شهدت سوق العقار في بريطانيا على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة موجة ارتفاع اتسعت معها ابتسامة مديري صناديق الاستثمار وأصحاب العقارات. الا أن مضاعفات الأزمة الآسيوية التي بشرت بركود اقتصادي عالمي جعل الكثيرين يترددون في النصف الثاني من السنة الجارية في اتخاذ قرارات استثمارية كبيرة في العقارات البريطانية التي نمت بنسبة تزيد على 25 في المئة خلال ثلاثة أعوام. والسؤال الذي يدور في اذهان هؤلاء هو: هل تعود السوق الى أزمة الركود التي بدأت عام 89 ولم تنته الا في عام95؟ ويقول الخبراء للذين ينتظرون هبوط الأسعار ان انتظارهم قد يطول كثيراً، وربما ليست لديهم أية فرصة للشراء الرخيص على المدى المنظور. "الحياة" التقت دافيد أوين المحلل الاستثماري العقاري في شعبة الدراسات التابعة لمصرف "ديريزنر كلينورث بنسون" في لندن الذي يعتقد أن العقارات البريطانية لم ترتفع بعد انسجاما مع ارتفاع فائض المداخيل المحلية التي تتحكم أولاً بالسوق. وأن أمامها خمس سنين لكي تلحق بمستوى الصعود الذي حققته الأجور. وقال: "نتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي في بريطانيا خلال المرحلة المقبلة، لكن السوق العقارية تبدو بمنأى نسبي عن حركة الاقتصاد العامة لأسباب عدة: أهمها أن الأسعار لا تزال ادنى بكثير مما كانت عليه في أوقات ذروة الصعود على مدى الخمسين عاماً الماضية عند مقارنتها بأضعاف فائض الدخل السنوي الشخصي". خمسون عاماً تشير الدراسة التاريخية التي اعدها أوين عن سوق العقارات البريطانية الى أن قيمة المساكن ارتفعت في عام 48 الى 10.6 ضعف فائض الدخل السنوي الشخصي للبريطاني من 8.1 ضعف في عام 46. الا أن الأزمات التي مرت بها بريطانيا في حقبة الخمسينات، لا سيما في مصر عندما خسرت قناة السويس، وفقدانها للمستعمرات جعل النسبة تهبط الى قعر قياسي بلغ 5.9 ضعف في عام 59. لتعود في الستينات وترتفع بشكل مستقر نسبياً ووصلت الى 9.7 ضعف في عام 73. وجاءت بعدها مرحلة تصحيح سعر برميل النفط عقب حرب عام 73 في الشرق الأوسط، وهبطت معها النسبة على مدى السنوات اللاحقة الى 6.9 ضعف في عام 78. لكن مع النمو الاقتصادي الذي شهدته بريطانيا في الثمانينات قفزت النسبة الى 10.2 ضعف في عام 89 قبل الدخول في ركود استمر زهاء ستة أعوام. وفي عام 96، عندما قفزت اسعار العقارات البريطانية بقوة، لم يتعد فائض الدخل السنوي الى قيمة العقارات نسبة 6.9 ضعف. وهي نسبة ضئيلة للغاية تزيد قليلاً على نصف المستوى الذي بلغته في عامي 48 و89. وبناء على هذه البيانات الأساسية يعتقد محللو السوق أن العقارات البريطانية مقبلة على ارتفاع يتبع الأجور خلال السنوات الخمس المقبلة. وتصل النسبة الفعلية حسب تقديره الى عشرة في المئة سنوياً. وعزا الأسباب الى أن العقارات البريطانية لا تزال في متناول دخل المواطنين من حيث نسبتها الى الأجور، أو من حيث العائد التأجيري عليها. كما أن بريطانيا التي تستعد للانضمام الى نظام العملة الأوروبية الموحدة اليورو في عام 2002 مضطرة لأن تخفض مستوى الفائدة على الجنيه الاسترليني الى مستويات أقل بكثير مما هي عليه حالياً، ومع هذا الخفض ترتفع نسبة فائض الدخل لدى البريطانيين مقارنة مع أسعار العقارات حالياً. الديموغرافيا لا تبدو الصورة المستقبلية لسوق العقار مبشرة من كافة النواحي. فالطفرة في الاسعار التي عرفت في الثمانينات ترافقت مع تطورات ديموغرافية مساعدة. أهمها أن نسبة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عاماً كانت ترتفع قياساً بمجموع عدد السكان. وتتميز هذه الفئة بأنها تمد السوق بالمشترين الجدد. أي المستثمرين الذين ليسوا مضطرين لبيع مساكن قديمة والانتقال الى مساكن جديدة. والاحصاءات الجديدة تدل على أن قوة الدفع هذه تتضاءل، وبالتالي من غير المتوقع أن تشهد طفرة التسعينات مستوى النمو الذي عرفته في الثمانينات. والأمر السلبي الثاني هو أن نمط التوظيف في بريطانيا مختلف من الناحية البنيوية عما كان عليه في الثمانينات. عندها كانت الوظائف المستقرة في القطاعات الانتاجية طاغية. فيما يطغى حالياً نمط الوظائف المؤقتة. ومن مساوئها أنها تضعف الطلب على الاستثمار العقاري على المدى الطويل. اذ لا تمنح المصارف التجارية وبنوك الاسكان قروضاً طويلة الأجل بناء على مداخيل شخصية، دوامها غير مأمون. ويذكّر التاريخ الحديث بالمشاكل التي عرفتها المصارف من تراجع هائل في قيمة العقارات المرهونة على قروض، في بريطانيا فضلاً عن سائر الدول الصناعية الرئيسية. ولا تزال أزمة الديون العقارية اليابانية على سبيل المثال تبحث عن حل على الرغم من انقضاء عشرة أعوام على بدايتها. وأدت الديون المستعصية التحصيل، بسبب تدني قيمة العقارات من الناحيتين الاسمية والحقيقية، الى لجوء الحكومة في طوكيو الى عملية قيصرية في معالجة وضع "لونغ تيرم كريديت بنك أوف جابان" وهو المصرف الذي يعود له الفضل في تمويل الطفرة الصناعية اليابانية على مر عقود. فبعد أن تشبعت القطاعات الصناعية في الثمانينات، اتجه المصرف الى تمويل المضاربات العقارية. وعلى اثر انهيار سوق العقارات اليابانية تداعى النظام المصرفي الياباني بأسره. ولا تزال اليابان الى يومنا هذا تبحث عن حلول للخروج من أشد مرحلة ركود عرفتها منذ الحرب العالمية الثانية، وتأتي القروض العقارية على رأس مسبباتها. في بريطانيا لم تصل أزمة الديون العقارية المستعصية الى المستوى الذي عرفته اليابان نظراً لعودة الانتعاش الى الاقتصاد البريطاني في وقت أقصر نسبياً. إلا أن المصارف البريطانية عرفت مرحلة طويلة من مراحل ابتلاع العقارات التي اضطرت الى الحجز عليها وبيعها بالمزاد بأسعار بخسة بسبب فشل أصحابها في دفع خدمة ديونها. وبلغت تلك المرحلة ذروتها في أوائل التسعينات عندما كان عدد المساكن التي تخضع للحجز والبيع يحصى بالآلاف أسبوعيا. غير أن الوضع مختلف الى حد بعيد اليوم عما كان عليه في الثمانينات، مع الأخذ بعين الاعتبار عنصر غياب الاستقرار الوظيفي. وأهم أوجه الاختلاف هو أن سعر الفائدة في أواخر الثمانينات راوح بين 11 و15.5 في المئة. وكانت نسبة التخضم أو الغلاء تزيد آنذاك على عشرة في المئة. ونتيجة للتجربة المريرة السابقة التي تعلم أصحاب العقارات منها، تغيرت تركيبة القروض العقارية في بريطانيا في السنوات الأخيرة بطريقة تبعث على المزيد من الثقة باستقرار السوق. أهمها أن معظم القروض كانت في الثمانينات مرتكزة على سعر الفائدة المتحرك. ولقد أدت تلك التركيبة الى تقلب الدفعات الشهرية بحدة من شهر الى آخر، وبالتالي تضعضعت قدرات الكثيرين على الدفع مع كل ارتفاع في سعر فائدة الأساس يقرها بنك انكلترا المركزي. أما اليوم فأسعار الفائدة منخفضة كثيرا بالنسبة للمشترين الجدد، والتي تقل في الكثير من الحالات عن السبعة في المئة. وهناك عروض فائدة على المدى الطويل بين خمس وعشر سنوات تقل عن تسعة في المئة. أما سعر الفائدة المتحرك فيقل حاليا عن تسعة في المئة، مع ترجيح أن يخفض بنك انكلترا المركزي سعر الفائدة في المستقبل القريب خشية الدخول في مرحلة ركود اقتصادي بدأت في الخارج. ومن المتوقع أن تلجأ الحكومة البريطانية الى اتخاذ خطوات ترمي الى تشجيع اختيار القروض ذات الفائدة الثابتة، ورفع نسبة المستدينين بهذه الطريقة الى المستويات الأوروبية البالغة في المانيا وفرنسا 85 في المئة من مستوى يصل في بريطانيا حاليا الى ثلاثة عشر في المئة. من ذلك عدم منح الاعفاء من الضريبة على فوائد القروض العقارية ميراس الا للذين يثبّتون الفائدة على قروضهم. واذا ما نجحت الاجراءات في ذلك، أو اذا ما جعلت بريطانيا الفائدة لديها من مستوى الفائدة على المارك الألماني، أو اليورو في وقت لاحق، تتضاعف احتمالات حدوث رواج كبير في سوق العقارات البريطانية حسب تقدير دافيد أوين. فالبنك المركزي الأوروبي لن يرفع الفائدة لمعالجة أي ارتفاع تضخمي في أسعار العقارات البريطانية وحدها، بل عندما يشعر أن هناك مخاطر تضخمية في أوروبا ككل. ولما كان العرض في سوق العقارات البريطانية في هذه المرحلة قليل، فإن الطلب سيبقى أعلى منه على المدى المنظور على الرغم من الأسباب الديموغرافية. للتأجير الى جانب العوامل النقدية الأساسية، هناك دوافع أخرى تجعل سوق العقارات في أواخر التسعينات مختلفة عما كانت عليه في العقود السابقة. ذلك أنه بفضل التدني في سعر الفائدة، وشحة المنازل المعروضة للإيجار، باتت العوائد التأجيرية على العقارات مرتفعة بالنسبة للمستثمرين. فالعقار الذي تبلغ قيمته الحالية مئة الف جنيه استرليني في إحدى ضواحي لندن مثلاً، تقل المدفوعات الشهرية الاجمالية المتوجبة عليه عن 650 جنيه استرليني من فوائد وتأمين. بينما قيمته التأجيرية الشهرية غالبا ما تتاجوز 900 جنيه استرليني. إزاء هذا الفارق، أخذت المصارف تقرض المستثمرين لتمويل عقارات مخصصة لسوق التأجير. وهو وضع كان صعب التحقيق للغاية في الثمانينات. اذ اقتصرت القروض على الأشخاص الذين يمتلكون مسكناً واحداً فقط ويقطنونه شخصياً لمدة لا تقل عن خمس سنوات قبل أن يسمح لهم بتأجيره. لذا برز الطلب على قروض عقارية لمساكن ثانية يتم تمويلها من عائداتها التأجيرية. مخاطر محتملة تشير الدروس التاريخية الى أن قيمة العقارات كانت تنخفض بعد عامين من تقلص فائض دخل المواطنين عقب بلوغ ذروة صعوده. ففي عام 72 بلغ الفائض حده الأقصى، أي قبل عام من بلوغ أسعار البيوت حدها الأقصى. وهبط الفائض الحقيقي في دخل الفرد بحدّة في عام 74، ليضعف بذلك سوق العقارات. لكن لم يرتفع معدل الفائدة على القروض الا بعد أن انخفض فائض الدخل. وعلى إثره، انخفضت اسعار المنازل على مدى اربع سنوات متتالية. بل ان نسبة أسعار المساكن الى فائض مداخيل الأفراد تراجعت الى مستويات لم تعهدها منذ وقت بعيد، ولم تعد السوق الى الارتفاع الا بعد عام 78، عندما استأنف فائض المداخيل صعوده. وتكررت التجربة نفسها في أوائل الثمانينات عندما ارتفعت السوق العقارية في عام 83 عقب ارتفاع في فائض المداخيل. وفي عام 89 أخذ فائض الدخل يتراجع لا سيما بعد أن ألغت الحكومة في عام 88 قانون منح الزوجين الحق نفسه في الاعفاء من الضريبة على أول ثلاثين ألف جنيه استرليني من القرض العقاري. ويعتقد أوين أن الوضع مختلف في الانتعاش الأخير عما كان عليه في الماضي من نواح عدة. أهمها أن معدل نمو المداخيل، ومن ثم فوائضها، هو اليوم أقل بكثير مما حدث في السبعينات والثمانينات. كما أن غياب التضخم من النمو الاقتصادي الحالي، وهو وضع فريد من نوعه في التاريخ الحديث، حال دون رفع الأجور في شكل موازٍ لنمو عجلة الاقتصاد. ناهيك عن أن أضعاف فائض المداخيل بالنسبة لقيمة العقار لا تزال متدنية تاريخياً. ونتيجة لهذا النمو الصحي حسب المعايير الاقتصادية تكون أسعار المنازل ارتفعت بنسبة عشرة في المئة فقط من حيث القيمة الحقيقية، أي بعد طرح التضخم خلال السنوات الماضية. بينما ارتفعت من حيث القيمة الاسمية بمعدل يقارب 26 في المئة. وبقيت الأسعار أدنى من مستواها في عام 89، بل أدنى من عام 48 .