامة مبلغاً اجمالياً يصل الى 1.4 بليون دولار، ثم قيامها بمنع تصدير زيت النخيل الذي يعتبر سلعة حيوية تستخدمه ربات البيوت في الطبخ خلال الربع الأول من العام الجاري وذلك في محاولة لزيادة المعروض منه كي تنخفض أسعاره، مضحية بما يدره تصدير هذه السلعة من عملات صعبة هي في أشد الحاجة اليها لمواجهة جزء من مديونيتها الخارجية الضخمة البالغة 108 بلايين دولار. ويبدو ان النظام بتصديه للتلاعب في قوت الجماهير منعاً لحدوث الانفجارات الشعبية، أو بعبارة اخرى قيامه بسد بعض احتياجات البطون كسبيل لامتصاص غضب الشعب، انما قرأ جيداً في احداث مشابهة وقعت في أماكن اخرى واكتشف بالتالي المعادلة السحرية المؤدية الى اطالة بقائه. لكن ما لم يكتشفه للأسف هو ان الجماهير في هذا الزمن المتميز بثورة الاتصالات ونقل المعلومات صارت أكثر اطلاعاً وادراكاً لما يجري من تراجعات واخفاقات. لقد صار جُلّ الاندونونيسيين اليوم مطلعين على اخبار الفساد المستشري في صفوف الأسرة السوهارتية والطبقة الحاكمة ويتناقلونها بالأرقام والبيانات التفصيلية الداعمة كسبب أول من أسباب تدهور أوضاعهم. واللافت للنظر في هذا السياق ان الرئيس سوهارتو وهو يجتاز هذه الفترة الحالكة التي تتطلب منه تحسين صورته عن طريق الايحاء بضرب الفساد والمفسدين، لم يفعل شيئاً لكف أيدي ابنائه وبناته وأصهاره عن التمادي في الجشع والنهب واستغلال مركز الرئيس الوالد في اكتناز الثروات والاستيلاء على العقود والصفقات والتحايل على القانون، والذي يُقال انه بلغ حداً صارت مقارنته بجرائم آل ماركوس في الفيليبين تثير السخرية. بل على العكس من ذلك فقد أوحى الرجل عبر واقعتين حدثتا مؤخراً بأنه لا يشعر بأي نوع من الحرج لممارسات أفراد عائلته. فعندما أعلن في نهاية العام المنصرم عن قرار اغلاق عدد من المصارف المتعثرة في البلاد في محاولة متأخرة لتصحيح الأوضاع الاقتصادية الكارثية، كان ضمن ما شمله القرار مصرف تعود ملكيته لابنه المدلل "بامبانغ"، لكنه سرعان ما أتاح لهذا الأخير ان يعود ويفتح مصرفه من جديد تحت اسم آخر وكأن شيئاً لم يكن. اما الابنة الكبرى "توتوت" التي قال انها خليفة أبيها في الحكم فرغم سمعتها المعروفة للقاصي والداني لجهة الشراهة للمال والنفوذ والتنافس مع أشقائها على العقود فإن الحكومة أكرمتها في هذا الوقت العصيب من تاريخ البلاد بالموافقة على مشروع غير ملح وليس في قائمة الأولويات بملايين الدولارات، فقط لأن احدى شركاتها المنتشرة هي التي تنفذه. انتظر المراقبون يوم السادس من كانون الثاني يناير الماضي لسماع سوهارتو وهو يقدم للبرلمان موازنة حكومته للعام المالي 1998، على أمل ان يجدوا في خطابه من السياسات والبرامج ما يتفق وبرنامج وصندوق النقد الدولي المقترح لانقاذ اندونيسيا والبالغ اجمالي مخصصاته 43 بليون دولار، لكن الرئيس بدلاً من ان يقدم ميزانية واقعية تأخذ في الاعتبار حجم المعضلة الاقتصادية الراهنة وما تتطلبه من شد الأحزمة على البطون والاقتصاد في الانفاق وبالتالي تلبية كل أو بعض الشروط الدولية المقترحة، راح يقدم أرقاماً لا تمت الى الواقع بصلة منطلقاً من اعتبارات سياسية محضة. اذ اضافة الى التوسع في مخصصات دعم السلع، جاءت تقديراته حول عوائد البلاد المتوقعة مبنية على سعر صرف مبالغ فيه للعملة المحلية المتدهورة، وهو ما تجلى في عوائد النفط التي قدرت بپ27.3 بليون روبية مقابل 14.9 بليون في ميزانية العام الماضي، رغم التدهور الملحوظ في أسعار البترول، وأيضاً في معدل النمو المتوقع والذي قدر بأربعة في المئة فيما تقول المصادر الرسمية بأنه لن يتجاوز الواحد في المئة في أحسن الأحوال. ونتيجة لهذه المكابرة واللاواقعية، لم يمض يومان على اعلان الميزانية الجديدة حتى كانت الروبية الاندونيسية تفقد أكثر من أربعين في المئة من قيمتها ليصل الدولار الى 11200 روبية بعدما كان في تموز يوليو 2400 روبية، وليصاب الملايين من الاندونيسيين الذين أفنوا شبابهم في الادخار في مقتلٍ، ولتسود البلاد موجة من الذعر جسدها الاندفاع الشديد لشراء كل ما تطاله الأيدي خوفاً من انهيارات جديدة في قيمة العملة الوطنية. وفي موازاة هذه الحالة الهستيرية التي تفاقمت مع قيام الناس بالاتصال ببعضها عبر الهواتف النقالة التي يفاخر النظام بأن توافرها في الأيدي من انجازاته الحضارية، محذرة من تفاقم الأمور نحو الأسوأ، سرت شائعات حول هروب الرئيس وأسرته الى الخارج ووقوع البلاد في حالة من الفراغ والفوضى. لكن ما الذي يجعل النظام السوهارتي واثقاً انه لن يلحق بالأنظمة الديكتاتورية المشابهة فيبالغ في الاعتداد بالنفس ويستمر في مواصلة نهجه من دون أي انعطاف نحو التغيير؟ لا شك ان أحد الأسباب هو غياب القائد البديل القادر على نيل الاجماع الشعبي لاحداث التغيير، وذلك على رغم توافر الاجماع مؤخراً حول مبدأ رحيل النظام على نحو ما أسلفنا. وقد استغل سوهارتو هذا الخلل في صفوف الأحزاب والفصائل والتنظيمات المعارضة أفضل استغلال مرسخاً فكرة ان اندونيسيا من غيره أو من غير مرشحه للرئاسة ستقع فريسة للفوضى والتمزق واللااستقرار. ويبدو من التطورات الأخيرة ان الادارة الأميركية التي تعتبر اندونيسيا حليفة استراتيجية مهمة وضرورية لمخططاتها في جنوب شرق آسيا وبالتالي تريد ضمان وجود نظام موال لها في جاكرتا، باتت مقتنعة بهذه الفكرة. ومن هنا يمكن تفسير ذلك التدخل السريع غير المسبوق في الشأن الاندونيسي المتدهور والذي جسدته اتصالات البيت الأبيض المكثفة مع قصر "مرديكا" وارسال وكيل وزارة الخزانة السيد لورانس سامرز الى جاكرتا على جناح السرعة للاجتماع بسوهارتو وأركان حكمه لتدارك الوضع عبر اقناعهم بضرورة الموافقة على التعاون مع صندوق النقد الدولي بشروطه ومعاييره القاسية. فواشنطن متخوفة من ان يؤدي تفاقم الأوضاع الاقتصادية ان تركت من دون حل جوهري الى الاطاحة بالنظام الحليف وحدوث فراغ يسهل وصول مرشح التنظيمات الاسلامية أو من يستند الى دعمها الى السلطة، لذا فهي ترمي مطالبها المعروفة والمستعرة لجهة الالتزام بالديموقراطية والتعددية والالتزام بحقوق الانسان والتي تصر عليها في أماكن أخرى، خلف ظهرها حين التعامل مع الحال الاندونيسية، وذلك في دليل جديد على وجود أكثر من مكيال في السياسة الخارجية الأميركية عند التعامل مع مثل هذه الأوضاع، خاصة وان هواجس الماضي الناشئة أساساً من تبعات التجربة الكارترية مع نظام الشاه الحليف، لا تزال على ما يبدو مسيطرة على واضعي هذه السياسة.