وصل التركيز على عملية السلام بين الدول العربية واسرائيل في بعض الاوساط الدولية والعربية الى درجة المساواة بينها وبين السلام الاقليمي. استطراداً، تحولت الانتقادات الموجهة الى الاتفاقات الثنائية العربية - الاسرائيلية مثل اتفاق اوسلو او وادي عربة او واي ريفر، الى انتقادات للسلام عموماً، والى حض على سلوك طريق الشقاق والنزاع والحروب الاقليمية. هذا الموقف من عملية السلام ينطوي على نظرة تفترض بأن كل صراع في المنطقة ينبع ويصب في الصراع العربي - الاسرائيلي، وبأنه لولا هذا الصراع الاخير لما كانت هناك صراعات في المنطقة. فهل يؤيد واقع أو تاريخ العلاقات الاقليمية هذه النظرة؟ المساعي التي يقوم بها كوفي انان، الأمين العام لهيئة الأممالمتحدة من اجل التعجيل في حل مشكلة الصحراء الغربية، تذكر بخطأ هذه النظرة وبخطأ ما يترتب عنها من استنتاجات ومواقف. فقضية الصحراء العربية لا علاقة لها بالصراع العربي - الاسرائيلي. انها قضية عالقة، اساساً، بين طرفين عربيين: هما الجزائر والمغرب. وهذا النزاع ليس غريباً عن العلاقات الدولية ولا عن العلاقات العربية - العربية. الصراعات العربية - العربية نشأت قبل ان يقام الكيان العبري على أرض فلسطين وهي مستمرة حتى اليوم. البعض من هذه النزاعات اتصل بالصراع العربي - الاسرائيلي مثل النزاع الذي نشب بين الدول العربية بعد حرب 1948، او بين الرئيس المصري انور السادات وبقية الدول العربية بعد توقيعه اتفاق كامب ديفيد. ولكن هذه الصراعات تغذت احياناً من اعتبارات اخرى غير الصراع العربي - الاسرائيلي مثل التنافس، في الاربعينات، بين العائلتين المالكتين في مصر والعراق على النفوذ في منطقة المشرق العربي. الى جانب الصراع العربي - الاسرائيلي هناك صراعات اخرى عربية - عربية لا تتصل مباشرة بالشأن الاسرائيلي. انها تعود الى اسباب حدودية وعقائدية وسياسية واقتصادية. هذه العوامل تؤثر على العلاقات العربية - العربية سواء وجدت اسرائيل ام لم توجد. وهذه العوامل لا تؤثر على مجموعة الدول العربية وحدها، بل انها تؤثر على نظام الدول بشكل عام. اوروبا التي تتأهب لاصدار العملة الواحدة بعد اسابيع قليلة، احتفلت قبل اسابيع بمرور ثمانين عاماً على الحرب العالمية الأولى التي اشعلتها صراعات حدودية وعقائدية وسياسية واقتصادية. دول المحيط الهادئ التي عقدت قمة آبك في مدينة كوالالمبور قبل اسابيع قليلة لكي تتابع تنفيذ خطة تحرير علاقاتها التجارية في عام 2020، خاضت حروباً مدمرة ضد بعضها البعض استخدمت فيها القنبلة الذرية. ودول اميركا الجنوبية التي تسير على خطى دول الاتحاد الأوروبي في اقامة سوقها المشتركة، كانت عرضة لحروب كثيرة منها حرب التحالف الثلاثي في نهاية القرن التاسع عشر عندما حاولت البرازيل الاستيلاء على اوروغواي وباراغواي. بالمقارنة بين تاريخ العلاقات بين الدول العربية، من جهة، وبين تاريخ العلاقات بين دول العالم بصورة عامة، او تاريخ العلاقات بين دول الاقاليم الاخرى الدولية التي تتشكل فيها تكتلات اقليمية كبرى، يمكن القول بأن الصراعات العربية - العربية على حدتها، لم تصل الى نفس الدرجة من العنف التي وصلت اليها الصراعات الأوروبية - الأوروبية، او الباسيفيكية - الباسيفيكية، الخ... الدول العربية استخدمت العنف ضد بعضها البعض، الا انه اقتصر في اغلب الاحيان، على تصدير وشحذ الفتن الداخلية في البلد الآخر، وهي "السلاح الشائع في تسوية المنازعات الداخلية بالطرق غير الودية"، كما يقول الدكتور بطرس بطرس غالي في كتابه "الجامعة العربية وتسوية المنازعات المحلية". في بعض الاحيان وصلت التوترات بين الدول العربية الى مستوى الانفجار كما حصل بين المغرب والجزائر عام 1963 وبين العراقوالكويت عام 1990. فصول العنف في العلاقات العربية تسببت في اضرار كبرى بشرية واقتصادية وسياسية وهي غير مقبولة اخلاقياً، الا انها لا تقارن بالعنف بين الدول الأوروبية الذي ادى الى حربين عالميتين، او بين الدول الباسيفيكية الذي ادى الى محو مدن باسيفيكية - يابانية بأكملها خلال لحظات. كيف نفسر هذه الظاهرة؟ هناك تفسيرات كثيرة لهذه الظاهرة. الدكتور غالي يردها الى "اتساع رقعة الوطن العربي... والى تنوع تربته وعدم وجود طرق للمواصلات تربط بين اجزائه المترامية". كتاب ومفكرون آخرون يعتقدون ان الدول العربية لم تصل الى مستوى من التطور الذي يؤهلها لخوض الحروب الشاملة، اي التي تستهدف تدمير الآخر تدميراً كاملاً واحتلال اراضيه والقضاء على نظمه وعقائده السياسية كما حدث في دول الغرب. قد تكون هذه العوامل من اسباب بقاء التوترات العربية - العربية على مستوى متدن نسبياً، ولكنها ليست كافية لتفسير عدم قيام حروب عربية - عربية في مستوى الحروب في أوروبا وأميركا اللاتينية وحوض الباسيفيك، او في مستوى حرب الهند وباكستان، وكلتاهما من دول العالم الثالث النامية. الوطن العربي واسع والدول العربية غير متقدمة كفاية ولكن مع ذلك هذا لم يمنع العراق من ارسال جيشه لاحتلال الكويت. فلماذا كان هذا الفصل استثناء في تاريخ العلاقات العربية - العربية؟ لماذا لم يتكرر بنفس الوتيرة التي تكررت الحروب فيها في اقاليم اخرى من العالم؟ هناك اسباب اخرى ينبغي تقصيها من اجل فهم ظاهرة انخفاض مستوى المواجهات العسكرية بين الدول العربية. من الاسباب المهمة التي ساعدت على ضبط التوترات العربية - العربية وعلى ابقائها في حدود متدنية، هي وجود الرابطة العربية التي تبلورت في مجموعة من الافكار والتوقعات السائدة في المجتمعات العربية وفي اوساط الرأي العام العربي. ومن اهم تلك الافكار التي اثرت على اصحاب القرار العرب، تلك التي تقول بأنه "لا يجوز الالتجاء الى القوة لفض النزاعات بين دولتين او اكثر من دول الجامعة العربية"، كما جاء في ميثاق جامعة الدول العربية. وكانت هذه الفكرة وما يتأسس عليها من انماط في السلوك والتعامل، واحدة من الافكار العميقة التأثير في الرأي العام العربي، ومن الأسس التي قام عليها النظام الاقليمي العربي، والتي انشئت من اجلها جامعة الدول العربية. المناقشات التي سبقت تأسيس الجامعة تدل على مدى الجدية التي احيطت بها هذه الفكرة. ولقد كان رأي اكثرية الدول المؤسسة للجامعة آنذاك انه يجب تعزيز هذه المؤسسة لكي تضطلع بدور فاعل لحل واحتواء الخلافات العربية - العربية، وكاد هذا الاتجاه ان ينجح لولا المعارضة الشديدة التي صدرت عن مندوب لبنان وزير خارجيته آنذاك هنري فرعون، الذي اصرّ على تقييد دور الجامعة على هذا الصعيد. بيد انه على الرغم من ذلك، فقد كان لوجود النظام الاقليمي العربي ولما قام عليه من افكار ومبادئ اثر مهم في لجم النزاعات العربية - العربية، كما يلاحظ الدكتور مفيد شهاب في كتابه "جامعة الدول العربية: ميثاقها وانجازاتها"، وفي اقامة نوع من السلام العربي - العربي. هذا السلام العربي - العربي لم يصل الى مستوى كاف من التطور والتجذر لكي يصبح ضمانة من ضمانات الاستقرار والأمن في المنطقة. ان اسلوب تصدير الفتن من بلد الى آخر يهدده ويعطل مفعوله. القادة المغاربة يعتبرون قيام حركة بوليساريو ونشاطها العسكري ضرباً من ضروب تصدير الفتن. قادة الجزائر يردون على هذا الاتهام بقولهم ان السلطات المغربية تقدم دعماً الى الجماعات الاسلامية المسلحة. اذا صحت هذه الاتهامات فانها تقدم دليلاً ملموساً على الضرر الكبير الذي يسببه اسلوب تصدير الفتن. فضلاً عن ذلك فان السلام العربي - العربي ليس قدراً محتوماً، ولا هو وضع غير قابل للاختراق. فاذا نجحت الدول العربية في الماضي في تفادي الحروب المدمرة على الطريقة الأوروبية، فانها قد تصبح في المستقبل ارضاً لمثل هذه الحروب. فما هو موقف الاطراف المعنية بقضية الشرق الأوسط وبالصراع العربي - الاسرائيلي من هذه الاحتمالات؟ ما هو موقفها من مسألة السلام بين الدول العربية؟ هناك اتجاهان رئيسيان تجاه هذه المسألة: الاتجاه الأول، هو الذي يشدد على التضامن والتعاون بين الدول العربية، وعلى تقوية الرابطة العربية التي تجمع بينها. بعض الذين يشددون على هذا الاتجاه يعتبرونه حجر اساس في استمرار وتطوير وتنمية السلام العربي - العربي، مثلما كانت تنمية الروابط وصلات التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي وميركوسور وآسيان وغيرها من التكتلات الاقليمية في العالم ضمانة من ضمانات استتباب السلام بين دولها. الاتجاه الثاني، هو الذي يعطي الأولوية المطلقة الى تسوية العلاقات الثنائية مع اسرائيل ويستعجل التطبيع معها. اصحاب هذا الاتجاه يلخصون عادة السلام الاقليمي بأنه سلام الدول العربية مع اسرائيل. اما السلام العربي - العربي، فانهم لا يعبأون به كثيراً، وهم على الارجح لا يرتاحون الى فكرة الرابطة العربية التي ينهض عليها هذا السلام. انهم، في كثير من الاحيان، ومن اجل توفير سلام اقليمي يتماشى مع مصالح اسرائيل وسياساتها، يشجعون الانشقاق بين الدول العربية ويحضون على وقوع صراعات اقليمية تستنزف الطاقات العربية ما دام هذا الاستنزاف يفيد اسرائيل ويعزز تفوقها على دول الجوار. بتعبير آخر، فان متبني هذا الاتجاه لا يهمهم امن المنطقة وسلامها بمقدار ما يهمهم امن اسرائيل، فاذا حدث تضارب بين الاثنين - وكثيراً ما يحدث مثل هذا التضارب - فانهم مع الثاني وضد الأول. * كاتب وباحث لبناني.