فإن الشعر وسيلة من وسائل التعبير عن النفس ومشاعرها، يُلهَمه الشاعر فيظهر على هيئة أبيات أو سطور شعرية، لها مكونات وخصائص فنية، تختلف من شاعر لآخر حسب الثقافة والبيئة وطبيعة النفس الإنسانية. والسخريّة من الأدوات الفنية التي يمكن أن يعبر بها المتكلم عن نفسه عموماً، وهي استعداد نفسي وموهبة خاصة وُجدت عند بعض الشعراء، قد يساء استخدامها فتكون وبالاً على صاحبها، وقد تكون أداة نافعة في الترويح عن النفوس أو التوجيه والبيان ولفت الانتباه، فتحسن حينئذ الاستعانة بها. وفي إشارات الباحثين وجدتُ الحديث عن السخرية في الشعر السعودي يكاد يكون مقصوراً على الشعراء السعوديين من الجيل الأول والثاني وعلى موضوعات اجتماعية معينة أو دواوين معدودة، وكان هذا خلاف ما طالعت من نصوص شعرية ساخرة مختلفة الموضوعات وتنتمي لشعراء من مختلف الاتجاهات الفنية، مما كان باعثاً على هذه الدراسة وهي بعنوان «السخرية في الشعر السعودي، مضامينها وسماتها الفنية». السخرية: مفهومها، وتاريخها، ومقوماتها إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن السخريّة ترادف الهزء، يقال: سخِر منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومسْخَراً وسُخْراً وسُخْرةً وسِخْريّاً وسُخريّاً وسُخْريّةً أي هزئ به، ورجل سُخَرةٌ أي يسخر بالناس، وسخْرة أي يُسْخر منه، فهي إذاً سلوك يقوم على الاستهزاء أو التهكم من شخص أو موقف ما. والسخرية أسلوب تعبيري ورد في القرآن الكريم والأدب العربي منذ القديم، فمما ورد في القرآن على سبيل التهكم قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقوله سبحانه {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، وكذلك قصة إبراهيم عليه السلام حين حطم الأصنام جميعاً سوى الصنم الأكبر فيهم، فهي تعد من شواهد السخرية في القرآن الكريم وذلك حيث يقول سبحانه: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}. وأما الأدب العربي، فقد اشتمل على شواهد كثيرة للسخرية شعراً ونثراً، بدءاً بالعصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وليس المقام مقام استقصاء ولكن لاضير من الإلماحة السريعة الدالة على وجود السخرية في تلك العصور. فمما ورد من شواهد السخرية في النثر ما نجده عند ابن المقفع في كليلة ودمنة، والجاحظ في عموم كتبه، وأبي حيان التوحيدي في مثالب الوزيرين، وابن ممّاتي في «الفاشوش في أحكام قراقوش»، وعبدالله نديم في جريدة التنكيت والتبكيت. وأما الشعر العربي فمما ورد فيه من السخرية قول الحطيئة للزبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وقول جرير معرضاً بالفرزدق: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامةٍ يا مربع وقول ابن الرومي في وصف بخيل: فلو يستطيع لتقتيره تنفّس من منخرٍ واحد وقول ابن خفاجة الأندلسي يصف بخيلاً اعتذر عن قلة عطائه بأن فرساً رمحته: هل يشتكي وجعاً به في سرةٍ بالسين أم في صرةٍ بالصاد وفي العصر الحديث اشتهر -من غير الشعراء السعوديين- عبدالعزيز البشري وحافظ إبراهيم وإبراهيم المازني وحسين شفيق المصري وغيرهم في استخدام السخرية في أشعارهم. وللسخرية الأدبية مقومات لابد من وجودها في الأديب الساخر، أهمها الجرأة واللامبالاة سواء قامت على الهزء بشخص آخر أم على الهزء بنفسه هو، فكلا الموقفين يتطلبان جرأة وقوةً في الشخصية. كما أن الذكاء من أهم مقومات الأديب الساخر أيضاً، لأن السخرية في كثير من الحالات تحتاج إلى دقة ملاحظة وسرعة بديهة وخيال قوي، وفوق هذا كله تحتاج إلى الكثير من البراعة والمهارة «بحيث نجد أن كثيراً من الفكاهات ذات التأثير القوي يمكن أن تفقد تأثيرها إذا صيغت بأسلوب آخر»، فللسخرية صياغة خاصة لايقدر عليها إلا أصحابها الموهوبون. السخرية في الشعر السعودي: نشأتها وتطورها يمكن ربط ظهور السخرية في الشعر السعودي بكونها أسلوباً ورد في شعر العرب قديماً وحديثاً، واطلاع الشعراء السعوديين على هذا الأدب إبان النهضة الأدبية أدى إلى تأثرهم به وبمضامينه، وكان الشعراء السعوديون –خاصة في الحجاز- دائمي الاطلاع على هذا الأدب يقرؤونه ويتأملونه ويتناقشون حوله. لذا ظهرت السخرية أسلوباً أدبياً في نتاج بعض الشعراء الرواد مثل محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وغيرهما، فمحمد حسن عواد يقول على سبيل السخرية وفي معرض النصح والإرشاد: غش واكذب وزوّقِ.. تتقدم وترتقي وانشر الخبث في الحيا .. ة ولكن ترفّق وتحدثْ بموعدٍ.. منك لما يحقق وتبسم لغافلٍ.. وتدرّع لمتقي وتحذلق إذا رأي.. ت نجاح التحذلق وادّع الحب للجمي.. ع وعش بالتملّق وحمزة شحاتة يصف حال الشعراء إذ يقول في إحدى قصائده الساخرة: واهرب إلى الشعر مثلي كلما غثيتْ بالحزن نفسك واملأ أنهر الصحف فالشعر أصل البلاوي وهو كاشفها متى تخيرتَ أن تحيا بلا هدف والشعر كالفقر في إرضاء صاحبه بقطعة الخبز في كوخٍ على خصف ثم يقول: والكذب في الشعر لا يزري بقائله وسارق الشعر لم يُقذف إلى جرف وليس يخلو مجال الشعر من فرصٍ عليا تدر عليك المال بالقفف فقد تصيب عصامياً تؤرقه أحلامه في ادّعاء المجد فازدلف وامدحه واصنع له تاريخ أسرته بما تيسّر من درٍ ومن صدف وصغ له من فنون المدح مفترياً ما صاغه المتنبي في أبي دلف فرب مجدٍ بناه المال من ذهبٍ ورب مجد بناه المال من شقف والسخرية وإن بدأت مع هذا الجيل المتقدم إلا أنها لم تشكل ظاهرة فنية كما نجد عند الجيل التالي، الذي يضم أحمد قنديل وحسين سرحان وحسن صيرفي وغيرهم، وقد توزع ظهورها على شريحة من الشعراء أعرض من ذي قبل، كما أن وجود قنديل يعد علامة فارقة في تطور الأسلوب الساخر في الشعر السعودي. فهو يعد بحق رائد الشعر الساخر في المملكة العربية السعودية، وهذه الريادة اكتسبها من جانبين: التنوع والكثرة، فقد شمل شعره الساخر تجارب شعرية متعددة من ذاتية واجتماعية وسياسية، كما أن وفرة النتاج الشعري الساخر عنده لم يقاربه أي شاعر آخر حتى يومنا هذا. ونتاج أحمد قنديل الساخر يمكن حصره في أربع مجموعات، الأولى ضمّنها كتابه «المركاز» وفيه بعض الموضوعات الفكاهية والاجتماعية، والثانية في كتابه «عروس البحر» بجزأيه الأول والثاني وفيها بعض الموضوعات الفكاهية والاجتماعية من خلال حديثه عن مدينة جدة، والثالثة ضمن كتابه «أنا التلفاز» وفيها وصف للتلفاز ودخوله حياة الناس في المملكة العربية السعودية، أما المجموعة الرابعة فهي مجموعة مقطعات خماسية نُشرت في جريدة عكاظ بشكل يومي تحت عنوان «قناديل» منذ 2-9-1394ه حتى 29-6-1397ه. وبعد القنديل لانجد شاعراً أفرد ديوانا كاملاً لقصائده الساخرة سوى حسن السبع، فديوانه «ركلات ترجيح» يحتوي على أكثر من سبعين نصاً شعرياً ساخراً مابين مقطوعة وقصيدة، وهذه الكثرة تنم عن اقتناع من الشاعر بدور الأدب الضاحك في تصوير الحياة الاجتماعية وإبراز أوجه التضاد في الهيئات والأحوال والسلوك، وقد قدّم لهذا النوع من الأدب بمقدمة في الديوان عنونها ب»ليس اعتذاراً»، كما كتب عبارة إهداء في بداية الديوان لها مدلولها النفسي والفني وهي «إلى السادة المكشرين.. ابتسموا.. فإنكم لن تخسروا إلا تجاعيدكم!». وبعد السبع نجد بعض الاهتمامات بالشعر الساخر من قبل بعض الشعراء، صحيح أنها لا ترقى إلى مستوى اهتمام القنديل والسبع من حيث الكثرة وإفراد الديوان المستقل بالسخرية، ولكنها أكثر تميزاً من التجارب الشعرية الأخرى التي لم يبرزها أصحابها في عناوين مستقلة تدل عليها، يظهر ذلك عند الشاعرين ناصر الزهراني وخليل الفزيع. فللزهراني كتاب عنوانه «قصائد ضاحكة» ابتدأه بتمهيد طويل عن الضحك ومرادفاته وموقف الإسلام منه، ثم أتبعه بذكر قصائد ضاحكة للعديد من الشعراء السعوديين وغيرهم، ولكنه استهلها بأحد عشر نصاً شعرياً له هو. وأما الفزيع فقد جمع أربع نصوص شعرية في آخر ديوانه «للمليحة ينهمر الحنين» تحت عنوان رئيس هو «قصائد ضاحكة»، وقد قدم لهذه النصوص بمقدمة عبر فيها عن موقفه تجاه هذا النوع من الشعر إذ يقول: «للشعر الضاحك هواته ومحبوه، وهو وسيلة من وسائل التخفيف من المعاناة الشديدة التي تسببها ظروف الحياة، وقد صدر مؤخراً ديوان (ركلات ترجيح).. للشاعر حسن السبع، ويضم مجموعة من القصائد والمقطوعات الضاحكة، جديرة بالاهتمام لقلة هذا النوع من الشعر في أدبنا المحلي، وأهدي لشاعرنا السبع هذه القصيدة مساندة لتوجهه الجريء». لقد تجاوز عدد الشعراء الذين عنيت بهم هذه الدراسة أكثر من خمسة وعشرين شاعراً، كان منهم المكثر كقنديل والسبع، وكان منهم من أجاد السخرية ولكن لم يكثر منها مثل السابقَيْن كالقصيبي وحسين سرحان وناصر الزهراني وعبدالمحسن حليت وحسن الصيرفي، كما كان منهم من ظهرت السخرية في قصائد قليلة أو قصيدة وحيدة عنده كمحمد عواد ومحمد فقي وأحمد عبدالغفور عطار وغيرهم. - أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية يتبع