بالنسبة الى تلك المشاريع السينمائية التي لم يقيّض لأصحابها أن يحققوها فصارت، كما قلنا في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، أفلاماً شبحية توجد آثارها وأطيافها في التاريخ أكثر مما توجد في الواقع، سبق أن اشرنا غير مرة الى أنها ربما تكون «أهم» ما في تاريخ أصحابها وأرشيفاتهم... وينطبق هذا القول بالتأكيد على الأعمال الثلاثة التي سبق أن تناولناها تباعاً، من «لتحيا المكسيك!» لأيزنشتاين، الى «دون كيشوت» أورسون ويلز، مروراً بنابوليون ستانلي كوبريك، غير أن هذا الحكم القيمي لا ينطبق بالتأكيد على الفيلم الذي نتناوله هنا، حتى وإن كان «صاحبه» واحداً من أشهر المبدعين في تاريخ الفن السابع وأكثرهم شعبية. نتحدث هنا عن ألفريد هتشكوك وبالتحديد عن «فيلمه» الذي حمل حين ولد للمرة الأولى عنواناً يكاد يبدو اليوم بديهياً ولا سيما في سياق هتشكوكيته «الرقم 13». بيد أن الخصوصية التي تسم هذا الفيلم تكمن في أنه - وعلى عكس بقية الأفلام الشبحية التي سبق أن تحدثنا عنها أو لم نفعل - بدا دائماً منسياً من قبل هتشكوك الذي كان يتجاهله الى حد كبير في كل حوار يجرى معه. وليس أدلّ على هذا من أنه وفي الكتاب الاستثنائي الذي ضم في مئات الصفحات ذلك الحوار التاريخي الذي أجراه معه زميله السينمائي الفرنسي فرانسوا تروفو خلال النصف الأول من ستينات القرن العشرين، لم يخصّ هذا الفيلم بأكثر من عشر كلمات يشوبها الضجر، على رغم إلحاح تروفو. قامة المبدع وقامة أفلامه ومن ناحية مبدئية قد يبدو هذا الموقف مستغرباً، بخاصة أن هذا المشروع كان يفترض به أن يكون أول الغيث في مسار هتشكوك الأخراجي... فمن المعروف أن وضعية مثل هذه تعطي أي عمل ومهما كان مستواه شفعة ومكانة بالنسبة الى ذكريات صاحبه، على الأقل، لكن الحال لم تكن هكذا مع هتشكوك. وهنا حتى من دون أن نفترض أن ثمة في خلفية موقف كهذا، بعض الذكريات السيئة المتعلقة بالفيلم، سنبادر أول الأمر الى الإشارة بأنه إذا كان مبدعون من طينة كوبريك وايزنشتاين وأورسون ويلز قد احتفظوا في ذاكرتهم بمكانة ما لمشاريعهم الشبحية فإن هذا عائد الى كون كلّ واحد من تلك المشاريع وليد أفكار صاحبه: وأتته الفكرة فصمّم المشروع وكتبه وربما بدأ بتحقيقه ثم لم تكتمل الأمور فظلّ المشروع حدثاً معلقاً وجرحاً دائماً، فإن المشروع «الهتشكوكي» الذي نتحدث عنه هنا لم تكن له أية علاقة بالسينمائي الذي كان شاباً طازجاً في ذلك الحين ووجد الأستديو، من دون مقدمات، يطلب منه أن يتحول من مساعد الى مخرج مسنداً إليه مهمة إخراج ذلك السيناريو الذي لن يفوت هتشكوك لاحقاً أن يتحدث عن «سذاجته» وأن يقول ضاحكاً أن الأستوديو لم يكتف بهذا، بل أنه حتى لم يسأله رأيه حين تعاقد - أي الأستديو - مع بطلي الفيلم وكانا من نجوم الكوميديا الشعبية الكبار في إنكلترا بدايات عشرينات القرن. انطلاقاً من هذين المعطيين على الأقل، قد يكون في إمكاننا أن نفهم موقف هتشكوك من ذلك المشروع الذي ولد ومات في عام 1922. ومهما يكن من أمر هنا، فإن هذا المشروع لن يكون الوحيد المجهض في مسار ذاك الذي سوف يكون خلال العقود التالية واحداً من أشهر وأفضل مبدعي الفن السابع. إذ هناك في الذاكرة السينمائية ما يقرب من دزينتين ونصف الدزينة من مشاريع «هتشكوكية» لم تر النور أبداً. والأدهى من هذا أن بعض تلك المشاريع وئد ولم يتمكن صاحب «الطيور» و«بسايكو» و«دوخان» و «النافذة الخلفية» من إكماله أو حتى البدء فيه وهو في عز شهرته وجبروته الفني. وطبعاً لن نخوض هنا في التفاصيل المتعلقة بكل واحد من تلك المشاريع. ولكننا في المقابل وقبل العودة الى «الرقم 13»، نجد ما يغرينا في رسم الصورة القلمية التالية: فمن المعروف أن واحدة من أكثر الصور الفوتوغرافية التي التقطت لهتشكوك، طرافة هي تلك التي تصوّره واقفاً أمام علب أفلامه وقد رصفت فوق بعضها البعض، كانت واحدة وخمسين علبة وتبدو اعلى قامة من صاحبها الذي اضطر لأن يمد يده كي يطاول أعلاها. يومها إذ تأمل هتشكوك في الصورة قال ضاحكاً: تأملوا كيف ستكون حالي لو أنني حققت بالفعل كلّ مشاريعي!! الهزل خلف الرعب المفترض إذا، ولد مشروع «الرقم 13» في عام 1922، حين أرادت شركة الانتاج السينمائي «غينسبورو بيكتشرز» ان تستفيد على عجل من عقد مزدوج كانت وقعته مع النجمين كلير غريت وإرنست تيسيغر. وكان هذان يكوّنان ثنائياً هزلياً في السينما الإنكليزية لكن جمهورهما الأساسي كان أميركياً. وهكذا إذ بدأت رساميل سينمائية أميركية تتدفق على إنكلترا ليحقق بفضلها أفلام رخيصة الكلفة للجمهور الأميركي أيام كانت السينما لا تزال صامتة وكان الفنانون الإنكليز مطلوبين لجودة أدائهم، كان من السائد أن يتم وضع المشروع والتعاقد مع النجوم وكتابة السيناريو قبل أن يؤتى بأيّ كان ليتولى تقنيات الأخراج. وعلى هذا النحو يومها جيء بالشاب هتشكوك وكان يعمل مع الأستديو كمساعد ورسام وكاتب لوحات الحوارات التي تظهر على الشاشة كلما «نطق» ممثل بعبارة ما. يومها وحتى قبل أن يقرأ السيناريو بكامله، انصرف هتشكوك متحمساً للبدء في تصوير الفيلم. غير أن التصوير لم يدم سوى أيام قليلة. أما السبب فهو أن الأموال الأميركية سرعان ما انسحبت إذ بعد فورة أولى تمثّلت في تفضيل التصوير في بلاد الإنكليز، تضاءل اهتمام الأميركيين بالأمر بعد أن صلحت أمور السينما الأميركية إذ خشيت المنافسة الإنكليزية وبدأ أهل السينما هناك يخففون من غلوائهم وشروطهم. ونعرف أن ذلك التساهل كان له فضل كبير ليس فقط في عودة الأموال الأميركية الى أميركا، بل كذلك في لحاق مواهب كثيرة برأس المال آتية من إنكلترا خاصة كما من ألمانيا وفرنسا وأوروبا الشرقية. وطبعاً نعرف أن هذا هو الواقع التاريخي الذي سيعطي هوليوود كوزموبوليتها ومكانتها. غير أن هذه حكاية أخرى بالطبع. أما حكايتنا هنا فإننا نختمها مع أول مشروع هتشكوكي مجهض. سوء تفاهم لم يوجد هذا الفيلم إذاً. ولكن في المقابل ثمة مشاهد عدة صوّرت منه وثمة صور عدة أيضاً. ومع هذا، ولأن أحداً لم يشاهد الفيلم ناهيك بأن السيناريو نفسه ليس متوافراً، ساد دائماً الاعتقاد لاحقاً - وطبعاً انطلاقاً من «عنوان الفيلم» - بأننا هنا في إزاء عمل تشويقي ماورائي يرتبط بدلالة الرقم 13، كما يرتبط بطبيعة السينما التي سيحققها هتشكوك لاحقاً. غير أن هذا بعيد جداً عن واقع الحال. فالحقيقة إننا أمام فيلم هزلي من نوع كان سائداً ومطلوباً من الجمهور العريض في ذلك الحين. أما رقم 13- وهو في المعتقدات الشعبية رقم النحس بامتياز - فإنه الرقم الذي تحمله شقة تدور فيها ومن حولها جملة أحداث ومقالب في أحد طوابق بناية يعيش فيها عدد من الأشخاص غريبي الأطوار ومن بينهم طبعاً بطلا الهزل اللذين رسم مشروع الفيلم بأسره كرمى لعيونهما. أو بالأحرى كرمى لعيني السيد بيبادي، الأميركي الثري وفاعل الخير الذي اشترى تلك البناية أصلاً كي يسكن فيها عائلات من ذوي الدخل المحدود. ومن خلال هذا البعد، على أية حال، تتضح هنا - على الأرجح واحدة من سمات هذا الفيلم: سمة ترتبط بما كانت أميركا تحاول أن تقوله خلال تلك السنوات التالية للحرب العالمية الأولى عن مساندتها للأنكيز بعد تقديم الأنتصار العسكري الذي حرر اوروبا - وفي مقدمها انكلترا - من العدو الألماني... ولكن هذه - أيضاً حكاية أخرى لا مجال للخوض فيها هنا وإن كان في الإشارة إليها توضيح مفترض لرفض هتشكوك خلال عقود حياته التالية أي حديث عنها. وصولا الى الزعم انه نسي موضوع الفيلم تماماً!! مهما يكن من الأمر، سواء أكان هتشكوك صادقاً في مزاعمه حول الفيلم أو ماكراً في الالتفاف حول المسألة برمتها، يبقى المشروع ككل جزءاً من تاريخه. والى جانبه هناك مشاريع أخرى له تحولت الى أفلام شبحية، من أبرزها «كاليدوسكوب» أو «فرنزي» الذي كان يود تحقيقه في عام 1964-1967، لكنه أبدله بسيناريو آخر يحمل نفسه «فرنزي» حققه بالفعل من دون أن يكون ثمة تشابه بين الموضوعين. ومن بين تلك المشاريع أيضاً «فخ لرجل وحيد» (1963) و«ماري روز» (1964) و«3 رهائن» (1964) و«هروب» (1940) و«الرجل الأعمى» (1960)... وغيرها. ولعل الطريف في الأمر كله هو أن هتشكوك كان دائماً كالقطار السريع، بحسب وصف جان - لوك غودار له، يسير في طريقه قدماً من دون أن يتلفت الى الوراء متحسّراً على ما قد يكون فاته. ونعرف أن هذه لم تكن أبداً حال زملائه الآخرين من كبار أهل السينما الذين اعتادوا أن يحنّوا الى مشاريعهم في أيامهم الأخيرة متحسّرين إذ لم يقيّض لهم تحقيقها. وهي حسرة ساهمت بالتأكيد في تلك الأسطرة التي كانت من نصيب الأفلام الشبحية!