عرف العرب الهجاء كثيرًا، وعرفوا المديح أكثر، وعرفوا قليلاً من فن السخرية كمنحى مستقل. والمهتم بالبحث عن فن السخرية العربية، سيجد كثيراً منها بين تلافيف الهجاء المقذع والمديح المغرق. وتصل بعض المبالغات في فن الهجاء العربي إلى درجة السخرية القاتلة، ويصل بعض المديح إلى درجة السخرية المغرقة في الهزل. - فهجاء المتنبي كافور الإخشيدي حاكم مصر، يصل إلى حد الرسم الكاريكاتوري المتقن الساخر، حين يتفنن في وصف سيقانه الناحلة، وكرانيف أقدامه الناشفة ومنخريه الكبيرين، ويصوره عبداً - عصياً - يحسُن لمن يشتريه أن يشتري معه طقم العصا والفلكة. وبالطبع فإن هذا الإتقان في وصف الإخشيدي كان عنصرياً.. وشوفينياً، ولكنه لائق سياسياً واجتماعياً، في خطاب تلك الأيام، وإن كان يسبب إحراجاً في أيامنا هذه طبقاً لمعايير الجملة الصحيحة سياسياً واللائقة وحضارياً. وبالغ الشاعر الآخر كثيراً عندما خاطب حاكم مصر مادحاً بعد زلزال شديد أصاب البلاد فقال له: إن الزلزال لم يُصب مصر لشر يُراد بها، ولكن مصر كانت ترقص طرباً من عدل الحاكم المذكور. فهذا بلدُ تضربه الزلازل فيجدها الشاعر الانتهازي فرصة مناسبة ليصور البلاد وقد لفّت حول خصرها منديلاً ترقص به، وتهز نفسها، غير حافلة بالبؤساء المنكوبين المدفونين تحت الأنقاض لأن عدل الأمير قد تملكها طرً ونشوة. هذا الشاعر المبدع لم يكن منافقاً حقاً كما يصفه النقاد ولكنه كان من أكثر الشعراء الساخرين براعة وإتقاناً. وإذا تعديّت هذه السخرية المتوارية، الظاهرة، في بعض شعر الهجاء المقذع، أو المديح المغرق فربما وجدت نماذج قليلة في أدب السخرية المباشر، كما في بعض حكايات الأغاني للأصفهاني وما نحا نحوه من الكتب. ويعتبر كتاب البخلاء للجاحظ أحد الأسفار العربية الفريدة في فن السخرية، وهو على كل يحكي عن فئة معينة من الناس قد يكون الجاحظ انتحل لبعضهم أسماء غير أسمائهم الحقيقية. ولا أدري ماذا كان موقف أهل بلدة مَرْو، حيث جرت معظم قصص كتاب البخلاء، وهل احتجوا على مانال سُمْعَتَهم من تعريض وتشويه. فلقد كانت سخرية الجاحظ بهم سخرية مباشرة. والمشكلة كما يبدو متأصلة في حساسية الشخص العربي تجاه السخرية المباشرة. فقد يقبل أن نهجوه ويقابل الهجاء بالهجاء ويعتبر هذا الأمر امتداداً لفظياً للمبارزة والمنازلة بالسلاح. وقد يتغاضى عن المبالغة في مديحه وغمز ولمز بعض الحاسدين و الحاقدين الذين يفسرون هذا المديح المبالغ فيه على نحو أو آخر. ولكنه لن يقبل أو من الصعب عليه أن يقبل السخرية به، أو اضحاك الناس عليه، أو التعريض ب الواجهة الوقور التي نحرص علي اتخاذها والظهور بها في منتدياتنا العامة كوجه من وجوهنا المتعددة، ولكنها بلا شك أكثر الواجهات أهمية، وأشد اللافتات إضاءة. ولم يزل الشخص العربي المعاصر يعاني من هذه العقدة المستحكمة. فهو يأخذ نفسه على درجة من الجدّية التي تثير الضحك حقاً، خاصة عند مقابلتها بواقع عربي كاريكاتيري هزيل. وهو يثير الضحك أكثر عندما ترتجف شواربه، وترتعش أهدابه غضباً على الساخرين بمظهره "الهزلي - الجاد"، أو بتناقضات واقعه الحضاري الكئيب. لقد قال المثل العربي القديم: شرُّ البلية ما يُضحك. وهذا تعريف جامع مانع لجوهر الكتابة الساخرة التي تثير الضحك من البلايا، وأنصاف البلايا وهي كثيرة في مجتمعاتنا العربية. إن الكاتب العربي الساخر المعاصر سيجد في الحالة العربية مرتعاً خصباً لإبداعاته الساخرة. ويجب على الشخص العربي، أن يكون أكثر تقبلاً، وأرحب صدراً عندما يتعرض لهذه السخرية الهادفة. وألا يتناول الموضوع على نحو شخصي، فيزيد من صعوبة المهمة. إن أية فرصة مع أنفسنا بجدية أقل، ومع قضايانا، برحابة صدر أكبر. لعل السخرية من واقع يثير الحزن والبكاء ينجح في لذع جدران ضمائرنا ومشاعرنا السميكة. أو لعل "القهقهات" تطردُ التبلّد، والتثاؤب، وتنجح في إيقاظنا من سبات عميق. أو لعل هذا الكلام المكتوب أعلاه كلام مثير للسخرية والضحك حقاً. فإذا كان الأمر كذلك: فاسخروا، واضحكوا.. مشكورين.. مأجورين.