عُرفوا في كل زمان ومكان بأنهم وصوليون.. انتهازيون يُسايرون الأحداث والظروف بما يخدم مصالحهم، ويتلونون بتلون أطياف المجتمع ويتألقون ويتملقون للوصول إلى مآربهم، ولا يستنكفون الذلة والمهانة في سبيل الوصول إلى الرتبة والمكانة، ويتذللون لمدرائهم ويُمارسون الدور نفسه بالتكبر على أبناء العامة، وتُكثر على ألسنتهم في زمننا ومجتمعنا الحالي عبارات التمجيد والهوان، وإن كان هذا الثوب يتطلب منهم مواكبة ما يستطيعون من الأناقة وحسن الهندام ونعومة الأجسام يرضون بالحماقات ويفتقدون صادق المروءات، يمشون في الأرض مرحاً، كأنما خرقوا الأرض أو بلغوا الجبال طولاً. لم يكن هؤلاء إلاّ الوصوليين النفعيين الذين اُبتليت بهم العمائر والدوائر في كل زمان ومكان والذين عناهم الشاعر «أحمد شوقي» حين قال: برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا فمشى في الأرض يهدي ويسبّ الماكرينا إنهم قالوا وخير القول قول العارفينا مخطئٌ من ظنّ يوماً أنّ للثعلب دينا وصفهم «الجاحظ»: ظواهر نظيفة وبواطن سخيفة يتباهون بمهنتهم ويتنافسون بالظهور بمظهر الأسياد» المكان والزمان اُبتليت بهم المجتمعات والمجامع وامتلأت بهم الدواوين والمراجع، لهم في كل زمان ظهور، وفي كل مكان حضور، وصفهم "الجاحظ" بقوله، هم: "أغرار يدّعون الذكاء، إن مدحهم أحد الناس، لغاية في نفسه، تمايلوا كالطاووس وحسبوا أنهم سادة الرأي وولاة الأمور، فبقدر ما يخضعون لرؤسائهم بقدر ما يتكابرون على عامة الناس". ولم يقف الأمر على "الجاحظ" بل لقد أسهب في وصفهم "القلقشندي" في كتابه (صبح الأعشى) و"الصولي ابن قتيبة" في كتابيهما (أدب الكتاب) وكذا "المسعودي" في (مروج الذهب)، كما وصفوا بعض رجال البلاط في حاشية المسؤول الرفيع والذي كان معظمهم يندرجون تحت مُسمى "الكُتاب" وهي الوظيفة التي كانت تملأ بلاط الوجهاء والمسؤولين في عصر الحضارة الإسلامية، حيث لم يكن هذا الكاتب أو ذاك إلاّ موظفاً صغيراً لا يملك من صلاحيات الوظيفة ما يهش به أو ينش، بيد أنه يُظهر لمراجعي الدائرة التي يعمل بها أنه مسؤول رفيع وأن بمقدوره تحرير الخطاب بما يُذلل العوائق والصعاب، كما يُحاول إظهار قُربه من المسؤول بحيث يُمعن النظر في الخطابات المقدمة له؛ ليظهر أن له من الأمر شيئا وأنه قادر على تحقيق مبتغى السائل، كما يوحي دائماً لمراجعيه بأنه عالم بشؤون عمله مدرك لأدق تفاصيله وأسراره، وهو مع هذا حريص على إبراز وتضخيم المسؤول الذي يعمل تحت إدارته، فيحاول تعقيد الأمور الجلية الواضحة لتبيان وإظهار فهمه وعمق تبحره بشؤون عمله، كما أنه يرغب بذلك لتعزيز مكانته من خلال حاجة المراجع لخدماته، وهو حين يُحاول أن يُعلي من قدره بين مراجعيه وأقرانه، لا يغيب عن باله، بل لا تغمض عيناه عن مصالحه ومواطئ أقدامه التي يرسمها لنفسه مستقبلاً، ولذا فغالباً ما تتصف حاشية بلاط المسؤول، بالاعتناء المفرط في اللباس والهندام مع إظهار أنهم أصحاب باع طويل في ميدان العلوم والثقافة، ولذا تجد في نظراتهم وارتساماتهم شيئا من التيه والعجب بالنفس، وكأنك أمام مسرح "الجاحظ" حين رآهم في ديوان أحد وجهاء زمانه وقد صقلوا ثيابهم وصففوا عمائمهم فوصفهم بقوله: "ظواهر نظيفة وبواطن سخيفة يتباهون بمهنتهم ويتنافسون بالظهور بمظهر الأسياد"، ولذا كان "الجاحظ" يُطلق عليهم لقب (الطواويس)؛ نظراً لما فيهم من العجب والكبرياء، كما كان العلماء في السابق والحاضر يُحذرون منهم ومن محاولة تفخيمهم وإعلاء مكانتهم. «مكيافيلّلي» قدّم الانتهازية في أخس صورها: «الغاية تبرر الوسيلة» و«المتنبي» انقلب على «كافور» حين فشلت غايته كتب ومؤلفون أوضح "ابن المرزبان" بعض أحوال هذه الفئة الوصولية في كتابه (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، بل لقد أظهر "اليعقوبي" في كتابه (مشاكلة الناس لزمانهم) أن العامة في الغالب تسير وفق ما تسير به الخاصة من عِلية القوم، وهو مقارب في عنوانه وبعض مضامينه للكتاب المعاصر (الناس على دين إذاعاتهم) ل"إيهاب الأزهري"، في حين لم يجد "أحمد الدلجي" المتوفى عام 838ه عزاءً للمبدعين الذين لم يجدوا لهم حظاً من أمور دنياهم، لا سيما وأن طبقة الوصوليين استحوذت على كافة المزايا والمناصب في زمانه، إلاّ أن يضع لهم كتاباً سماه (الفلاكة والمفلوكون) وغير بعيد عنه كان "ابن طولون الصالحي" الذي أراد أن ينقذ العامة من هيمنة هذه الفئة النفعية فألف لهم كتابه (نقد الطالب لزغل المناصب)، وهو كأنما يُريد بذلك أن يهدي "كافور الإخشيدي" كتاب "أبي المعالي البخاري" (الطراز المنقوش في محاسن الحبوش) لولا أن الأول متقدم في زمانه عن مؤلف الكتاب، وعليه فقد كان كتاب (الأمير) ل"مكيافيلّلي" مثالاً صارخاً في الانتهازية وعدم احترام حقوق الآخرين، خاصة حينما ترد في فصله الثامن عشر عبارته الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة" التي تُجرد الانتهازية في أخس صورها، لا سيما وأن صاحبه قد قدمه إلى الأمير "لورنزو" أملاً أن تنعم عليه أسرة "ميديشي" الحاكمة بمنصب يُعيد له بعضاً من مكانته السابقة، وكأن "مكيافيلّلي" لم يقرأ ما كتبه معاصره في المشرق الإسلامي "أبو بكر السيوطي" في كتابه الشهير (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين). إنهم قالوا وخير القول قول العارفينا مخطئٌ من ظنّ يوماً أنّ للثعلب دينا شعراء نفعيون يعتبر الشعراء في كل زمان ومكان أكثر فئات المجتمع تجسيداً لمبادئ النفعية، إذ غالباً ما يُطرز الشعراء قصائدهم في ممدوحيهم بما تأنف منه النفوس الأبية، بل ان أحدهم يستدعي في مدائحه ما يغلب به الظن وصوله إلى درجة الإسفاف في التملق والتقرب لنيل المصالح العابرة والجوائز الزائلة، ومع أن هذه المدائح سوف تتحول في مؤشرها إلى غير هذا المسؤول أو ذاك في حال زال عنه نعيم المكانة وجاه الوظيفة، ولا أدق من وصف القرآن الكريم لهؤلاء حين قال عز وجل في سورة الشعراء: (والشعراء يتبعهم الغاوون* ألم تر أنهم في كل واد يهيمون* وأنهم يقولون ما لا يفعلون* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، كما حذّر النبي عليه الصلاة والسلام من الإطراء الزائد ومدائح النفاق الاجتماعي بقوله: "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب". المسؤول الناجح لا يترك فرصة للانتهازيين أو أصحاب المصالح «أرشيف الرياض» ويبقى "أبو الطيب المتنبي" علماً بارزاً لتمثيل هذه الفئة النفعية، لا سيما وقد قصر مدائحه على أمراء وسلاطين زمانه طلباً في إمارة صغيرة أو ولاية نائية يعيش من خلالها حياة السلاطين ويخلع عباءة الشعر لغيره من الشعراء الذين ربما أنه كان يُمني النفس أن يكون حينها ممدوحاً لا مادحاً، وهو ما دعا "كافور الإخشيدي" أن يوقف طموحاته حينما كرر المتنبي عليه طلب الإمارة لإحدى المقاطعات، فقال له "الإخشيدي": "يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد أما يدعي الولاية بعد كافور"، حينها خرج المتنبي من ليلته تاركاً أرض مصر، وهو يكيل أقذع الهجاء في ممدوحة القديم فيقول: من علم الأسود المخصي مكرمةً أقومه البيض أم أجداده الصيدُ جَوعانُ يأكلُ مِن زادي ويُمِسكُني لِكَي يُقالَ عَظِيمُ القدرِ مَقصُودُ لا تشتَرِ العَبد إلا والعَصَا معه إِن العَبِيدَ لأنجاسٌ مَناكيد قال هذا الهجاء المُقذع في صاحبه بعد أن كان يَصفه ببدر الدجى وقرة العين، وأنه البحر المتلاطم وما عداه من سلاطين زمانه ما هم إلاّ "سواقي" أمام بحره الزاخر وموجه الهادر، ما دعاه إلى أن يكيل له المدائح بمبدأ نفعي كان يعتقدُ جدواه، وهو يقول: كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيا حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبلَ حُبّكَ من نأى وَقد كانَ غَدّاراً فكُنْ أنتَ وَافِيا قَوَاصدَ كَافُورٍ تَوَارِكَ غَيرِهِ وَمَنْ قَصَدَ البَحرَ استَقَلّ السّوَاقِيا مدارس ومشارب وتختلف الوصولية في الثقافة العربية الإسلامية عن الثقافات الأخرى، ولكن لماذا تكاد الأمم تتفق -على اختلاف مشاربها- على رفض تولية الشغوف بالمنصب؟ ولا أدل على ذلك إلاّ قول شخص استعجل طلب منصبًا من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ فرد عليه: "والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يُعَن عليه"، ولو قرأنا سجل الشخصيات المتسلقة منذ فجر التاريخ، فإننا سنكتشف، وببساطة متناهية، أن عشّاق المناصب -بعد أن تمكنوا من دفتها- كانوا غير جديرين بإدارتها؛ إذ أن لهفة الوصولية مخلة -في الغالب- بشرط الكفاءة، بغض النظر عن كل المؤهلات والمزايا التي تتمتع بها الشخصية الاستغلالية. تجارة المصالح لا تصل إلى حد الانتهازية والطمع صفات متوارثة ومنذ فجر التاريخ الأول أدرك الورعون الصادقون مع ذواتهم أن المناصب حمل ثقيل، وأمانة أثقل، وهذا ما جعلهم يستنكفونها ويفرون منها، ويرفضون ما تحمله من الجاه والمكانة الدنيوية الزائلة، ولذا فقد وُصف النفعي بأنه نرجسي متمركز حول ذاته، عنيد دون وجه حق، تتآكله الغيرة من نجاح الآخرين، سلوكه الظاهري يختلف عن حقيقته وعن مضمون عقله الباطن الذي يكبت صراعات جعلته أسير الدونية والشعور بالتهميش وهو بذلك مزاجي وانفعالي وذو نزعة قتالية. وهو كما وصفه السابقون أثقل على الوالي مؤونة.. وأقل مؤونة له في البلاء.. وأكره للإنصاف.. واسأل بالإلحاف.. وأقل شكرًا عند الإعطاء.. وأبطأ عذرًا عند المنع.. وأضعف صبرًا عند ملمات الدهر.. أما إذا انقلبت موازين الحياة، وإذا أدبرت الدنيا عن أربابهم فهم حِينها أقل الناس صبراً وأولهم إعراضاً؛ فكان ثمن ذلك نفي بعضهم وحبس البعض الأخر، في الوقت نفسه كان الوصوليون يواصلون لهثهم خلف طموحاتهم وسعياً لنيل مطامعهم. ولعل المثل العربي القائل: "إنك لا تجني من الشوك العنب" يُمثل في زمننا هذا حقيقة الشخصية النفعية الوصولية، والتي تُعرف بالانتهازية حيث تكمن قدرات الوصولي في الإقناع الكلامي والتحايل ولا محل للمنفعة العامة في قاموسها إذ يختار النفعي ضحاياه جيداً، حيث يعمد ويركز على الأشخاص الذين لا ينكشف أمامهم بسهولة لتحقيق أطماعه، بل ويتنازل عن مبادئه بسهولة ويغير جلده طالما اقتضت أطماعه ذلك وهو بارع في إدارة الظهر لأي من كان بعدما يحصل على ما يريد وفقاً للقاعدة النفعية المتوارثة "أنا ومن بعدي الطوفان"!. المدرسة النفعية ومنذ زمن (أبيقور) في العهد اليوناني القديم، الى "جرمي بنتام" و"استيوارت ميل" و"ايرينگ" في العصر الحديث، حاول النفعيون توسيع مفهوم السعادة، ليشمل خير المجتمع، بيد أنهم لم يستطيعوا، إذ كيف نطبق مبدأ "بينثام" في حالة الجان في قصة البؤساء ل"فكتور هيجو"؟، عندما اضطر الجان لسرقة رغيف خبز لكي يُطعم أخته وأطفالها؛ فإن حسبناها بطريقة "بينثام" نجد أنه فعلاً قد سرق رغيف الخبز ليُسعد به مردة الجان وأخته وأطفالها في الأمد القصير، ولكن هذا جاء على صاحب الفرن وعائلته بالفقر والحزن. وللحقيقة فإن مفاهيم السعادة واللذّة والمنفعة مفاهيم ملتبسة منذ القدم عند "أرسطو" و"أبيقور" حتى نشأت قاعدة (الغاية تبّرر الوسيلة) ل"مكيافيلّلي"، وهذا معناه أنّنا لكي نحقق السعادة للمجتمع -والحقيقة أنها أهدافنا ومأربنا الخاصة- سوف نتبع وسائل غير أخلاقية، وهي القاعدة التي طالما استخدمها أصحاب الهوى، وابتلي بها بعض أهل هذا الزمان!. غاية الوصول إلى المال لا تبرره وسيلة الغش أو أخذ حقوق الناس الصعود إلى الأعلى لا يعني التكبر على الآخرين الجيل الماضي تربى على أن الكفاح سبيل للوصول إلى الطموح وتحقيق النجاح