قراءة هذا الحوار الذي يُفرق بين الاعجاب والتأثير وبين الاستذة الفارغة، تحمل على تذكر كتاب آخر كان بمثابة انجيل عشاق السينما في كل مكان في العالم: "السينما في رأي هيتشكوك" للمخرج السينمائي الفرنسي فرانسوا تروفو، الذي قرأناه قبل سنوات طويلة أكثر من مرة بالألمانية ضمن حلقاتنا الدراسية في جامعة هامبورغ، وكأننا نرجع كل مرة من جديد إلى شريط يصدح به الصوت ذاته الذي سمعه فرانسوا تروفو، وبالطريقة ذاتها التي أصغى بها إليه، وأقصد بالعبادة ذاتها التي تظاهر بها. مرّ زمن طويل على ذلك، حتى فتره الحماس غير المشروط تجاه هيتشكوك، وبالنسبة إلى فرانسوا تروفو يبدو أن الزمن محاه بسرعة، وتقريباً محى كل السينما الفرنسية، باستثناء الوحيد المُصر على ممارسة الخطأ: أريك رومير، بأفلامه البطيئة الطبيعية والنقاشات الطويلة لبطلاته عن الأكل النباتي والأزمات العاطفية، تلك الأفلام التي لا تزال تُعرض لساعات طويلة في قبور صالات مختارة جداً أمام جمهور "مثقف". وبالنسبة إلى ويلز وهيتشكوك فإن ما يميزهما ببساطة عن الآخرين هو امتلاكهما كل ما يميز العباقرة، السينما التي ولدت في نوادي السينما الرفيعة، تحفظ لهم هذا الميل المؤطر بالقدسية والمبدئية، وبين الأعمال المتقنة بإحكام يبرز أمامنا دائماً على الأقل، ففيلم "المواطن كّن" لويلز، وفيلم "سيكولوجيا" لهيتشكوك، لكن هذه القدسية الثقافية للمخرجين تحتوي بين طياتها على اختلاف راديكالي بينهما: صحيح ان للاثنين موهبتين عملاقتين في السينما، لكن هيتشكوك كان موهبة منتصرة، ووليز كان موهبة فاشلة! هيتشكوك كان ينتج أفلامه ويحسب التكاليف والأرباح بالمكر نفسه الذي يتنبأ به وبدرجة تأثير مشهد يُخرجه على مزاج المشاهد: العقل السحري كان أيضاً محاسب مشاعر وصندوق شكوك، وهذا ما قاله لتروفو انه في فيلم "سيكولوجيا" أدار مخزون مشاعر الجمهور كأنه يضرب مفاتيح البيانو. الحوارات تتقاطع في الكتابين، فأتذكر كلمات أخرى لويلز "هناك حساب بارد في عمل هيتشكوك يُبعدني عنه". أورسون ويلز يشكر بيتر بوغدانوفيتش لاعجابه به، لكن لا يبدو أنه يعتقد في قرارة نفسه بشرعيته، لأنه رجل يعيش شيخوخته التي خنقها وأنهاها فاشله في الولاياتالمتحدة. صحيح ان تبجيل بعض المثقفين الأوروبيين له، وكتابة دراسات عن الابتكارات التكتيكية التي جلبها إلى السينما، هي أفعال توقظ فيه شيئاً من الامتنان، لكنها توقظ فيه أيضاً الكثير من عدم الاكتراث، فهو ليس عنده رياء الادعياء ليقول إنه لا يهمه ذلك الذي لم يحصل عليه، مثل الفنانين "الخردة" الذين يستنكرون بامتعاض شعبية لم يحصلوا عليها. ويلز ملك وبطل نوادي السينما وقصص السينما، هو مثل "منبوذ" مطرود في صحراء أوروبا، أمر حمله على تصوير أحد أفلامه في قرية جينجون الاسبانية بمساعدة الناس البسطاء بعيداً عن كواليس السينما الباهظة التكاليف، ويحصل على قوته بمشاركته في أفلام مفرطة القرف - كما يقول هو - وبظهوره في إعلانات الدعاية في التلفزيون، قضى حياته يتمنى مصيراً مثل مصير هيتشكوك، ونجاحاً تجارياً غير مشكوك به، بأن يكون على علو برج بابل المبني من الجشع في هوليوود - بعد فشلين أو ثلاثة أمام شباك التذاكر - أبعد عن استوديوهاتها مثل مريض ينقل العدوى. ويلز لم يتوصل أبداً إلى ما يعجب الجمهور، عكس هيتشكوك الذي تكهن بالأمر بقناعة، إذ عرف ردود الأفعال على الرعب أمام مباغتة سكين أو مباغتة ضربة مفاجئة لوتر آلة موسيقية، وامتلك إلى جانب ملكة غواية الجماهير، موهبة إضافية في الإبهار بواسطة تكنيكه الخاطف للنجاح. تروفو يحقق معه من دون تعب عن سر ذلك المخطط، عن حركة الكاميرا في مشهد سقوط على السلم، عن الحيل الخادعة في مشهد للغرق. ولكن في النهاية حوّل تروفو هيتشكوك إلى شخصية الساحر، حتى ان المرء - آنذاك - بعد قراءة كتابه، كان يصاب بعدوى تقديس شخصية المخرج السينمائي، والانحناء أمام عبقريته. أورسون ويلز في محادثاته مع بيتر بوغدانوفيتش، يتسلح بوسائل وقاية كثيرة ضد ذلك التأليه، ضد كل ذلك الافتراء الذي الصق بسينما المؤلف، ويعتقد بأنه قام بتخريب السينما كثيراً. اخراج فيلم - يقول - هو مثل مرآة أمام الطبيعة. فعندما يدير الفن ظهره للطبيعة ويبدو مختلفاً عما تفعله الروايات العظيمة واللوحات، عندما تنتهي الأفلام وتُفرغ، فإنها لا تفعل شيئاً آخر أكثر من اللهاث وراء الجشع. اتذكر بوضوح صورة الفنانين المنافقين المزيفين عندنا واتقانهم استعراضات من الافتعالات في شرح صعوبات ومعاناة مهنتهم، بل حتى الحديث عن أفلام مزعومة كما هي حال ذلك المخرج "العربي" الذي يروج منذ خمس سنوات لفيلم "ديني" يريد به استغلال مشاعر الناس وعفويتها كي يجمع الأموال لنفسه وليس لفيلم لم يكتب له سيناريو ولم يختر له ممثلين ولا يعرف أين سيصوره ومتى!!، هكذا يصل الأمر ببعضهم أحياناً إلى الضحك على الآخرين واحتقار المهن الأخرى، حريصون على استفزاز كل ما يوقظ السجود غير المشروط للاختصاصيين والمعجبين، ذلك ما لا يفعله السينمائيون والكتّاب والفنانون الكبار، يتحركون من دون حركات مفتعلة ولا يتحدثون إلا عما أنجزوه بالفعل ويتكلمون بنبرات بسيطة. في مقابلة قريبة للكاتب الاسباني المعروف خوان مارسيه، يقول الروائي إن الشيء الوحيد الذي يحتاجه لكتابة رواية هو قصة جيدة ورغبة بقصها. شيخ، مجبل، على مشارف نهاية حياته، أورسون ويلز يختصر لبيتر بوغدانوفيتش في حديث عن تكنيك السينما المبهم: "تقنية صناعة فيلم من الممكن تعليمها لأي شخص ذكي في اسبوع واحد". حوار أجراه بيتر بوغدانوفيتش مع أورسون ويلز وصدر في كتاب حديثاً.