يقول المؤرخ والمفكر الاميركي هنري آدمز 1838 - 1918: "ظل الشعب الاميركي طوال مئة عام من 1793 الى 1893 يتأرجح بين قوتين تتجاذبانه، احداهما الصناعة بمعناها البسيط، والثانية الرأسمالية بصورتها الآلية والمتمركزة. وفي عام 1893 حسمت القضية لمصلحة النظام الرأسمالي بكل ما يستلزمه هذا النظام من تحولات في جميع المجالات، فإذا كل اصدقاء المرء ومواطنيه من الاصلاحيين والكنائس والجامعات والفئات المتعلمة قد ارتبطوا بالبنوك وأذعنوا للرأسمالية. لقد تحققت السيادة الكاملة للنظام الرأسمالي، وخضعت البلاد للمناهج الرأسمالية في ادارتها وتفكيرها". انتصر الشمال الصناعي على الجنوب الزراعي في "ارض الميعاد" أو الولاياتالمتحدة الاميركية التي هاجر اليها المغامرون، ونشأ وتطور ما اصطلح على تسميته الأمة أو القومية الاميركية. وفي غمرة نشوة الانتصار، وسورة الطموح، وحميّة الاطماع تطلعت "الأمة الجديدة" الى الوعد الذي وعدها الله. لم يكن لها تاريخ يشكل ركيزة الاعتزاز بالنفس ويصوغ معايير القيم والعراقة والأصالة، وتطلعت الى المستقبل ليكون لها تاريخاً ومبرراً للوجود، ونسجت حلم المستقبل رسالة المجتمع العظيم" الذي تجسدت فيه الأوهام والحقائق. وكعادة المجتمعات والبشر في التاريخ حين يحشدون قواهم للانقضاض على الفريسة وفاء لأطماع، فإن المجتمع أو الانسان لا يسفر عن وجهه، وانما يتحدث من وراء قناع عن "الرسالة الخالدة". وعبَّر عن هذه الرسالة كثيرون ممن صاغوا الرأي العام الاميركي. ونذكر من هؤلاء الروائي الاميركي هيرمان ملفيل 1819 - 1891 الذي قال "نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب ... والانسانية تنتظر من جنسنا الكثير. بات لزاماً على اكثر الأمم ان تحتل المؤخرة. نحن الطليعة تنطلق الى البرية لتقدم ما لم يقدمه الأوائل". وقال جورج واشنطن اول رئيس اميركي في خطابه الرئاسي عام 1789 "إنه موكل بمهمة عهدها الله الى الشعب الاميركي"، وهذا ما قاله توماس جيفرسون في خطابه الرئاسي عام 1081 "الاميركيون شعب الله المختار" وهو ما يعني بلغة التوراة صفوة العالم، لهم الحكم والهيمنة اختياراً أو قوة وقسراً. وفي آواخر القرن التاسع عشر بدأ رجال الفكر المنوط بهم صوغ الرسالة يتأملون ويتحاورون في شأن مستقبل "المجتمع العظيم" ورسالته الى العالم، الحلم الاميركي والمصير الواضح الاميركي. وصاغوا فكرهم ونظرياتهم و مذاهبهم التي تطورت خطوة خطوة مع تطور طاقات وامكانات واطماع أوشهية صفوة المجتمع. ووراء هذا كله ثقافة اصطلاحية وليدة قرنين من الصراع الدموي والاسترقاق اللاإنساني. واختلط الحلم بالواقع وعبر عن هذا الحلم الاميركي المفكر والمؤرخ الاميركي جون فاسك ضمن مجموعة من نظرائه الأميركيين. وروى الحلم وكأنه واقعة على ارض العلم. انه الحلم والرؤية أو الضمير الاميركي الذي ظل ولا يزال ملازما الثقافة الاميركية وان تنوعت صياغاته. جاء الحلم اجابة عن سؤال: ماذا عن المصير الواضح للجنس الانكلوسكسوني. وعرض فايسك الحلم تحت عنوان "المصير الواضح" في كتابه "أفكار سياسية اميركية" الصادر العام 1885. ويحكي الحلم قصة خيالية عن حفلة غداء ضمت عددا من الاميركيين لمناسبة عيد الرابع من تموز يوليو، وتحدث اثناء الحفلة ثلاثة رجال عن مستقبل الولاياتالمتحدة. قال الاول: "اتطلع الى الولاياتالمتحدة التي تحدها شمالاً اميركا الشمالية وجنوباً المكسيك وشرقا المحيط الأطلسي. وغرباً المحيط الهادي". وقف الثاني وقال: "لا... لا هذه رؤية محدودة جداً. إن حدودنا تشمل الجنس الانكلوسكسوني اجمع. اتطلع إلى ولايات متحدة يحدها شمالاً القطب الشمالي. وجنوباً القطب الجنوبي، وشرقاً مشرق الشمس. وغرباً مغرب الشمس". وحيا الحاضرون النبوءة بحماس بالغ وتصفيق حاد. وهنا نهض المتحدث الثالث وقال "لندع الماضي والحاضر، ولنضع فقط مصيرناالواضح في الحسبان. هذه حدود ضيقة شديدة التواضع، انني اتطلع الى الولاياتالمتحدة التي يحدها شمالاً الشفق القطبي الشمالي ويحدها جنوباً تقدم الاعتدالين، ويحدها شرقاً السماء الأولى ويحدها غرباً يوم القيامة". هذه هي اميركا الحلم التي تضيق بكوكب الارض وبالزمان حدودا لهيمنتها، وتتطلع الى آفاق تتجاوز المجموعة الشمسية. وهذه هي اميركا الحلم من دون قناع. ارض الحريات، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وليس مصادفة ان لقيت محاضرة "الحلم الاميركي" رواجا واسعا ليعاود المفكر والمؤرخ الاميركي جون فايسك القاءها في المحافل خمساً وأربعين مرة. انها التعبير الواضح عن الثقافة الاميركية: عن خلفية السلوك الاميركي والقيم الاميركية عند التعامل مع الدول. القوة، والتوسع، والهيمنة في الاقتصاد والمال والثقافة مهما كان الثمن. ولهذا قال المفكر والقاضي الاميركي أوليفر وندل هولمز 1841 - 1935 "الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى". وفي هذا السياق العولمي نفسه قال هنري كابوت لودج "الدول الصغيرة شيء من تراث الماضي الذي عفا عليه الزمن ولا مستقبل لها". وساد شعار ردده الكثيرون ان كل ما يحقق الكسب حتى ولو كان النهب موضع تقدير أو "لا تحدثني عن التاريخ او عن الحق أو عن الكرامة أو عن الحرية، وإنما حدثني عن المنفعة وعن القوة". وسرى الحلم في الدم الاميركي تراثاً متجذراً، ونجد كلينتون يخاطب الشعب الاميركي ويقول في خطابه الانتخابي "اعرف اننا بصدد ان نخسر زعامة اميركا للعالم لأننا نخسر الحلم الاميركي هنا في الداخل". وتمثل هذه العقيدة تأويلا جديدا، سياسيا واقتصاديا، للنزعة الداروينية في الصراع من اجل البقاء. الداروينية التي رفضتها في البداية الجامعات الاميركية من منطلق ديني متزمت، ثم عادت وقبلتها اجتماعيا وروجت لها باعتبار ان الصراع، ولنذكر عبارة "صراع الحضارات"، هو أساس البقاء، وان البقاء للأقوى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وهذا ما سيتردد على ألسنة الكثيرين من المفكرين والاقتصاديين والفلاسفة الاميركيين وما يشكل المبرر "الاخلاقي" للنزوع الى الهيمنة والعولمة. خرجت الولاياتالمتحدة من عزلتها الى خارج حدود الاميركتين تتطلع في نهم وشهوة الي العالم تقدم اليه رسالتها عن الحرية والديموقراطية ومبدأ مونرو وصدقتها بلدان المستعمرات، لكننا نجد التعبير الصادق عن هذا التوجه إلى العالم أو العولمة على لسان الرئيس الاميركي السابق تيودور روزفلت 1858 - 1919 إذ قال: "امركة العالم قدرٌ ومصير أمتنا". وانطلق الاقتصاد الاميركي جواداً جامحاً إلى خارج الحدود. وابتدأ بأوروبا وكأنها هجمة مرتدة عاد معها المهاجرون إلى القارة الأم لفرض سطوتهم، واستشعر الاوروبيون منذ العشرينات بدايات الغزو الثقافي الاميركي. ولعلنا نذكر كتاب "التحدي الاميركي" الذي ظهر في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ليحذر أوروبا من خطر الهجمة المرتدة والتخلف عن اميركا. ومرة آخرى يحتشد المفكرون الاميركيون ويشحذون فكرهم لتقديم التبرير الايديولوجي للسطوة او العولمة الاميركية ثقافيا في مواكبة للهيمنة الشاملة في مجالات اخرى. ورأوا ان افضل السبل هي التفريغ الايديولوجي، اعني تفريغ عقول ابناء الشعوب من محتواها الفكري والعقيدي والتراثي ليسقطوا او يتحرروا من كل تطلعاتهم باسم الاعتزاز القومي او الاستقلال او الحرية. وبعد هذا يبدأ الحشد الايديولوجي البديل لرؤوس مفرغة، بثقافة مغايرة تفضي الى تدجين الشعوب ليسلس قيادها لمصلحة المروض الاعظم صاحب الحلم في العولمة. وتتابعت الخطوات متوازية: سطوة عسكرية وهيمنة اقتصادية وغزو ثقافي، وجميعها تخدم هدفا واحدا يعتبر في العرف الاميركي عملاً اخلاقياً نافعاً لأنه يخدم المصلحة الاميركية. وجاء استخدام مصطلح العولمة للمرة الاولى على لسان الرئيس الاميركي هاري ترومان بعد القاء قنبلتين نوويتين اميركيتين فوق مدينتي هيروشيما وناكازاكي. قال الرئيس الاميركي، وفي ضميره الثقافة الاميركية، "العالم الآن في متناول أيدينا"، وبعده في الستينات ومع ثورة بلدان المستعمرات والثورة المضادة في الغرب ضد الهيمنة والتزييف تضاعفت جهود المفكرين والفلاسفة مثلما تضاعف الخوف من ان يفلت الزمام من يد قائد العالم ويسقط الحلم. وخير من يعبر بصدق وصراحة عن هذا التوجه الثقافي والفكري الاميركي هو بورهوس فريدريك سكينر النجم الساطع الذي قدمته الولاياتالمتحدة باعتباره رسول التربية والحرية. وطالع الناس ظاهر "الرسالة الخالدة" من دون ان ينزعوا عنها القناع. أكد سكينر في حديثه الى الشعوب ان الحرية والكرامة ضرب من الوهم والخداع وذلك في كتابه "ما وراء الحرية والكرامة". وصاغ صورة المجتمع الجديد المقترح للشعوب، وهو مجتمع القطيع الداجن في روايته "فالدن 2". وابتدع سكينر نظرية هندسة أو تكنولوجيا السلوك الانساني لصناعة اشخاص وشعوب حسب الطلب تفعل ما يريده صاحب السلطان وتظن انها تفعل ما تريده هي وما اختارته بحريتها، انها شعوب مبرمجة ثقافياً وعقائدياً ومن ثم سياسياً. وفي ضوء سياسة الترغيب والاغواء والترهيب تغدو الحرية هي خلاص المرء او الشعب من القيود والهرب من العقاب لهذا يقرر سكينر ان حرية العبد هي العمل والطاعة هرباً من العقاب. وهكذا ايضا تنعم الشعوب بالحرية، اذ تنجو من عقاب القوة الأعظم ذات الجبروت، ولكن ماذا لو تمرد فرد أو شعب؟ يقول سكينر، ومقولته دستور للعولمة سياسياً وثقافياً: "يمكن لحكومة ما ان تحول دون لجوء المواطنين أو الشعوب طبعاً. فهي ملك اليمين للقوة الاعظم إلى الردة والنفور وذلك يجعل الحياة اكثر امتاعا بتوفير الغذاء ووسائل الترويح وتشجيع القمار، واستعمال المشروبات الكحولية والعقاقير المخدرة والمسكنة ومختلف انواع السلوك الجنسي، بحيث تكون آثار ذلك جعل الناس في متناول يد السلطة، وغير بعيدين عن عقابها ردعا لهم. انك تستطيع ان تدجن شعباً كما يدجن المروض الاسود". ويقول سكينر أيضاً "الأقوى هو الغالب وصاحب الحق والقوة". ثم يضيف وفي قلبه ووعيه اميركا المهيمنة صاحبة المصير الواضح أو العولمة: البقاء للاصلح هو قانون الطبيعة. واذا كان الانسان خرج من الصراع وهو سيد الانواع، فلماذا لا نتطلع الى سلالة بشرية تكون سيدة السلالات؟ واذا كانت الثقافة تطورت بعملية مماثلة فلماذا لا نتطلع الى ثقافة سيدة الثقافات؟ وأفادت الصفوة العالمية او اميركا من مظاهر التقدم العلمي والتقني لكي تكون انجازاتها اداتها للهيمنة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً. وفي سبيل اشاعة ثقافة المتعة والترويض حولت جانبا اساسيا من اقتصادها الى اقتصاد خدمي ليكون اداؤها في تكنولوجيا هندسة السلوك الاجتماعي لمحاكاة البطل العالمي الاميركي في كل انحاء العالم. الوجبات السريعة والأفلام الأميركية والحفلات والاغاني. ويحتل هذا النوع من الانتاج المرتبة الثانية في الاقتصاد الاميركي بعد صناعة الطائرات. واحتلت الولاياتالمتحدة المرتبة الأولى في العالم في مجال تصدير الصناعات الثقافية التي تعيد صوغ الوعي وتتلاعب بالعقول مما اثار حفيظة الدول الاوروبية المتقدمة. ويكفي كمثال ان نقول ان الولاياتالمتحدة استوردت العام 1992 من جميع دول الاتحاد الاوروبي صناعات ثقافية بلغت قيمتها 288 مليون دولار بينما صدرت الى هذه الدول ذاتها وفي العام نفسه صناعات ثقافية اميركية قيمتها 8،3 بليون دولار. ونجد في العام 1993 ان من بين أهم مئة فيلم في العالم 88 فيلماً اميركياً، وهي نسبة العرض نفسها حيث ان 88 في المئة من الافلام المعروضة هي افلام اميركية. وهناك 30 وكالة اميركية من بين 40 وكالة اعلان في العالم. وشهد العالم خلال العقد الاخير تمركزا لشركات الاتصال العملاقة مثل اتحاد شركة TIME - WARNER العام 1989الذي بلغت قيمة اصوله، آنذاك، 7،8 بليون دولار. وهناك الشركات المتعددة القوميات وشركات المضاربات المالية حيث الغلبة للولايات المتحدة الاميركية ثم شبكة المعلومات العالمية الفضائية الانترنت وغير ذلك كثير. إنها العولمة على الطريقة الاميركية التي يراها البعض الوجه الثقافي لأعلى مراحل الامبريالية. واصبحت العولمة حسب هذا الواقع حق الولاياتالمتحدة في مراقبة سلوك البلدان الاخرى ومتابعة مجريات الامور فيها باسم حماية الأقليات، وحقوق الانسان. وتعني العولمة الاميركية في التطبيق العملي شيوع سلوكيات الوجبات السريعة والاغاني الخليعة وامتلاك الاتصالات الفضائية للبحث الاعلامي والثقافي أو للمراقبة والتجسس. ولكنها لا تعني أبداً طبقاً للقناع المزعوم حق الامم في تقرير مصيرها، واختيار طريقها للتنمية والتطوير ولاحق شعوب المستعمرات السابقة في تعويض المنهوب من جيراتها، وبناء البشر فيها على اساس اجتماعي عادل وعلمي متقدم للحاق بركب الحضارة ولا تعني حق التنوع والاختلاف وتوفير شروط الابداع والتعاون على أساس من الندية والاخوة الانسانية والحرية والاستقلال. ولكن، هل هي حقا نهاية التاريخ؟ انها موجة طاغية، والحضارات موجات متعاقبة تعلو واحدة بعد الاخرى بفضل فاعلية المجتمعات وامتلاكها لناصية الانتاج الابداعي في الفكر والعلم والثقافة اما الكسالى فليس لهم نعيم الدنيا؟ * كاتب مصري.