تحتضن مدينة حلب قدراً من المبدعين يضعها في مرتبة العاصمة الثانية بعد دمشق. ففي هذه المدينة العريقة بآثارها وأوابدها ومكتشفاتها يقطن عدد كبير من الشعراء والروائيين والفنانين الذين لم تجذبهم اضواء العاصمة الاولى وبهارجها، فظلوا اوفياء لمدينتهم العظيمة. يوسف طافش شاعر له اربعة دواوين بالفصيحة، وكاتب اغان شهير منذ مطلع الستينات، حين كان لا يزال في مرحلة الدراسة الثانوية، اذ انطلق من اذاعة حلب، وارتبطت كتابة الاغنية لديه بوجوده في هذه المدينة، وبمجموعة من المطربين والملحنين الذين كان لهم الدور الكبير في استنهاض حنينه لكتابة الاغنية كلما غاب عنها في سفره الى الجزائر 1963 - 1973 او في الامارات العربية حتى عام 1980. في مطلع الستينات غنى له صباح فخري اغنيات دينية. لكنه لم يقتصر على هذا اللون، بل كتب الاغاني العاطفية وأغاني الطرب والفولكلور الشعبي، فقدم خلال سنوات 61، 62، 1963 حوالى 60 اغنية منوعة. وممن صدحوا بكلماته، الى صباح فخري، محمد خيري، مها الجابري، سحر، الراحل سمير حلمي، فهد يكن وعصمت رشيد. وحين يتذكر يوسف طافش مرحلة اذاعة حلب، فإنما يستذكر رعيلاً من الفنانين الذين ساهموا في حفلات الاذاعة. يتذكر وديع الصافي ونصري شمس الدين وبليغ حمدي. ويتذكر ألواناً من الغناء: الزجل، الشعر والاسكتشات. في الجزائر، تعرف طافش الى الفنان أحمد وهبي وكان نقيب الفنانين، وكان ان اسفرت هذه العلاقة عن تجربة وصدمة ابعدته عن عالم الغناء فترة من الزمن. اذ بعد علاقة وثيقة مع وهبي، اختار هذا كلمات اغنية "جيت نشرب" ولحنها وأداها، وأصدرها في شريط، ولم يذكر اسم كاتب الكلمات طافش. وحين راجعة في ذلك، قام وهبي بإهدائه اسطوانة فخمة، وبدأت محاولة تسجيل اسمه في جمعية حقوق المؤلفين، الا انها انتهت باعتباره فلسطينياً ليست له جنسية معترف بها في الاممالمتحدة. يسرد طافش القصة كمن يروي قصة ابن فقده في حرب. "ذكرني بهذه القصة - يقول طافش اصدقاء جزائريون أمين الزاوي، ربيعة الجلطي، والواسيني الاعرج حين كنا نسهر وأخذوا يرددون الاغنية من دون ان يعرفوا انني كاتب كلماتها". ناقد وذواقة والى كتابة الشعر والاغنية، فهو ناقد ذواقة، يتكئ على ثقافة في حقل الغناء والموسيقى. ومن هذا الباب دخل لجنة حلب لمهرجان الاغنية الذي يقام سنوياً في هذه المدينة، في شهر تموز يوليو هذا العام جرى تأجيله الى تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. ومن موقعه هذا تحدث مبدياً تشاؤمه مرعباً ازاء ما وصلت اليه الاغنية العربية عموماً، خصوصاً بعد انتشار الفضائيات التي تبث ما هبّ ودبّ لتملأ ساعات البث من دون النظر الى المستوى. قلنا للاستاذ طافش، ان لهذه الاغاني الجديدة، جمهوراً يطلبها، فقال: "الجمهور حسبما تعوّده، والمادة الفنية هي التي ترفع من ذائقة الجمهور او تنحدر الذائقة الى التسطيح والتفاهة". ويتابع: "ان شيوع الايقاع السريع في معظم الاغاني التي يطلقون عليها خطأ "الاغاني الشبابية"، ليس معياراً يعتد به في نجاح الاغنية. والاغنية التي لا تخاطب سوى الاكف والارداف، هي اغنية رغوية من الرغوة لا تلبث ان تتلاشى بالسرعة نفسها التي صعدت بها. والاغنية التي تعتمد جمهور المقاصف والمرابع الليلية في اثناء احتساء الكؤوس بلا حساب، ليست جديرة بأي حساب. وأستطيع ان أؤكد بأن جيل الشباب العربي عموماً، وإن كان يتفاعل مع الاغاني ذات الايقاع السريع، فإنه يتفاعل ايضاً مع الغناء التراثي الاصيل. وهذا يؤكد بأن ما نقدمه للناس هو الذي يربي الذائقة وينمّي الوعي الجمالي. فشبابنا ما زالت آذانهم تحنّ الى جذرها الاصيل. وما يخيفني هو هذا التسطيح من حيث الكلمات والجملة اللحنية التي لا يبذل فيها الملحنون جهداً يؤهلها للديمومة والاستمرار". وحين سألناه عن معنى ودلالة ان يكون جمهور الشباب على صلة بالغناء القديم في الوقت الذي يلهث فيه وراء الجديد. وما المشكلة في ذلك؟ قال: "مشكلة الاغنيات الجديدة انها تكاد تكون "فوتوكوبي" عن بعضها. النص هزيل، واللحن فقير. معظم الاغاني حوالى 80 في المئة منها على لحن البيات.. وهو جحش الملحنين مثلما البسيط جحش الشعراء. انا لست ضد الحداثة، ولكنني ضد التخلي عن الواحات الوارفة في الاغنية العربية التي تربطنا بأصالتنا. مع حداثة المتصل، لا حداثة المنفصل عن التراث. وكناقد، وعضو لجنة تحكيم في برنامج "مواهب"، الذي قدمته محطة "راديو وتلفزيون العرب" art، والذي شارك فيه ست وثمانون موهبة، لا تخونني الجرأة في القول ان معظم المشاركين كانوا يمتلكون اصواتاً تتجاوز في قدرتها الابداعية عشرات الاصوات التي ترجُمُنا بها الشاشات الفضائية والارضية يومياً. وفي الندوة التي اقيمت في نهاية البرنامج، عن الاغنية الشبابية، كان هناك شبه اجماع على ان الاغنية تقوّم بنجاح مكوناتها الاساسية من كلمة ولحن واداء، وليس بهذا التصنيف التعسفي شبابية وغير شبابية. فهناك من عمالقة الغناء العربي من قدم الاغنية الخفيفة الى ألوان اخرى، ومنها ما يستهوي جيل الشباب. اما ان نكتفي بهذا اللون، فهي كارثة. وثمة من الجيل الجديد مطربون قدموا ألواناً من الغناء تلائم الاذواق كلها، فماذا نقول عن أصالة وأنغام وكاظم الساهر ومحمد الحلو وعلي الحجار وصابر الرباعي وعبدالمجيد عبدالله. هل نحسبهم على الاغنية الشبابية؟ انا اعتقد ان هؤلاء ساروا على خطى العمالقة من اسلافهم، وقدموا تنويعات لا يستهان بها.. اضافة الى قدراتهم الصوتية التي لا تعجز عن اداء اي لون غنائي". وفي سياق الحديث عن حلب وما اشتهرت به من قدودها، تحدث طافش عن كون هذا اللون من الغناء متوارثاً من تراثات عدة، منها الحلبي والسوري بلاد الشام وحتى العراقي والمصري. والقدود في اصلها اغنيات تراثية شعبية توارثتها الاجيال وشذبتها اضافة وحذفاً، وكانت حلب هي الأم التي احتضنت هذا اللون وطوّرته، ولم تكن الأم التي ولدته. وهي لها فضل الاحتضان والرعاية، وهذا يكفيها. أما كلمة قد، فهي مأخوذة من الكلمة قد = تساوي، لأن القدود تكتب على قد اغاني وألحان سابقة، مع تغيير في الكلمات فقط، بينما الهيكل اللحني يبقى واحداً. فكثير من الاغنيات الدينية والاذكار الصوفية كتب على قدّها اغان غزلية، والعكس صحيح. فالاغنية الشهيرة "أنا وحبيبي في جنينة" مبنية على "يا رسول الله يا سندي" وهما من مقام الرصد. ولشرح الموضوع يتطلب دراسات واسعة. وعن آخر مشاريعه في مجال الاغنية، قال الاستاذ يوسف طافش انه كتب قصيدتين لماجدة الرومي، وما زال ينتظر قرارها بعد ان ابدت اعجابها بهما. هذا بعد ما قاله يوسف طافش ولديه ايضاً الكثير من الكلامالذي لم يقله.