أورد المترجم جيورج برونولد الذي نقل "الخبز الحافي" ومختارات من قصص محمد شكري الى اللغة الالمانية، في معرض حديثه عن الكاتب المغربي، عبارة لخورخي لويس بورخيس تقول ان القراءة هي النشاط الفعال الذي يسمح للكتابة بالدخول من بوابته. وقد لا تنطبق هذه العبارة البالغة الدلالة على اي كاتب عربي آخر بقدر انطباقها الحرفي على محمد شكري. ولعل افضل ما في عمل شكري الذي حظي بشهرة واسعة في الغرب خلال الاعوام الاخيرة هو قراءاته واحالاته الكثيرة الى تلك القراءات في نصوصه، بما فيها الادبية. وهو من الكتّاب النادرين الذين صنعتهم القراءة بالدرجة الاولى، بل حتى موهبته الفطرية، او المكتسبة، ما كان لها ان تنضج على ذلك النحو او تتفتح لولا القراءة التي لم تترك كاتباً او شاعراً غربياً من المنتمين الى الحداثة، او الى ما قبلها، الا وتعرفت على بعض ملامحه الاسلوبية وتقنياته. وهؤلاء الكتّاب هم العدة التي لا بد من التسلح بها قبل الدخول في حومة الادب لا سيما اذا ما اراد الكاتب العودة بشكل غير رسمي الى مرجعياتهم وعوالمهم وقرّائهم، مثلما الحال مع شكري. وتشمل قائمة قراءاته اسماء كتّاب من امثال ستندال وهوغو وبودلير ورامبو ومالرميه وسارتر وكامو وجان جنيه وشكسبير وجويس وهمنغواي وبيكت ودوس باسوس ووليامس وكيرواك وبوولز وبوروز ودوستيوفسكي وتشيخوف وغوركي وغوته وهولدرلين ونيتشه وكافافيس وبورخيس وماركيز1، بينما تتضمن المرجعية نصوص الجاحظ وكتاب الاغاني والحماسة واشعار المتنبي والمعرّي وابي نواس والسياب وسعدي يوسف2. الا ان كتابات شكري لا تمثل بالضرورة المحصلة الاجمالية لهؤلاء الكتّاب وعلى النحو الآلي، بل تمثّل القراءة الحرّة والواعية لأعمالهم، وربما انعكاساتهم اللاواعية نظراً الى ذاتية النشاط الابداعي في نصوصه الادبية. واعتقد بأن هذه الحقيقة هي التي أتاحت للقارئ الغربي التآلف مع عالم شكري وفهم تداعياته وظلاله الداخلية. غير ان هذا العالم يمكن اختصاره نوعاً ما الى خمسة موضوعات اساسية وهي: الفقر والتسكع والسكر والسخرية السوداء والصداقات المضطربة والزائفة. واذا ما القينا نظرة قصيرة على الموضوعات الاربعة الاخيرة فسنجد انها متعلقة اولاً واخيراً بموضوعة الفقر المركزية التي يبدو ان معينها، عند الكتّاب العرب، لم ينضب بعد على رغم ان مصطفى المنفلوطي ونجيب محفوظ وحنا مينة وعبدالرحمن منيف وخيري شلبي وصنع الله ابراهيم استنفدوا خزينها "جمالياً". لكن هل سيجد القارئ الغربي في تلك الموضوعة المعالجة عربياً ما يشبع رغبته على الاقل في فهم العالم الداخلي للعرب وادراك آلياته الاجتماعية؟ لا شك في ان هذا القارئ العتيد اصيب بالتخمة من كثرة ما قيل وكتب عن الفقر واسبابه السياسية والاقتصادية، ذلك المرض البشري القديم والعصي على العلاج منذ زمن آدم. وعرف القارئ الغربي، وربما العربي ايضاً، ان جميع المنظمات الانسانية، الكنسية منها والعلمانية، باتت عاجزة عن وضع حدّ لجوع العالم وبؤسه وتعاسته. ولا اظن بأن من الصواب وضع جدول بالموضوعات الانسانية الصالحة للمعالجة، اذ ان اي موضوع يخطر في ذهن الكاتب، بما فيه الفقر، يصلح في كل زمن وفي كل مجتمع للمعالجة الادبية، على شرط ان تتم هذه المعالجة عبر الادوات الجمالية والتقنيات الفنية التي يتطلبها العمل الادبي، ولس عبر الاتكاء على الرفض الغريزي لظاهرة الفقر من قبل الناس كلهم تقريباً والتعاطف الضمني مع ضحايها، لأن الكتابة بهذا المعنى ستثير الشفقة وحدها وستزيد لا محالة من بؤس العالم وفقره. في كتابه "بول بوولز وعزلة طنجة" يستشهد محمد شكري بعبارة للشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي جاءت ربما بمثابة نصيحة للكتّاب العرب: "كوّن لنفسك شهرة ثم مثّل في ذهن القارئ"، ويعلّق شكري على هذه النصيحة بالقول "انني كنت اريد ان أمثّل" 3. وفعلاً نجح شكري في تحقيق شهرة عالمية، ومن ثمة عربية، من خلال كتابه الاول "الخبز الحافي" الذي كان أملاه بالاسبانية على الكاتب الاميركي بوولز الذي أعاد صياغته بالانكليزية اكثر من مرة ونقّحه قبل ان "يضربه نهائياً على الراقنة"4 وكذلك من خلال تسجيل ملاحظاته وانطباعاته عن مشاهير الكتّاب الغربيين الذي زاروا مدينة طنجة او اقاموا فيها. ومنذ ذلك الوقت اصبح شكري يثير الاهتمام، او على الاقل الفضول، في كل ما يكتب، بغض النظر عن الالتزام بالاساليب والمقومات الفنية والجمالية او عدمه. ولعل ذلك، بحسب اعتقادي، هو الدافع الاساسي الذي جعل الكاتبة والمترجمة السورية منى نجّار تقدم على نقل رواية شكري "السوق الداخلي" الى اللغة الالمانية، وهي الرواية التي نشرت بالعربية للمرة الاولى في العام 1985، والرواية الثانية التي ترجمت الى اللغة الالمانية بعد "الخبز الحافي" وبضع قصص مختارة نشرت كلها في مجلد واحد في العام 1986. لكن، وان كانت رواية "السوق الداخلي" تخلو من وحدة الحدث او الموضوع، وكذلك من وضوح الشخصيات، مقتربةً من اسلوب الانطباعات السريعة او البرقية، وتفتقر نوعاً ما الى حساسية التعامل مع المكان التي لمسناها في "الخبز الحافي" حتى وان استخدمت اسماء الاماكن واللغة ذاتها: "حككت بأصابعي صدري. تشكلت فتائل من الوسخ تحت اصابعي، أكره رائحة جسدي في هذا الزحام. الاشياء تبدو لي مقلوبة ضبابية، الفتيان يتدافعون عمداً لافظين كلمات جنسية" ص11… فإنها، على رغم ذلك كله، تحتفظ بشيء من حيوية الاحساس والقلق الانساني والنقد المكشوف لمظاهر مجتمع شرقي يوحي تصرفه وكأنه قائم على السليقة واللامبالاة. حتى لو جاء نمط السرد برقياً قصير العبارة، وغير مترابط المعنى ظاهرياً، الا انه كان يشكل في آخر المطاف وحدة تصويرية تحيط بالموضوع المروي من خلال بؤر سردية ساطعة المعنى، من شأنها، في حالة الاسراع من وتيرة الجمل الفعلية التلقائية الايقاع، ان تؤدي الى نوع من الانكسار الشفاف عبر المفاجأة والصدمة المباغتة، وهو اسلوب يذكّر بكتابات أرنست همنغواي وباشيفيس سنغر وترمان كابوت وجي دي سلنجر وغيرهم من الكتّاب الاميركيين. ويبدو ان محمد شكري كان منتبهاً تماماً لضرورة الامساك بخيط السخرية الذي يجعل من الواقع المغربي الشديد التعقيد ليس فقط محتملاً، بل مفهوماً ايضاً. اذ ان السخرية، ولا سيما السوداوية منها، هي الأداة الصالحة ابداً لتعرية الواقع الاجتماعي وكشف تناقضاته التي لا تفصح عنها عادة بوضوح كاف. واعتقد بأن هذه هي الشفرة السرية الموجهة الى القارئ الغربي الذي لا يكتفي بالتصوير والسرد العاديين، انما يبحث في الوقت ذاته عن الاثارة والمفاجأة والصدمة النفسية: "كانت هناك عجوز بائسة تستريح مستندة الى صخرة حاملة على ظهرها رزمة حطب كبيرة، تأملتني بملامح مكدودة وأنا أمرّ امامها. فكّرت ان اشتريها منها وتتركها هناك لأريحها من تعب حملها، على الاقل في هذا اليوم، وبيعها في احد الافران في المدينة. غير ممكن. ان نقودي محدودة. العطاء بهذا الشكل لا نهاية له في هذا الوطن. قد تحملها حتى وان دفعت لها ثمنها بعد ان اختفى"! ومما لا شك فيه ان واحدة من اهم الصفات التي يتحلى بها عمل شكري الادبي، والتي تغري بترجمته الى لغة اجنبية، هي روح الاحتجاج العنيد الذي حفلت به نصوصه القصصية والروائية او البيوغرافية وتحديه للأعراف والتقاليد المتناقضة الراسخة في ذهنية المجتمع العربي - الشرقي، وكذلك تمرده على كل ما هو محرّم ومحظور اجتماعياً واخلاقياً ودينياً. 1 - راجع: "محمد شكري الشحرور الابيض" بيروت 1998. 2 - انظر مقالة المهدي أخريف في "نزوى" تشرين الاول 1998. 3 - بول بوولز وعزلة طنجة، ص 42. 4 - المصدر ذاته، ص 45.